سنة 323.ق.م, مات الإسكندر المقدوني(اليوناني) في أوج شبابه وكما اتسعت رقعة مملكته بسرعة الريح سقطت أيضا بسرعة البرق ذلك أن سريع النمو سريع الموت وسريع الاختراق سريع الانكشاف أو من السهل كشفه بأبسط وسائل الحس الأمني, وكان سقوط الإسكندر وموته يعتبر أول مرة يتدخل فيها العالم الغربي بالعالم الشرقي وانقسمت مملكة الإسكندر بين البطالسة نسبة إلى القائد بطليموس وهو من كبار ضباط الجيش المقدوني الذي تقاسم ميراث الإسكندر مع ( سلوقس) وهو ما عرف فيما بعد البطالسة والسلاجقة, وكانت منطقة الشرق الأوسط والأدنى تقع مرة بين يدي السلاجقة ومرة بين يدي البطالسة وكانت منطقة نفوذ اليهود في القدس تقع تارة بين البطالسة وتارة بيد السلاجقة وغالبا ما كانت تقع بيد البطالسة, الأمر الذي أدى باليهود لثاني مرة بالتاريخ بعد الفراعنة ليكونوا مرة تحت سلطة محتل أجنبي مؤقت ومحتل أجنبي دائم, ولكن أهم ما كان يميز الحياة الدينية في الهيكل طيلة كل تلك الفترة من سنة 323 قبل الميلاد إلى سنة172 قبل الميلاد أن الإدارة الدينية والاجتماعية لم يكن لا السلاجقة مهتمون بها ولا البطالسة بل كانت عبارة عن ما من الممكن أن نسميه اليوم حكما ذاتيا خاصا باليهود شريطة أن يحل الإله زيوس محل الله نفسه..وأن جميع مناطق نفوذ اليونان( السلاجقة والبطالسة) كانت كلها عبارة عن مناطق حكم ذاتي تحكم كل منطقة نفسها بنفسها بواسطة الكُهان وشيوخ وزعماء القبائل والقرى المجاورة أصحاب المشتركات الزراعية المتقدمة أكثر من البدائية.
ورغم أن أحبار اليهود وكهانهم كانوا يديرون أنفسهم ويحكمونها ذاتيا إلا أن ( مكابي) وهو أحد الأحبار قام مع مجموعة من اليهود المتحمسين بطرد اليونان أو لنقل أنه قام لثاني مرة في التاريخ بعد سيدنا موسى بتشكيل ثورة مضادة لتخليص اليهود من سلطة المستعمر ولكن بدل أن يهرب باليهود كما هرب بهم موسى من مصر إلى أرض الآباء والأجداد قام بثورة أو بمعركة على أرضه وجمهوره وأجبر اليونان بثورته المكابية على مغادرة آخر معاقلهم من الشرق الأوسط وبداية من بلاد الشام بأكملها الأمر الذي أدى باليهود للإحساس أن الله يقاتل مع المتقين وبأنهم ربحوا المعركة على أرضهم وجمهورهم وبأن الدين السماوي انتصر على عبادة الكهان الذين جعلوا عبادة الإله ( زيوس) عبادة رسمية في معظم الأديرة الدينية في الشرق الأوسط مع حفاظهم على حق الشعوب المغلوبة بإدارة أنفسهم وانهزم زيوس وجنوده وبقي الله الواحد الأحد لا يعبد سواه في بلادنا, وبقي هذا الوضع مستمرا حتى سنة 63 قبل الميلاد حيث ظهرت في العالم قوة ضاربة من جديد مهيمنة ولها سياسة كولانية استعمارية تتدخل بكل صغيرة وكبيرة ولا تعترف بحق تقرير المصير أو الحكم الذاتي وهي الجمهورية الرومانية قبل أن تصبح إمبراطورية تحكم العالم كله, في أثناء هذه الفترة تشكلت جماعتين يهوديتين بحكم طبيعة استحقاقات المرحلة واحدة تعرف باسم( الصدوقيين) وأخرى تعرف باسم ( الفريزيون) أو كما هو متعارف عليهم( الفريسيون, وكان لكل جماعة دينية وجهة نظر مختلفة عن الله, وعن الحياة والمجتمع ونظرتها للفرد, لقد كان الصدوقيون أصحاب شعار ( اهتم بنفسك وشوف مصلحتك وين) أو كما تقول عامة الناس