النظام الأسدي يصدر الأزمة إلى دول الجوار ويستفيد من سياسة ‘فرق تسد’ ليحول ثورة الشعب إلى حرب أهلية خدمة لمصلحته.
العرب :: بدرالدين عرودكي [نُشر في 13/02/2014، العدد: 9468، ص(7)]
ينطلق مؤلفو كتاب “لا ربيع لسوريا” من أسئلة جوهرية لفهم الأزمة السورية، إذ كيف حدث أنَّ ستة أشهر من المظاهرات السلمية في طول البلاد وعرضها ثم ما يقرب من ثلاثين شهرا من نضال مسلح نادر الضراوة لم تؤدِّ إلى النتيجة نفسها التي أدت إليها الاحتجاجات السلمية التي قام بها ثوار تونس أو مصر أو ليبيا؟ وكيف استطاع النظام الثبات والبقاء؟
مئات المقالات والدراسات والتحليلات كتبت حول الأزمة السورية، خلال السنوات الثلاث الماضية ولا تزال تكتب. وعشرات الكتب أيضا. قليل منها ما عكس فهما دقيقا أو بصيرا للبلد وخصوصا لنظامه الذي استملك سوريا منذ نيف وأربعة عقود استملاكا عائليا محضا، جاعلا منها إقطاعية خاصة به.
ومؤخرا، صدر كتاب “لا ربيع لسوريا” شارك فيه أكثر من ثلاثين باحثا وكاتبا في مختلف فروع العلوم الاجتماعية ممن عملوا مع أو بالقرب من المعهد الفرنسي لدراسات الشرق الأدنى، فرنسيين أو سوريين. يحاول المؤلّفون من خلال قسمين، الأول عن صناعة الحرب الأهلية، ويقع في ستة عشر فصلا، والثاني عن الأزمة المُصدَّرة ويقع في عشرة فصول، لتقدم هذه الفصول مفاتيح لما يبدو عسيرا على الفهم إن حسنت النوايا حول الملف السوري.
هذه المفاتيح ضروري تقديمها للقارئ الفرنسي خصوصا وللأوروبي عموما قبل أية مقاربة لواقع الحراك الثوري في سوريا ومآلاته، ومن أهمها: خصوصية الوضع الداخلي السوري أولا، ثم الإقليمي والدولي بعد ذلك. ومن دون التقليل من أهمية “العدوى” بين ضروب الحراك الثوري في تونس ومصر وليبيا، لابد من التأكيد على الأسباب الداخلية للثورة السورية التي لا صلة لها بالميليشيا الجهادية الممولة من قبل قطر.
أطروحة المؤامرة
“في ظل هذا الحل الأمني سوف يوجه النظام سياسته نحو طريقيْن يعتمدان استراتيجية متماسكة في المجاليْن الإعلامي والميداني”
منذ البداية عمل النظام في الداخل على الترويج لأطروحة عقاب يطاله عبر الجهاديين الأصوليين وينزله به الغربُ الإمبريالي لتحالفه مع إيران وحزب الله من أجل مقاومة النظام الإقليمي الإسرائيلي الأميركي. وجدت تلك الأطروحة قبولا لدى رجال النظام ولاسيما من كانوا بانتماءاتهم الجغرافية أو الطائفية يؤلفون الأكثرية الساحقة في الدوائر الأمنية أو في مراكز القيادات المختلفة في الجيش أو في مختلف المؤسّسات الأخرى. ومن هنا كان الردُّ المباشر عبر الحلّ الأمني والعنف غير المسبوق الذي استخدمه النظام في الرد على ثورة الشعب السوري.
القاعدة الأساس في هذه السياسة قاعدة استعمارية قديمة أعيدت صياغتها. فبدلا من فرِّق تسُد، فرِّق تبقى! وصيغ أخرى أيضا: حافِظْ على الشكل وافعل ما شئت بالمضمون!. مظهر دولة ديمقراطية لا غبار عليها من حيث وجود المؤسسات وفصل السلطات ووجود الأحزاب.. إلخ، لكنها دولة علمانية ظاهرا من ناحية وممارسات طائفية تتستر وراءها من ناحية أخرى.
يشير فلاديمير غلاسمان، في الفصل المخصص لمصادر النظام الأمنية، إلى أن أحداث حماة عام 1982 هي التي أدت إلى انقلاب واضح في وظيفة البنى الأساسية في النظام. فبعد أن كان حزب البعث قائد الدولة والمجتمع، صارت الدوائر الأمنية بفروعها الأساسية تقوم بهذه الوظيفة على نحو لم تعرفه من قبل إلا الدول ذات النظام الشمولي، بل ربما تجاوزته، إذ بلغ عدد موظفيها الدائمين حوالي 65000 ومئات الألوف من العاملين جزئيا، بحيث يمكن القول إن هناك موظفا لكل 257 مواطنا بصورة عامة أو موظفا لكل 153 من المواطنين الذين تجاوزت أعمارهم خمسة عشر عاما! وقد تجلى تهميش دور الحزب في غياب انعقاد أي مؤتمر له بين عامي 1985 و2000. وفي هذه السنة الأخيرة دعي للاجتماع فقط ليقترح وليصادق على تسمية وريث مؤسس هذا النظام أمينا عاما قطريا للحزب!
