عادة تستخدم تعابير خاصة في مناسبات العزاء ورثاء الموتى . حتى الفراعنة كانت لهم دعوات خاصة محددة وردت في كتاب ” الموتى “. وفي عصرنا هناك مجموعات خاصة مهمتها ” الندب ” وضرب الصدور.
المسيحيون يقولون الرب أعطى والرب أخذ. والمسلمون بدورهم انتقل الى رحمة ربه . والبقاء ل الله. كافة العقائد اعتبرت الموت حالة انتقال من..الى . سواء جنته أو جهنم أو السباحة في سيديم الزمن الفضائي.
الإغريق كانوا يضعون قطعة نقود في فم الميت ..ثمن تذكرة سفره في نهر الأموات الأيوني . وفي مناطق أخرى ، يدفن مع الميت طعامه وشرابه حتى كلبه. وفي الهند كانت حتى وقت قريب تدفن زوجته معه وهي على قيد الحياة.
في رثاء الشرق الأوسط القديم نقول ” سايكس بيكو أعطى وسايكس بيكو أخذ . نترحم على سايكس بيكو القديم. لكن ما سيأخذ الشرق الأوسط القديم الميت معه من الحاضر ..؟
اخذ الشرق الأوسط القديم معه حتى الأن نصف القديم وبقي النصف الأخر من عقائد وإيديولوجيات وأحزاب وشخصيات، كانت يوما تصول وتجول. بيد أنه في كلا الحالات ندين بالشكر لما حدث من تغييرات عاصفة أتاحت للمواطن فرصة التعرف عن كثب على حقيقة مشروع الحكم الشمولي الثيوقراطي ، بواسطة الأصوليين.
وأود هنا الإشارة السريعة الى النقطة التالية ، إذا كانت غاية المؤمن من ممارسة عباداته الروحية ، هي التطهر والنقاء والخشوع للخالق وطلباً لرحمته ، فكيف تصبح عمليات القتل معراجاً الى الله .. وكيف نطالب الله بقتل مخالفينا ونحوله الى قاتل ..؟! شئ مخيف عندما يجري تشريع العقيدة وتحويلها الى أداة للقتل . إنها حالة من الهذيان الجماعي تشوه صورة العالم الواقعي، عبر عملية زجر حادة للعقل وتخويفه ودفعة للقيام بأسوأ الأعمال وحشية وهذا ما رأيناه خلال السنوات القليلة الماضية ولا زال العرض مستمراً.
نعود الى موضوعنا مرة أخرى . رغم وجود ترابط بين هذا وذاك .
ما هي ملامح الزمن القادم وخارطة المنطقة . بالتأكيد ليست هي المتداولة الأن . ما يجري تداوله علناً ،وظيفته المحددة، استطلاع أراء المنطقة والتعرف على المزاج العام لقرارات غير معلنه ، وقياس ردود الفعل . اعتقد أننا بحاجة الى ” سنودن ” أخر للكشف عن المستور في هذا التاريخ القصير الراهن.
الرئيس الكوردي مسعود البرزاني أعلن صراحة أن العراق لن يعود كما كان عليه سابقاً .. ورغم صحة هذا الرأي ، ومن حق الشعب الكوردي إعلان استقلاله. بيد أن هناك مناطق أخرى لن تعود الى ما كانت عليه سابقاً ، ليبيا وسورية ومناطق أخرى تعيش حالة كمون مؤقت . تنتظر إشارة انطلاق ” الماراثون “. أو ربما بدأ بإعلان صغير صدر منذ وقت قريب.
الجميع يعلم كيف تم تشكيل سورية الراهنة بعد حرمانها من اسمها الطبيعي كبلاد الشام. والعراق والأردن ولبنان وبلدان الخليج وغيره. بيد أننا لا نعترف أن هناك حاجة ما الى ضرورة إعادة النظر بما كان وبما سيكون. وما هو دورنا إذا كان لنا دور ما ؟!
في العام 1919 كان ” وودور ويلسون ” و ” لويد جورج كليمنصو ” يتحكمون في العالم من باريس. من هي الدول التي يجب أن توجد ومن هي الدول التي يجب أن تختفي. . لا شئ تغير سوى انتقال مركز القرار من عاصمة الى عاصمة أخرى . أما مفهوم أننا دول ذات سيادة..اعتقد أنها مجرد وصفة جذابة لمسحوق تجميل رئاسي وطني.
ما أعلنته سابقاً السيدة ” كوندليزا رايس “ليست نبوءة. فهي لا تنطبق عليها مواصفات عرافات المعبد الفاتنات.رغم “ غرام ” الراحل القذافي بها. السيدة السمراء ،قد قرأت تاريخ و خارطة المنطقة السياسية بشكل جيد . اعتماداً على أطروحات الراحل صموئيل هنتنجتون . وتصورات صقور مراكز الرأسمال العالمي بخصوص المنطقة.