اليوم( حط راسك بين الروس وقول يا قطاع الروس) وأهملوا الحياة الروحانية الدينية ووضعوا مصلحتهم فوق مصلحة الجماعة وقدموا مصلحتهم على الله نفسه حيث وضعوا مصلحتهم أمام مصلحة الله ومشوا كما يريد المستعمر الأجنبي, بينما الفريسيون اعتزلوا الدنيا ومتاعها واهتموا بالحياة الروحانية ووضعوا الله أمام كل المصالح الفردية والجماعية ومخافة الله فوق كل اعتبار وهنا كانت مشكلة المسيح برمتها ومن هنا بدأ مشوار الألف ميل من أول خطواته, وبما أن الصدوقيون لم يحافظوا على الحياة الروحانية ووضعوا مصلحتهم أمام الله وقدموها عليه لهذا السبب وقعت أنظار الرومان عليهم وتم من خلالهم تشكيل جماعات الحكم الدينية التي تحكم وترسم وفق ما تخططه لهم السياسة الدولية, بينما جاء اسم الفريسيون كما هو مشتق بالعربية من أسم ( الفريزيون) أي الجماعة الذي فرزوا أنفسهم واعتزلوا الحياة السياسية وأقبلوا على الحياة الدينية, ومع مرور الزمن انقرض الذين قدموا مصلحتهم ووضعوها أمام مصلحة الله واختفوا عبر ممرات التاريخ بينما ما زال الفريسيون إلى اليوم قائمون محافظون على دينهم وهم ما يعرف اليوم باسم( الجماعة الأرثوذوكسية الشرقية اليهودية).
في خضم هذا الجو المعتم من بيع الدين مقابل الدنيا اشترط الرومان على الأحبار اليهود أن يقدموا لهم المال مقابل السماح لهم بأن يكون حكام وزعماء دينيين صوريين أي شكلا وليس مضمونا, الأمر الذي دفع بهؤلاء الأحبار بأن يمارسوا التجارة في بيت الرب وبالذات في ساحة أو باحة الهيكل وكانوا أحيانا ما يتقاضون اتعابا من التجار من تحت السجادة وأحيانا يكونون هم أصحاب التجارة والتجار موظفون عندهم, وبالنسبة للرومان كان الموضوع عبارة عن ( فخار يكسر بعضه) أهم شيء المصاري, في هذه الفترة ظهر الحبر( حنان) وكان أبناءه الخمسة كهان مثله ما عدا ( قيافة) الذي كان دخيلا على الأسرة وبما نه تزوج من ابنة ( حنّان) فقد أصبح هو الحبر الأعظم شكلا وليس مضمونا بينما كان حنان هو الحبر الأعظم ولكنه يحكم ويرسم بما تمليه عليه أوامر الرومان والتي أصبحت مع بداية ظهور المسيح تتحول من النظام الجمهوري إلى النظام الإمبراطوري.
والآن جاء المسيح ليقلب الطاولة على بطن قيافة ( القيافة) وعلى بطن حنّان) فرأى بيت الرب تحول من عبادة الله إلى عبادة الأشخاص ورأى لصوصا يسرقون مال الفقراء ويقدمونه بين يدي قادة الجيش الروماني وتحول معبد الرب إلى مغارة لصوص والكهان الصدوقيون إلى تجار يضعون مصالحهم أمام مصلحة الله نفسه, استاء وغضب وعظم شأنه, حتى بدأ يجوب الأودية والقرى ويصنع الخير والمعجزات, فالتف إليه رجال ونساء خلفيتهم الثقافية فريزية أكثر منها صدوقية, وإذا كان العالم الأوروبي أنذاك مقسوما بين أفلاطون المثالي وأرسطوطاليس المادي فقد كان اليهود مقسومون بين الفريسيين وبين الصدوقيين, جماعة دنيوية تبيع الدنيا وما فيها من أجل مصلحتها وجماعة أخرى تفضل أن تموت من أجل قضيتها, جماعة تبيع النضال والكفاح والبطولات بكرسي وجماعة لا تبيع مصالح الفقراء حتى لو أعطوهم كنوز الدنيا مما أدى بالنهاية للقبض على المسيح من قبل جماعات دينية صدوقية لمصلحة الرومان ولمصلحتهم التي يقدمونها على مصلحة الله.
