لقد استطاع العلويون أن يتجنبوا الكثير الكثير من قباحة الإسلام برفضهم القطعي للأحاديث وللسنة، وبزعمهم أن للقرآن قراءة باطنية تختلف عن القراءة الحرفية له, هم بزعمهم هذا استطاعوا أن يفروا من قباحة القرآن أيضا
إنها حقيقة مثبتة في علم النفس! اللاوعي يصدق ما تخبره به ولا يميّز بين الوهم والحقيقية, لذلك، اللاوعي عند العلويين اقتنع بأن للقرآن قراءة باطنية، وهي قراءة مقبولة روحانيا وأخلاقيا، حتى وإن كانت مجرد وهم! نعم أنها مجرد وهم، إذ لا يمكن أن تقرأ عبارة “فضرب الرقاب” قراءة باطنية روحانية، ولكن هذا الوهم ترك آثارا طيبة في اللاوعي عند من يؤمن به.
…..
العلويون يؤمنون بالقرآن اسما، وليس مضمونا, ليسوا مهوسين بقراءته، ولا يعتبرون قراءته فرضا, خلاصة القول بهذا الخصوص: أنا لست فخورة بما علمني اياه العلويون بقدر ما أنا فخورة بما لم يعلموني اياه، والذي استطاعوا أن يتجاوزوه في بيوتهم رغم فرضه قسرا من قبل الأكثرية في المرافق العامة, فأنت لست ماتعلمت وحسب، بل أنت مالم تتعلم أيضا، إذ أن غياب الشر لا يقل أهمية عن حضور الخير!
لقد حشو أدمغتنا في المدارس بأن خالد بن الوليد كان من الصحابة الطاهرين، وفي البيت كنا نتعلم أنه مجرم وزنديق، وجاء عصر الانترنت ليكشف حقيقته كما تعلمتها في البيت, في البيت كنا نقرأ نهج البلاغة، ولم نقرأ فيه يوما بأن عليا قد قطع رأس تسعمائة شخص من بني قريظة وسبى أطفالهم وهتك أعراض نسائهم، والتي هي موثقة فقط في المراجع الاسلامية العامة!
غياب هذا الجانب المظلم من شخصية علي مما تعلمناه عن حياته جنبنا الكثير من قباحة الإسلام
بالإضافة إلى حقيقة أخرى، حقيقة لا أحد يستطيع أن ينكرها وهي أن عليا كان ولم يزل من أكبر المفكرين الذين مروا في تاريخ المنطقة, ولو حمل القرآن بعضا من عظمة نهج البلاغة، عظمته اللغوية والفكرية، لم وصل المسلمون عموما إلى هذا المستوى من الحضيض!!
………..
عادات العلويين وتقاليدهم عبارة عن مزيج من كل الأديان والفلسفات التي مرت في المنطقةأهم ثلاثة افكار تشكل صلب عقيدتهم:
فكرة أن الله تجسد في علي، وهي مأخوذة من المسيحية
وأنا شخصيا لا أرى فيها أي خلل، لأنني اؤمن ايمانا قطعيا أن تلك القوة الكونية الهائلة تتجسد في أي شخص في لحظة تجلي ما من حياته، لحظة يكون فيها ذاته العليا، ولقد كان عليّ ذاته العليا في مئات من أقواله، كما كان المسيح
(“هذه الفكرة ستقرأها بالتفصيل في الفصول القادمة من كتابي “دليلك إلى حياة مقدسة)
…………………………..
في الكتاب الرائع ( قوة الخرافة)
The power of Myth
يسأل المحاور بيل مويرز الفيلسوف الأمريكي جوزيف كامبيل: هل الخرافة كذبة؟
يرد الفيلسوف: لا لا أبدا….إنها الطريقة الأسهل استيعابا للتعبير عن الحقيقة؟
قد تكون ممن يؤمنون أن فكرة التجسد خرافة، ولكن ليس لدي شك لو حاولت أن تستوعبها لساهمت فلسفتها في توسيع مداركك، كما ساهمت في توسيع مداركي.
