قصة قصيرة جرت احداثها أثناء الثورة السورية المباركة
جورج شاب سرياني من احدى قرى سوريا السريانية المتناثرة في كل بقعة من الوطن الذي هو اصلا يتكنى بأسمهم, أسماه والده جورج على اسم جده جرجس, حيث جورج هو النسخة المصغرة للإسم السرياني جرجس الذي يتكنى به السوريون منذ آلاف السنين, وهذه عادة سريانية اصيلة بأن يسمي كل اب ولده البكر بأسم جده, حيث يتم تكنية الابن ب ابو جورج منذ ولادته, ويصبح هذا اسمه المتعارف عليه في المنزل وبين الاهل والاقارب والأصدقاء.
تخرج جورج من كلية الهندسة, وذهب ليؤدي خدمته الإلزامية في الجيش السوري, مثله مثل اي شاب سوري, وكان جورج فخر اسرته, لأنه اول شاب يصبح مهندسا بعائلته, فوالده لم يكمل تعليمه وكان يعمل بفلاحة الارض التي ورثها عن والده, وهم من اسرة فلاحين يتوارثون هذه المهنة منذ اجيال واجيال ويورثون هذه المهنة الى أبنائهم.
جورج هو ابن عم جورج, وأيضا تمت تسميته بجورج نسبة لاسم جدهم المشترك جرجس, حيث ان كل ابن من ابناء الجد جرجس عادة يسمي ولده البكر بجورج وهذه ايضا عادة سريانية, وللتميز بينهما في العائلة يتم اضافة اسم الاب لكل اسم, فكانوا يندهون الاول بجورج المطانس لان اسم والده مطانس, بينما يسمون الثاني بجورج اليعقوب لأن اسم والده يعقوب, وبهذه الطريقة تحتفظ العائلة بأسماء اسلافهم لتبقى حية يتوارثها الابناء عن الاباء, فيكون بنفس العائلة جورج ابن مطانس ابن يعقوب ابن جورج ابن مطانس ابن يعقوب….. وهكذا.
جورج اليعقوب حصل على الشهادة الثانوية بصعوبة فتطوع بالجيش السوري مثله مثل اي شاب قروي لم يفلح بالدراسة ولم يكن متفوقا لكي يتابع تعليمة الجامعي,
شائت الصدف بأن يخدم المجند جورج المطانس خدمته الإلزامية تحت امرة ابن عمه جورج اليعقوب الضابط المحترف,
احمد من قرية سريانية مجاورة تتصل كروم قراهم ببعضها البعض, ولكن اهل قريته دخلوا الاسلام, ولقد درس احمد بنفس مدرسة جورج الثانوية في قرية الاخير لعدم وجود ثانوية في قريته, ودخلا الجامعة سوية, وتخرجا من نفس الجامعة كمهندسين, وهاهما يخدمان الخدمة الالزامية سوية تحت امرة جورج اليعقوب.
علي هو من نفس قرية جورج وهو ضابط محترف اعلى رتبة ويخدم بنفس الكتيبة مع جورج وجورج واحمد.
كان لجورج السرياني المسيحي واحمد السرياني المسلم وعلي السرياني العلوي نفس العادات والتقاليد التي توارثوها اباّ عن جد, حيث كان اجدادهم يفلحون الارض سوية ويأكلون من نفس الطعام, ويزرعون الكروم ويصنعون مونة الاعراس من مشروب العرق بأيديهم ويصنعون نبيذهم بأيديهم على الطريقة السريانية التي توارثوها ابا عن جد منذ آلاف السنين.
ورغم ان هؤلاء الشباب يختلفون بالعقائد الدينية الا ان عاداتهم وتقاليدهم بقية على حالها ولم تتغير, فهم يعدون الخبز بنفس الطريقة السريانية, ويأكلون نفس الطعام, ويشربون نفس المشروبات الكحولية من عرق ونبيذ, ويحتفلون بالاعراس بنفس الطريقة ويغنون نفس الاغاني من العتابا ذات اللهجة البدوية التي تصدح بها الصحراء السورية البدوية.