ولا ننسى أن فلسطين + القدس كانت منقسمة اقتصاديا بين جماعتين لكل واحدة منها طريقتها في الحياة الاقتصادية, واحدة رعوية وأخرى زراعية, أما الرعوية فقد كانت من بقايا اليهود الأصليين وبالذات الفريسيين أما الجماعة الأخرى فقد كانت كنعانية تعتمد في أسلوب حياتها الاقتصادي على الزراعة بدل الرعي, ومن هذين المجتمعين نشأت جماعتين مختلفتين في أسلوب التفكير, فالذين مارسوا الزراعة وخبروها كانوا يؤمنون بأن الموت والبعث من جديد هو اسلوب حياة يتكرر كل سنة عبر الفصول الأربعة حيث الأمطار والزراعة ونمو المزروعات ومن ثم فصل الصيف وموت اللون الأخضر ومن ثم العودة للحياة مجددا في فصل الشتاء والربيع, وهنا تكمن أهمية ايمان تلك الجماعات بإله يموت ويقوم من موته كما تموت أوراق الشجر وكما تموت حبوب القمح والشعير وتعود من جديد, وكانت سائدة أنذاك ثقافة عشتار ورحلتها إلى العالم السفلي وعودة وموت وعودة ومن ثم موت وعودة للإله تموز( دموزي) وموت وبعث ( أدونيس)…إلخ, لذلك ليس من الغريب والمستبعد أن يموت المسيح بنظرهم ويقوم من الموت, أما الرعويون فقد جعلتهم حياة الرعي في الصحراء غير مؤمنين بهذه العبادات ووصفوها بالوثنية وبأن الله غضب على مملكة سليمان بعد أن خلط سليمان عليه السلام الثقافة الرعوية بالثقافة الكنعانية وحول اليهود من رعاة إلى مزارعين ومن الطبيعي مع هذا التحول الاقتصادي أن يطرأ عليه تحولا ثقافيا وتختلف النظرة بسببها لله, حيث الرعويون لا يؤمنون بإله يموت ويبعث بينما المزارعون بالنسبة لهم عقيدة اساسية وثابته تترسخ في أذهانهم من خلال موت المزروعات وبعثها.
نتعلم من هذا الدرس أن الذي يضع مصلحته أمام مصلحة الله مثل الصدوقيين يموت ويتلاشى مع الزمن بينما الذي يضع مصلحة الله ومخافة الله بين عيونه يعيش للأبد كما عاش الأسينيون وكما عاش إلى اليوم الفريسيون, الصدوقيون نجدهم اليوم في بعض الأحزاب السياسية ومؤسسات المجتمع المدني والوظائف الحكومية وكبار البيرقراطيين الذين يرون الفساد ولا يقفون في وجهه ويقولون: ( شدو دخلنا أهم شيء مصلحتنا) أو ( بدنا نعيش) أو ( طنش تعش تنتعش) أو ( خليني أدبر حالي مالني ومال غيري), الصدوقيون اليوم رؤساء جمهوريات أكثر منهم كهنة وكَتَبة وشماسين, الصدوقيون اليوم في كل مكان وفي كل زمان شاهد على العصر الذي نحن فيه..لقد كان المسيح ثورة على الظلم والجوع والاضطهاد والكذب والمتاجرة بالدين كما هي اليوم حالة الشيوخ في بعض المساجد وبعض الكنائس الذين يضعون ويقدمون مصلحتهم على الله, الذين لا يهتمون بالحياة الروحانية ولا يؤثرونها على أنفسهم, والفارق هنا بين الإنجيل والقرآن الكريم هو أن القرآن اهتم باللغة وبالفصاحة وبالبلاغة لأنها كانت طريقة جذب والكل يتسابق على إبتزاز الآخر بقوة فصاحته لذلك حافظ القرآن على اللغة العربية رغم العثرات التي مرت على المسلمين بينما كانت الأناجيل الأربعة تهتم فقط بالمحتوى ولا تهمه اللغة في شيء لذلك اندثرت لغة السريان ولم يحافظ عليها الإنجيل لأن الإنجيل كان مهتما بشيء في نظره أهم من اللغة والفصاحة بينما حافظت العربية على مكانتها, وانتصر كل من يقدم مصلحة الله على مصلحتة الشخصية وأثبتت تلك التجربة أن الذي يبيع قضيته بكرسي كيهوذى الأسخريوطي والصدوقيين مصيره ونهايته الخزي