كنت ـ ولم أزل ـ أعتبر قصة بلع الحوت ليونس وبقائه في بطنه اسابيع خرافة لا تمت إلى الحقيقة بصلة, ولكن بعد أن قرأت
كيف اعطاها الفيلسوف كامبيل بعدا فلسفيا، صرت أكثر تقبلا لها، وليس أكثر ايمانا بها.
ليس شرطا أن تؤمن بما اؤمن، ولكنك ملزم كونيّا وأخلاقيا أن تقبلني كما اؤمن، طالما لا اُسيء بايماني إلى أحد.
……
من أجمل الذكريات وأكثرها شفافية وروحانية عن حياتي مع ستي أم علي كانت عندما كنا نجلس على شرفة منزلنا ونمعن النظر في القمر، وهو يرش ليراته الفضية على عروس البحر بينما تتماوج ليلا بدلال وغنج. كانت تقول لي ببراءة لا يشوبها خبث: انظري إلى القمر…امعني النظر…ماذا ترين؟؟؟ ألا ترين وجها بشريا؟؟؟ إنه وجه الإمام علي كرم الله وجهه.
هل مجنون فيكم يظن أن وفاء سلطان اليوم تؤمن بأن القمر هو الإمام علي؟؟؟ طبعا لا أتصور وجود هذا المجنون, ولكن أين الخلل في ايمان جدتي بأن مثلها الروحاني الأعلى متجسد في القمر؟؟؟
كانت جدتي أكثر بساطة من عشبة الجرجير، وكانت تظن أن العالم كله ينتهي عند حدود قريتها. لأنها ابنة ريف تعلقت بالمظاهر الطبيعية وراحت تربط رمزها الروحاني بأجمل تلك المظاهر، ألا وهو القمر. لا أحد يعرف سرّ هذا الربط، هل هو حبها للإمام علي أم حبها للقمر أم لكليهما معا؟؟؟؟
…………….
وفاء سلطان لا تقيّم اليوم أية فكرة إلا من خلال حقلها الطاقوي الذي يحدثه المعنى الكامن في الفكرة. ماذا تختلف فكرة جدتي عن فكرة أن المسيح ولد بلا دنس وجاء ليخلص الجنس البشري من آلامه؟؟؟ لا شيء
إذا اردنا أن نقيس الفكرتين وفقا لمقايس صارمة كجدول الضرب لا بد أن نرفض كليهما! لكن الحياة لغز، ولا نستطيع أن نقرأها فقط كما نقرأ جداول الضرب. لا بد أن نحترم حق العقل في أي يجنح للخيال، وحقه في أن يؤمن بما هو خارج تلك الجداول.
كلا الفكرتين جميلتان، وجمالهما يكمن في الطاقة الإيجابية التي يفرزها المعنى الكامن في كل منهما
تستطيع أن ترى وجه هيفاء وهبي في القمر لو أردت أن تراه، وليس من حق أحد أن يكذبك فالخرافة ليست كذبة، بل هي طريقة سلسلة للتعبير عن لغزية الحياة.
منذ أن علمتني جدتي أن أرى وجها بشريا في القمر وأنا أراه, ولكن تعددت الوجوه التي بت أراها، ولم تعد تقتصر على وجه واحد، وأبرز تلك الوجوه وجه ابنتي أنجيلا
…..
منذ أن علمتني جدتي فن التحديق وانا أحدق في كل مظهر من مظاهر الطبيعة وارى فيه جزءا من القوة السحرية التي تتجسد في كوننا العظيم
علمتني جدتي أن القمر يحمل وجه علي، ولم تعلمني أن عمرا كان يتنقل في سوق النخاسة ويبقبش أجساد السبايا ليرى من منهن تملك مؤخرة مبطبطة وثديين مستديرين، كي يختارها لنفسه. لذلك، خرجت إلى الحياة أعشق القمر وأعشق التحديق فيه بحثا عن وجه أحبه، ولم أخرج ملكة يمين
…….