الفكرة كانت مطروحة وموضع نقاش في العديد من مراكز البحث والمثقفين في المنطقة .حول التركيبة الإجتماعية ، والأثينية لبلدان المنطقة وضعف الهوية الوطنية الجامعة للهويات الفرعية .
اعتقد ان البعض لا زال يتذكر قضية ” دار فور ” وتلك الحملة الإعلامية الهائلة التي صاحبت الموضوع والمعارك بين ” جنجويد ” وتعني ” راكبي الأحصنة ” وبين النظام السوداني أو المعارضين له . فجأة مع إعلان انفصال جنوب السودان..بقدرة عجائبية يقال أن إحدى المشيخات النفطية لعبت دوراً كبيراً في حينها سواء في تأجيج الصراع أو في إخماده. بعدما تم الاتفاق مع الحكومة الجديدة في الجنوب على مد خط نفطي عبر كينيا . هكذا إذن انتهت زوبعة دار فور وفصائله المسلحة. ورغم أن حديثي لا زال عن دار فور . وليس دار الحرب في سورية. . الأمور ليست معقدة فكل العقد يمكن حلها بقليل من البتر ودولار.
لم نخرج من سياق الموضوع، ورغم ما تشهده غزة من عدوان غير مبرر ومبالغ في ردة فعله، فإن الأمور ليست معقدة أيضاً. هناك سيناريو محدد . لكننا نحن أبناء هذه المجتمعات لا زلنا نتعامل بالعواطف وتحركنا الكلمات أكثر مما يحركنا الفعل ذاته.هل المطلوب إعادة الحالة الفلسطينية الى مربع الصفر مرة أخرى بعد حالة التهدئة بين حماس وفتح وليست المصالحة الكاملة .. ربما، بيد أن الموضوع هو أبعد من هذا التحليل السهل جداً.
إذا كان لابد من عودة المنطقة الى المربع الذي خرجت منه اتفاقية ” سايكس – بيكو ” فهذا يعني أن هناك حلاً شاملاً يتضمن إعادة النظر فيما يسمى بوضعية الاحتلال الإسرائيلي . وربما هناك بلدان على طاولة التشريح الجغرافي فالشرق الأوسط لم يعد من مخلفات الرجل المريض ؟، بل هو من مخلفات مرحلة سابقة ماتت أو انتهى دورها السياسي . هناك دول عديدة لم تكن قائمة في حينها ، الاحتلال الإسرائيلي ، لبنان ، الأردن ، بعض البلدان الخليجية . وحتى ليبيا هناك أصوات تطالب بعودة الملكية…وإعلان ولاية درنة..الخ.
والملفت للنظر أن المنطقة عموماً تشهد حالة تغييرات غريبة حتى في الأزياء العامة من البنطال الأفغاني الى الكيس الأسود النسائي وحتى اللغة المحكية المتداولة أصبحت ذات مدلول تسلطي على الأخر المختلف . هل هذا هو التغيير الذي تطمح اليه شعوب المنطقة ..أم الذي تطمح اليه مراكز القرار الدولي الى تعميمه واستغلاله ..؟!
نواجه لحظة متفردة في خواصها التاريخية . أو شهود زور على زمن يحمل في طياته تحولات دراماتيكية . فنحن منذ البداية لم نختر شكل أنظمتنا السياسية، وراهناً وفي المستقبل المنظور لا نملك قدرة اختيار الأنظمة السياسية للمنطقة… لأاعتقد أن أحداً بحاجة الى دليل مادي ..؟
أما المستقبل ..؟ فهو مصاب بحالة من القلق ، وسط نقيق ممل لضفادع مكدسة على أرفف أصحاب السياسات الهشة الطائفية القومجية والعنصرية من شتى الطوائف والعقائد والانتماءات السياسية لبلدان خارطة الشرق الأوسط القديم . ومن سوء حظ التجمعات الإسرائيلية في فلسطين انه يتربع على عرشها المولدافي ” ليبرمان ” كنموذج لتلك الحالات المملة التي تريد تحميلنا بالقوة وزر سقوط الوهم التوراتي بدولة ثيوقراطية في زمن أخفق فيه علم الآثار في تأكيد أسطورة الجغرافيا الدينية في فلسطين. ولم يستوعب بعد أن بقاءه الشخصي وتجمعاته مرهونة بمواقفه الشعب الفلسطيني على وجود هذا الكيان الغريب. هذا ليس موقفاً عنصرياً ، بل قراءة للتاريخ القادم .” اليهودية ” ديانة شرق أوسطية، وموطنها ” اليمن “. المستوطنون هم من سكان وشعوب أخرى . تجربة شبيهة بالولايات المتحدة الأمريكية . بيد أن الشعب الفلسطيني ليس هنوداً حمراً..