عند المساء, كان هؤلاء الشباب يجتمعون في براكية جورج في سهرات السمرالأليفة لأنها الاقرب لبقية المجموعة, وكانوا يغنون سوية العتابا من تراث البادية السورية, وهي قصائد يرددها السريان بأعراسهم من آلاف السنين, وكل مفرداتها باللهجة البدوية السورية ومشبعة بالكلمات الارامية وهذه القصائد هي بإعراب ارامي والذي يختلف قليلاُ عن الإعراب العربي.
كان احمد في هذه السهرات ينشد قصيدته المفضلة من العتابا ويقول:
قولوا لي وين القاه سلطان قلبي ….. ما اقدر على فرقاه رحمتك ربي
انا لقيت ذويب قلبي قلت يا ريت حبة… ما حد سمعني ش قلت, اخ, غير ربي
فيرد عليه جورج بيبت العتابا:
وبدار ابويا حرس وهلال نوره هل
ما بين سيف وجرس من دق بابه حل
يا بنت العربان حبك بقلبي انغرس ويش العمل ما اندل
وسمعت صهلة فرس وعرفت شوقي طل
فيغني علي بيت العتابا:
يا ريت كل من يجي على البال ينشاف
ويا ريت كل من نحبه دايم نشوفه
ويا قلبي ليش وتبطل ونينك
ترى ان صرت حدر القاع ما حد يعينك
وأنا قلبي من كثر الهوى جيز حيران
ما يستريح من الدهر ربع ساعة
يا غافر الذلات يا والي الاحسان
اجعل من التقوات نفسي فظاعة
ترى الناس ما تسقيك يل كنت عطشان
وما يشرب المظني الا من ذراعه
كانت العلاقة بين السريان الاربعة من اروع ما يكون, وعندما كانوا يلتقون في احد اعراس القرية, كانوا يشبكون في الدبكة بين صبايا القرية, وكانوا يرجون الارض بأقدامهم القوية, وكانوا يلهبون الصبايا بخصورهم النحيلة والتي تلتوي على انغام الطبل والزمر, فكانت تنظر الصبايا اليهم بطرف اعينهم, وكأن الصبايا تندههم وتقول لهم: لقد كبرنا وتجاوزنا الرابعة عشر, فمتى ستاتون الى اهلنا وتخطبونا منهم, فنهودنا كادت تنفجر من لظى انتظاركم؟
عندما بدأت الثورة السورية المباركة تغيرت علاقة هؤلاء الشباب ببعضهم البعض وأصبحت اشبه بعلاقة صامتة وعيون حزينة, وقد كانوا ينظرون الى بعضهم البعض وليس عند احد شئ يقوله للآخر, فالمسلم يعرف بأن الثائرين على حق ولهم قضية عادلة ويريدون الحرية والكرامة التي انتزعتها منهم عائلة الاسد, والعلوي يعرف مشاعر المسلم ولكن معظم الذين يقاتلون مع الجيش النظامي هم من اهله وعشيرته ولا يستطيع الوقوف ضدهم لأنهم سيعتبرونه خائن لأهله, اما المسيحي فقد وقع بين نارين وخيارين احلاهما مر, فهو من ناحية يخدم بالجيش النظامي وعليه تنفيذ الاوامر العسكرية من دون نقاش كما تعلمهم العقيدة العسكرية, ومن جهة اخرى فهو ينتمي الى اقلية ضعيفة ومسالمة ولا يستطيع معادة اي طرف على حساب الطرف الاخر؟
منذ بداية الثورة, انقطعت سهرات السمر للشباب وانقطعت معها غنائهم للعتابا, بسبب الاستنفار في الجيش, وانقطعت اخبارهم عن أهلهم وذويهم في القرية لانهم كانوا ممنوعبن من النزول الى البيت منذ ان بدأت المعارك المسلحة ضد الثوار.