والعار وبأن الذي يقدم مصلحة الله على مصالحه هو يعيش إلى الأبد, كان بالمسيح بحق رائعا جدا حينما قلب هذا الصبي ابن المرأة المفاهيم كلها وعلمنا بأن الله الذي تجلى لموسى بروحه في الشجرة ليس من الغريب أن تحل روحه في ناسوته, أي أن تحل روح الله في جسد المسيح ابن مريم, وأن الذي خلق آدم من غير أم ولا أب ليس من المستبعد أن يخلق المسيح الإله من أم بدون أب, وبما أن الله وضع روحه في آدم ونفخ فيه من روحه ليس من الغريب أن يضع روحه في المسيح وأيضا ليس من الغريب على هذه الروح أن تصنع المعجزات التي يصنعها الله, وبما أن الثقافة السائدة أيام المسيح لم تكن مهتمة باللغة وبالبديع وبالاستعارات المكنية والتطبيقية فقد كان جل الاهتمام ليس في اللغة وإنما في شفاء الإنسان وعلاجه, وبالتالي الفرق بين الإسلام والمسيحية ليس كبيرا فطالما أن القرآن الكريم كلام الله واعتبره المعتزلة مخلوقا فليس من الغريب أن تكون كلمة الله في الوعاء الذي حمل يسوع تجعل منه إلها فاديا ومخلصا للناس من الظلم, إله ليس له لغة معينة بل كل لغات العالم لغته وكل قضايا العالم قضيتها طالما أن العدو الأساسي للإنسان هو الأمراض والفقر والبطالة والجوع, وحاجة الناس الماسة إلى من يموت عنهم ويفتديهم لا من يبيعهم للرومان, كان المسيح وما زال إلى اليوم يصنع المعجزات, والفرق الأخير بين المسيحية والإسلام هو فقط بالشرح والتبسيط وهو ليس عقائديا وإنما الفرق فقط 5 دقائق, وما زال جبل الطوبات شاهدا على أن المسيح لا يقدم مصلحته على مصلحة الله وبأن الله نصير الفقراء والمحتاجين وأنه سيكون من بعده لجماعته ضيق شديد وذلك لمعرفة الله أنه في كل زمن هنالك فريسيون يهتمون بالحياة الروحية وصدوقيون يهتمون بحياتهم فقط على مبدأ (100 عين تدمع ولا تدمع عيني…و حط راسك بين الروس وقول يا قطاع الروس وشوف مصلحتك وين) بينما ما زال بيننا مسيحيون مخلصون جدا مثل الفريسيين يهتمون بنا كمرضى وفقراء ومحتاجين وشعارهم ( افعل خيرا وارمي بالبحر) و( جعل لا حدا حوش) أهم شيء والركيزة الأساسية في دين الله هو أن : ( رأس الحكمة مخافة الله) وليست مخافة الحكام, وألهب يسوع مشاعر كافة الفنانين والأدباء والشعراء على مر التاريخ وتحولا رمزا لقصة الفداء ولقصة كل من يثور على المفسدين والجهلة الذين يبيعون أهلهم وأنفسهم وضمائرهم من أجل إرضاء حفنة من المتنفذين الذين همهم الأول جمع الثروات والذهب والفضة وأكياس المال وصارت شخصية المسيح معروفة لدى العالم كله وما زال كل شعب من شعوب العالم يرسم للمسيح صورة تناسب لونه إن كان اسودا فاسود وإن كان أبيضا فأبيض, فلا بأس في اللون طالما أن هنالك في كل مجتمع جماعة تقدم مصلحتها على الله نفسه وجماعة أخرى تقدم الله على كل مصلحتها, جماعة ترى مصلحتها فوق كل اعتبار وجماعة ترى مصلحة الله فوق كل اعتبار, إلا أننا في النهاية حين نتحدث عن هذه الظاهرة نكون نتحدث عن شيء مثالي لا يوجد مثله على أرض الواقع الأمر الذي دفع بمسرحية( بانتظار غوده) أن تكون رمزا للبطل الذي لم يظهر على خشبة المسرح, أي أن الانسان الذي يخلصنا من عذابنا ويضع مخافة الله بين عيونه هو مجرد حلم…حلم…من المستحيل أن يتحقق, رغم أنه ظهر على فترة من التاريخ وقلب الطاولة على بطن الصدوقيين وسحب السجادة من تحت أقدامهم.