“لا ربيع لسوريا” كتاب خطط له وأشرف عليه فرانسوا بورغا، مدير أبحاث في المركز الوطني للبحث العلمي الذي كان إلى أبريل 2013 يدير معهد الدراسات العربية في الشرق الأدنى من دمشق ثم من بيروت، وبرونو باولي، اللغوي ومدير الدائرة العلمية “الدراسات العربية القروسطية والحديثة” في المعهد الفرنسي المشار إليه أيضا.
ومع تحديد مهمات الدوائر الأمنية اعتبارا من عام 1982، تمت إعادة تركيز مهمة الجيش على الدور الذي يفترض بالحرس الجمهوري القيام به. صارت المهمة لا الدفاع عن الأراضي بل عن النظام وحده. ذلك ما سيتجلى اعتبارا من خريف 2011، عندما عهد إلى الجيش العمل جنبا إلى جنب مع الدوائر الأمنية على اختلافها، على قمع الثورة بالوسائل كلها وبلا استثناء.
ما كان لذلك كله أن يظهر للعيان لولا الثورة. وما كان كذلك لكل ما حاول النظام قمعه والقضاء عليه من محاولات حثيثة لبناء أسس مجتمع مدني ونضال سلمي أن يترعرع في ظله وأن يظهر على الملأ لولا الثورة.
أكبر مثلٍ على ذلك جماعة شباب داريا الذين يفرد لهم الكتاب فصلا كاملا كتبته كارولين دوناتي. كان الشاب غياث مطر (وقد قضى شهيدا في سجون النظام إبان بدايات الحراك السلمي في سوريا)، قد تعلم الاستنفار السلمي في بيئته، وهي بيئة استوحت في مقاومتها للنظام منهجا ضمن إطار تفكير ديني منفتح اعتبارا من نهاية سنوات 1990 قام على إعادة قراءة المسلمات الدينية في ضوء التجديد من ناحية والنقد من ناحية أخرى. كان ذلك يتم في مسجد أنس بن مالك بداريا تحت إشراف إمامه عبد الكريم السقا، وبوحي من معلمه القديم جودت سعيد، رسول اللاعنف والنقد الذاتي، الذي كانت تعاليمه تسود جلسات الشباب في المسجد طوال سنين.
الشعارات والأغاني.. سلاح
لم يفت المشرفان على الكتاب، فرنسوا بورغا وبرونو باولي، أن يكرِّسا فصلين يبينان من خلالهما المعنى الأعمق لما حدث ويحدث في سوريا، في ما وراء التوصيف الذي أعطي له في فصول مختلفة: أزمة، مأساة، حرب عنيفة.. إلخ.
أولهما فصل كتباه مع جمال شحيد ومانويل سارتوري، يستعيد الشعارات والصيغ التي رفعها المتظاهرون أو هتفوا بها في أرجاء سوريا كلها ويسجل منها نيفا ومائة تندرج جميعها في ما يمكن اعتباره توصيفا كاملا للثورة في سوريا بما انطوت عليه من قوة سياسية تقول مبادئ الثورة ومعانيها وأهدافها، بدءا من الشعار الذي تبناه الثوار في مختلف البلدان العربية “الشعب يريد إسقاط النظام”، وليس انتهاءا بشعار “الأموات يريدون إسقاط النظام!”.
وحسنا فعل مؤلفو الفصل إذ صنفوا مختارات من هذه الشعارات تحت عناوين شديدة الدلالة: سوريون قبل كل شيء؛ (واحد، واحد، واحد، الشعب السوري واحد)، ضد التقسيم والطائفية؛ (نحنا بدنا حرية، إسلام ومسيحية/ أو: دروز وعلوية)، تضمن المدن الثائرة؛ (من القامشلي لحوران، الشعب السوري ما بينهان)، السلميّة؛ (سلميّة، سلميّة)، الجيش معنا؛ (يا جيش يا حبيب/ خلي سلاحك لتل أبيب)، أو للهجوم على الجولان المحتل؛ (أسد في لبنان وأرنب في الجولان)، الحرية؛ (الله، سوريا، حرية وبس)، العدالة؛ (شب وشبة، أنا مع القانون)، ضد الطغيان؛ (ما بيتآمر عالبلاد إلا حكم الاستبداد)…
هذه الشعارات غيض من فيض لم يتح للجمهور الغربي الاطلاع عليها ولا معرفة المعاني العميقة التي تنطوي عليها ثورة الشعب السوري والتي تقف على النقيض مما أراد النظام السوري تسويقه في الغرب على أنها مجرد مؤامرة يقوم بها تكفيريون أو إرهابيون بأوامر غربية وبتمويل خليجي!