المهندسان جورج وأحمد هم مؤيدون للثورة لأنهم اكثر علما وانفتاحا على المستقبل, بينما جورج وعلي الضابطان المحترفان, فهم اختاروا ان يؤيدوا النظام لأنهم اقل علماً وهم بتأثير تربيتهم العسكرية اختاروا تنفيذ الاوامر العسكرية.
بالواقع هذا كان حال جميع الاسر السورية, فلم يبق عائلة سورية واحدة ولم تنشق الى نصفين بين مؤيد ورافض للثورة والتغيير!!؟
في احد ايام البرد القارس من شتاء شهر كانون الثاني (يناير) اجتمع علي وجورج المحترفان مع رئيسهم المباشر, وقام الاخير باخبارهم بأن كتيبتهم ستقوم بمهاجمة كتيبة للإراهبيين (للثوار) في احدى مناطق حلب الآهلة بالسكان, وزودهم بالخطة المعدة بإحكام, وطمأنهم بأن المهمة ستكون سهلة لأن هناك قناصة ايرانيون محترفون سيكونون متمركزين في أعلى الابنية, وقال لهم بأن هذه المعلومات سرية ويجب ان لا يعلم بها احد, وحذرهم بأن هناك عناصر من الجيش التي تحاول الهرب والانضمام الى الارهابيين (الثوار), وفي هذه الحالة اعطيكم امر واضح بأن عليكم اطلاق النار على اي جندي يحاول الهرب حتى ولو كان ابوك, واي ضابط يرفض ان يطلق النار على الجندي الهارب سيتم قنصه من قبل القناص الايراني المحترف وهذه اوامر صارمة من القيادة.
هذه كانت الخطة والاوامر السرية عند المحترفين جورج وعلي, ولكن عند المهندسين جورج واحمد كانت هناك خطة سرية مختلفة, فقد تعاهد جورج وأحمد ان لا يطلقا طلقة واحدة ضد اهلهم من الثوار, واتفقا على الهرب الواحد بعد الأخر, بحيث كل واحد يؤمن غطاء ناري للآخر.
عندما وصلت الكتيبة الى المكان المحدد, تمركز كل من جورج واحمد بأقرب ما يكون من بعضهم البعض واقرب ما يكون الى الخط الامامي لأن كان لديهما خطة محكمة للهرب.
عندما ظهرت كتيبة الثوار قام الضابط جورج بأعطاء امر اطلاق النار, وعلى يمينه كان الضابط علي يراقب المعركة بالمنظار, وينقل الاوامر من القيادة الاعلى ويسلمها للضابط جورج الضابط التنقيذي للمعركة.
حسب الخطة بين جورج واحمد عند اعطاء امر اطلاق النار سيقوم جورج بالانشقاق جاريا لطرف الثوار من جهة اليسار بينما يقوم احمد بإطلاق النار فوق رأس جورج وبالسماء لكي يغطي عليه بنار كثيفة, وعندما يصل جورج الى الطرف الاخر يقوم بتأمين حماية نارية كثيفة لأحمد لكي يغطي عليه ويقوم بالانشقاق من جهة اليمين لأنهم يعرفون بأن جهة اليسار ستكون تحت مراقبة شديدة بعد هروب جورج.
ولكن لسوء حظ جورج لم يكن يعرف بأن هناك اوامر سرية لابن عمه جورج بأن يطلق النار على اي جندي يحاول الهرب, فعندما استلموا امر اطلاق النار قام احمد بتغطية نار كثيفة الى جهة اليسار لكي يغطي على فرار جورج,… وعند هذه اللحظة قال علي لجورج بأنه رأى بمنظاره ابن عمه جورج الذي يحاول الهرب, وإذا لم يطلق عليه النار فأن القناص الايراني بأعلى البناء سيقوم باطلاق النار على جورج الهارب وعلى ابن عمه لأنه رفض اطلاق النار على الجندي الهارب, وهذه تعتبر خيانة …. لذلك يجب عليك ان تطلق النار على ابن عمك اذا اردت ان تبقى على قيد الحياة فالقناص الايراني لديه ايضا اوامر محددة وهو لا يعرف بأن الهارب هو ابن عمك؟
هي لحظات عصيبة مرت على جورج, وتجمدت عينيه وجسده وكان لديه خياران احلاهما مر, اما ان يقتل ابن عمه او ان يقتل مع ابن عمه؟ وبطريقة غير ارادية ضغط اصبعه على زناد رشاشه فسقط ابن عمه مضرجا بدمائه, عندما شاهد احمد جورج يسقط مضرجا بدمائه سارع راكضاُ باتجاهه لكي يحاول ان يسعفه, فجاءت الاوامر لعلي من القيادة العليا باطلاق النار باتجاه الهارب الثاني,….