دعيت مرة إلى عرس ربما كان من أفخم الأعراس التي رأيتها في حياتي أو ربما سمعت عنها. كان العرس لطبيب وطبيبة من أصول هندية هندوسية، واُقيم في منتجع في مدينة نيويورك. المائدة كانت ساحرة، ولم تحوِ طبقا واحدا مصنوعا من منتجات حيوانية، حتى قالب الكيك كان كقلعة كبيرة وكان مصنوعا بلا بيض وبلا زبدة.
المهم، بعد أن انتهت مراسيم العرس وزع المشرفون على العرس على كل ضيف موزة، وطلبوا منهم الخروج من إحدى بوابات القاعة إلى إحدى حدائق المنتجع، حيث كانت تجثم ثلاث بقرات على العشب الأخضر. قام كل ضيف بناءا على طلب المشرفين بالانحناء أثناء المرور أمام البقرات والقاء الموز لهن, أستطيع أن أجزم أن الحفل ضم أشخاصا من كل طائفة ودين على سطح الأرض، ولم يرفض أحد منهم فكرة المرور من أمام البقرات والإنحناء, ليس هذا وحسب، بل لم أرَ شخصا واحدا يتصرف بطريقة غير لائقة، بل بكل احترام.
أين الخلل في ذلك؟؟؟
هم يرون أن عظمة الخالق تتجسد في البقرة، والمسيحيون يؤمنون أنها تتجسد في المسيح, وستي أم علي تؤمن أن عليا يتجسد في القمر!
أين الخلل؟؟ كلها أفكار مسرفة في جمالها طالما لا تنتقص من أحد ولا تُسيء إلى حد, كلها أفكار تفرز طاقة ايجابية، طاقة تساهم في رفد الدفق الكوني الذي يسيّر دفة الحياة.
لولم يعرّج محمد على النار ويرى أكثرها نساءا، لقبلت فكرة اسراءه ومعراجه كما تقبلت فكرة جدتي أم علي عن القمر
ولكن؟؟؟
ولكن؟؟؟
هل يمكن أن أقبل فكرة شريرة تفرز طاقة سلبية تعرقل انسيابية الدفق الكوني باتجاه مساره؟
……………
أقسم لكم بأعز ما أملك عاشت ستي حتى قاربت المائة، وماتت لا تعرف شيئا عن العلوية، ناهيك عن الإسلام، إلا أن عليا متجسد في القمر؟؟؟ هل هناك دين على سطح الأرض أبرأ وأجمل من دين ستي؟؟؟
حاولت مرة ولأسابيع أن اعلمها الفاتحة. هي أمية ولا تجيد نطق اللغة الفصحى، لو سمعتها أم ثكلى فقدت طفلها لتوها وهي تردد الفاتحة لأغمي عليها من كثرة الضحك, ماتت جدتي لا تعرف الفاتحة، وهذا سرّ قدسيتها في نظري، يبدو أن روحها الطاهرة كانت ترفض أن تؤمن بوجود المغضوب عليهم والضالين، فالانسان يخسر قدسيته عندما يوصم شعبا بالمغضوب عليه والضالين، وكذلك عندما يوصمني بـ “بنصيريّتي” ويوصم نصيريتي بالالحاد والشرمطة!!!
….
كانت تعجن كل صباح وكنت ارافقها إلى الفرن كل يوم ومرة كل فترة كنت أرافقها مع عجينها إلى بيت ريفي يقع على مشارف
مدينة بانياس حيث ولدت وترعرعت. كان لصاحبة البيت تنور، وكانت ستي تحن إلى خبز التنور من حين لآخر, وبينما هي تغني موالها المحبب إلى قلبها “سكابا يادموع العين سكابا” وتلصق أرغفتها في بطن التنور، كنت أراقب لغة جسدها وأمتص طاقتها.
كانت تتوقف بين الحين والآخر عن زخ مواويلها لتقول لاحد المارة: (تفضل ياخي، خدلك رغيف خبز مشان الله) وكنا نعود وفي حوزتنا نصف الأرغفة.