ثاني الفصليْن كتبه سيمون دوبوا مشيرا منذ البداية إلى أن “المحتجين السوريين برهنوا منذ المظاهرات الأولى على قدرة إبداعية ممتازة في مجال أدوات النضال” ولاسيما الأغنية. وأشار إلى وجود أكثر من مائتي أغنية بين نهاية أبريل 2011 ومنتصف مارس 2012، تندرج ضمن التقاليد الفنية السورية الكلاسيكية بعد أن استعيدت بفعل الثورة ولبست معانيها بصورة أو بأخرى، ومنها بالطبع أغاني إبراهيم القاشوش الذي دخل حَرَمَ شهداء الثورة وصار اسمه رمز النضال السلمي.
“الأزمة المصدرة”
وفي القسم الثاني، الذي حمل عنوان “الأزمة المُصَدَّرَة”، يعالج الكتاب آثار الحدث السوري في البلدان المجاورة التي باتت شأنها شأن القوى الكبرى فاعلة بهذا القدر أو ذاك في سوريا.
لبنان وما يعانيه من انقسام بين مؤيد للنظام السوري، على غرار حزب الله الذي انخرط ماديا في مواجهة الثوار السوريين، ونصيرٍ للثورة السوريا، من خلال العديد من الأطياف اللبنانية، الأمر الذي يزيد من صعوبة الأزمة الحكومية في لبنان فضلا عن الأزمة الاقتصادية والأمنية فيه.
والأزمة تمتدّ إلى فلسطين التي تتمزق بين الضفة الغربية وغزة، وبين الشعب وقادته؛ والعراق المنقسم، بين شيعة مؤيدة للنظام وسنة تقف ضده، والأردن الذي يحاول الموازنة حسب موقعه بين متطلبات البقاء ومتطلبات الضغوط المحلية والإقليمية والدولية.
“استمرار الوضع في سوريا على ما هو عليه اليوم وخلافا للتوقعات الأولى يشكل كابوسا مخيفا بالنسبة إلى حكومة حزب العدالة والتنمية التركي”
أما إيران فقد صارت جزءا لا يتجزأ من الأزمة السورية؛ إذ بعد أن تضامنت مع الثورات العربية في تونس ومصر واليمن سرعان ما قلبت ظهر المجن عند انطلاق الثورة في سوريا معلنة تضامنها مع النظام السوري وعاملة على تعزيز قدراته الاقتصادية والعسكرية والتعبوية من أجل قمع الثورة بشتى الوسائل.
وتركيا، التي فوجئت بالثورات العربية في تونس ومصر خصوصا، ثم تبنت موضوعيا خيارات حليفها الأميركي تجاه هذين البلدين، والتي تعثرت مواقفها في البداية من الثورة في ليبيا بسبب العلاقات الحميمة التي كانت قائمة مع نظام القذافي ثم انضمت بصعوبة شديدة إلى التدخل الغربي، كانت سوريا بالنسبة إليها همّا متعدد الأبعاد: الحدود، والأكراد، وعلويي أنطاكية خصوصا، ولا سيما بعد أن اضطرت الحكومة التركية إلى الابتعاد بحسم عن النظام السوري وإدانته بشدة، داعمة أطياف المعارضة بشتى الوسائل، ومستمرة في استقبال أعدادٍ متزايدةٍ من المهاجرين السوريين الذين خصصت لرعايتهم ميزانية سنوية قدرت عام 2013 بمائتي مليون يورو.
يبقى أن استمرار الوضع في سوريا على ما هو عليه اليوم وخلافا للتوقعات الأولى يشكل كابوسا مخيفا بالنسبة إلى حكومة حزب العدالة والتنمية التركي لاسيما وأنه سيواجه استحقاقات انتخابية عام 2014.
لا تتجلى أهمية هذا الكتاب الذي استعرضنا هنا بعض فصوله الهامة في كمّ المعلومات أو في الشهادات وعمق التحليلات التي تناولت مختلف جوانب الحدث السوري على امتداد سنتين ونصف السنة، ولا في كونه أول وأشمل كتاب من نوعه ظهر منذ أن تتالت الكتب حول الربيع العربي والحراك الثوري في دوله فحسب، بل كذلك في كونه يجمع حصيلة ما امتلكه الباحثون الذين شاركوا في تحريره من خبرة عميقة بالمجتمع السوري ونظامه السياسي القائم منذ نيف وأربعين عاما.