على كلا الحالات أعتقد أنه ليس مخجلاً أن يعيد المرء دراسة الماضي، بل المخجل أن يعيش وهم الماضي وكأنه حاضراً. أو يحاول استرجاعه، هنا لن يبقى من معنى للتاريخ ولا قيمة ما.
ونموذج ” القاعدة ” وتفريعاتها من داعش والنصرة ..الخ هي الوجه الأخر للتطرف الذي يختفي خلف برقع النص.وفي هذه الحالة لا يسعنا سوى القول ان غياب الرؤية السياسية الواضحة للمستقبل ، وعدم القدرة على إضفاء معنى للتاريخ بطريقة دنيوية صحيحة هي التي تقود هذا العالم المشوش بين ماضية وحاضره الى حالة ضبابية . فهو غير قادر على استرجاع الماضي بكامل صورته وملامحه وحدوده الجغرافية ولا هو قادر على بناء أسس مجتمع جديد. وسط أشكال مختلفة من الصراعات اللا محدودة والعابرة للحدود . هنا تصبح المواقف هشة الى ابعد حدود . هي أيضاً مشكلة المتطرفين من كافة الأشكال حتى في السياسة فالسيد ليبرمان لا يستطيع تحقيق حلم مملكة إسرائيل القديمة كما تدعى النصوص الأسطورية، ولا أبو بكر البغدادي حديث العهد على ساحة السياسية وهو ” وكيل لغائب حاضر ” أو صناعة معروفة ، قادر بدوره على بناء دولة ” الخلافة ” الإسلامية. التي لم تكن سوى تاريخ مظلم لاغتيالات الخلفاء وصراعات على السلطة والمغانم. وهو تاريخ يحتاج الى قراءة نقدية بما له وما عليه.سواء أكانت رواية ” عبد الله بن سعد ” صحيحة أم باطلة ؟.
إذن أين نحن..على ما يبدو أن الأوطان في شرقنا الأوسطي حتى اللحظة الراهنة ، تحولت الى مشاريع فردية وشركات عائلية يطلق عليها اسم الوطن تستثمر الأرض والإنسان معاً . هكذا نشهد ليس فقط موت العقائد والأيديولوجيات الكبيرة سابقاُ، بل وتلك العقائد التي بدأت ملامح نهايتها ترتسم في الأفق المنظور.
في السودان رحبنا بالانفصال إذا كان هذا الانفصال يضع حداً لعذابات الإنسان وسنوات من الحروب الدامية .. لكن جنوب السودان دخل في صراع قبلي- تناحري على عائدات النفط كما كان متوقعاً.
والآن أيضا من وجهة نظري من حق الكورد قيام دولتهم الخاصة إذا كان ذلك يساهم بوضع حد لصراع الطوائف ويؤسس لعلاقات حسن جوار أفضل لصالح الإنسان .لكن أيضا يبدو أنه بدوره سيتحول الى مشروع فردي ..ربما… قد يعتبرها البعض حالة مؤقتة..؟
ربما حالة مؤقتة إذا جرى لاحقاً تحقيق التوازن بين حقوق المواطن وواجباته في دول حديثة العهد بالسلطة وليست على شاكلة البناء السياسي القديم .
ودائما الخوف هو أن تتضخم واجبات المواطن في مقابل ذوبان وتلاشي حقوقه لصالح العائلة – الدولة.
مؤخراً طرحت فكرة إقامة أكبر ” مول عالمي ” في العالم.. في إحدى البلدان الخليجية …هكذا تستثمر البلدان في المشاريع الخاصة . الوطن هو مشروع خاص. اختفت حقوق المواطن وتعاظمت واجباته ..نقرع أجراس الحزن ليس على الجغرافيا بل على المواطن الإنسان الذي ضحت به العقائد والإيديولوجيات الكبيرة والمصالح العائلية ” الوطنية “.
على تمثال ” ايزيس ” ملكة مصر القديمة نقش يقول ” أنا الماضي والحاضر والمستقبل ” القديس يوحنا ، اقتبس هذه العبارة في سفر الرؤيا بقوله ” أنا الألف والياء والبداية والنهاية يقول الرب الكائن والذي كان والذي يأتي “. وفي القرآن أيضاً، هو الأول والأخر والظاهر والباطن “.
انه الزمن ..المستقبل .
للمخرج العالمي ” ودي ألن ” قول ” إنني اهتم بالمستقبل، لأنني اخترت أن أقضي البقية الباقية من أيامي فيه “.
هل بقي للتاريخ المعاصر في ظل حمامات الدم من معنى..؟!
دعونا نفكر بالمستقبل دون دماء ..