اشتعلت مرة غضبا وصحت بها: لماذا تعطين نصف خبزنا للمارة؟ فشهقت وردت: (يا عين ستك الحياة رايحة، والانسان ما بياخد معو إلا الأرغفة التي أعطاها للناس)
………………
(لا تأخذ معك إلى قبرك إلا ماتعطيه)
ها أنا اليوم أعيش فلسفة ستي ام علي بحذافيرها، أعيشها بنفس الحرفية التي يطبّق بها داعشي قرآنه
نعم، كلنا متطرفون، ولكن كل بطريقته……
لا يبقى في بيتي إلا نصف ما أعجنه، هذا إذا بقي النصف، وعندما أضع جداول التوزيع لا أرى فرقا بين إنسان وآخر، لأنني نسيت سورة الفاتحة! ماتت جدتي ولم تصلّ يوما أو تصوم أو تقرأ القرآن, لم تحج في حياتها، ولم تدخل معبدا, ولكنها أعطت في مرات كثيرة نصف خبزنا للمارة، بالإضافة إلى أنها لم تتعلم سورة الفاتحة, وهذا وحده كفيل أن يكون جواز سفرها إلى ملكوت الله، لو كان هذا المكوت فعلا موجودا
وجواز سفري أيضا!
….
لم تمارس جدتي طقسا دينيا واحدا باستثناء اشعال البخور صباح كل جمعة, لا لسبب سوى رغبتها في أن تملأ البيت رائحة طيبّة تنعش الروح. سقطت تلك العادة من ذاكرتي عندما رحلت إلى أمريكا، لأكتشف لاحقا أن عادة اشعال البخور من أهم الطقوس الدينية لدى السكان الأصليين لأمريكا، الهنود الحمر، واكتشفت أن بالاسواق عشرات الأنواع التي تختلف باختلاف رائحتهأ، والتي لا يخلو بيتي منها يوما
كانت جدتي تشعل بخورا، وكان هنديّ أمريكيّ يشعله ايضا في الطرف الآخر للكرة الأرضية. لا أحد فيهما يعرف عن الآخر شيئا، لكنهما يمارسان نفس الطقس؟
ويطرح السؤال نفسه؟
ألسنا موصولين كونيا بشكل أو بآخر؟؟
ألسنا موصولين جميعا بنفس المركز الطاقوي الكوني؟؟
نعم، لقد كانت جدتي موصولة بصديقها الهندي الأحمر وكانا يتبادلان لغة غير محكية، ليس لدي شك!
……
لكن هذا المسلم الذي يشتمني بـ “نصيريتي” ويقرنها بالإلحاد والشرمطة لابد أنه فقد تواصله مع ذلك المركز، وضل الطريق المقدس, ضل الطريق المقدس
ضل الطريق المقدس
ضل الطريق المقدس
ذلك الطريق الذي تشير إليه صلاة يتلوها الهنود الحمر، صلاة مشهورة يطلقون عليها
Ojibway Prayer
دعوني اصليها لكم بعد أن عرّبتها:
(ياجدنا الأكبر اشفق على انكساراتنا, فنحن وحدنا من بين جميع المخلوقات ضللنا الطريق المقدس, ونعرف حقا أننا منقسمون, ليس هذا وحسب، بل علينا وحدنا كبشر أن نعود إلى وحدتنا كي نمشي في الطريق المقدس
يا جدنا الأكبر
ياوحدك المقدس
علمنا الحب والشفقة ومعنى الشرف كي نلأم جراح الأرض وجراح بعضنا البعض)
* المقصود بالجد الأكبر “الكون العظيم”
………..
ذاك السنّي الذي يشتمني بنصيريتي، كم هو اليوم بحاجة لأن يشعل بخوره كي يتوحد مع ذلك البعيد المختلف عنه،
وكم هو بحاجة أن يصلي تلك الصلاة عله يتعلم الحب والشفقة ومعنى الشرف فيصبح قادرا على أن يلأم جرحه
ويلأم الجرح الذي فتحه في قلبي……