عند هذه اللحظة لم يتحمل علي نفسه, فصرخ علي بأعلى صوته: ” يكفي دماء يكفي دماء”,
واخذ بندقية جورج ورفعها الى السماء بعد ان كانت مصوبة نحو احمد, فقال له جورج ان القناص الايراني سيقتلنا معاُ هكذا هي الاوامر لديه , فقال له علي اطمئن فلن يتمكن من ذلك, وابتسم علي لان عليه ان يستخدم لأول مرة مهارته بالتصويب التي ورثها عن والده منذ الصغر عندما كان يرافقه الى صيد الحجل…. لقد كان علي متفوقا بالعلوم العسكرية وكان الماجور على دورته, واخذ رشاشه وصوبه بأتجاه القناص الايراني المتمركز بأعلى البناء وارداه قتيلا وانقذ بذلك احمد من الموت, واراح كاهل جورج من ان يقتل شابا اخر من ابناء قريتهم, فجهش جورج بالبكاء وضم علي الى صدره وقبله من جبينه لانه قرأ افكاره وعمل ما كان يفكر به جورج.
عندما وصل احمد لعند جورج قام بحمله على كتفيه وركض به باتجاه الثوار, لقد كان الثوار مهيئين لمثل هذه الظروف ولاستقبال اي منشق عن الجيش النظامي, وعندما رأوا احمد بدون سلاح وعلى كتفيه جريح سارعوا بتغطيته بنار كثيفة, ثم قام بعض الثورا بمساعدته للوصول الى نقطة الاسعاف, ولكن في هذا الوقت كان جورج قد نزف كل دمه وفارق الحياة.
لقد عمل احمد وبمساعدة الثورا وتأكد من ان جثمان جورج سيصل الى اهله بقريتهم.
لقد تجاهل علي كل ماحدث في تقريره الذي رفعه الى القيادة العليا, واعتبر بأن جورج مات شهيدا للجيش, وطلب لجورج اجازة اضطرارية من اجل تشييع جثمان ابن عمه جورج,…
لقد جاء قرار القيادة بالقيام بجنازة مهيبة لجورج كعادتها في مثل هذه الحالات, وكانت هذه احد اساليب القيادة وسياستها الماكرة, من اجل حفظ ماء الوجه, وافهام الاخرين بأن الذي يموت في حروب النظام فسيتم تسميته بطلا وسيتم تشييعه بجنازة مهيبة وستتم تسمية اهله باسرة الشهيد البطل, ومن اجل هذا قررت القيادة إرسال جورج بإجازة اضطرارية وارسلت معه علي ليشارك بتشييع جورج لأنه كان الضابط الآمر لكتيبة جورج.
في الكنيسة جلس علي بجانب جورج بالصفوف الامامية وهم وحدهم يعرفون حقيقة ما حصل
لقد القى الضابط رئيس قسم التوجيه المعنوي في قيادة الجيش النظامي كلمة مجد بها القائد بشار الاسد ووصفه بالقائد الفريد والذي لم تجلب النساء نظيرا له, وكان جورج وعلي يعرفان بأن سبب هذه الثورة هو استبداد الرئيس الوريث المجرم بشار الاسد, فكانا يستمعان الى كلمة الضابط رئيس التوجيه المعنوي ويشعران بالحنق والغثيان, ويريدان ان يهجما عليه ويلكمانه على وجهه, ثم انتقل الضابط بكلمته التأبينية الى تمجيد بطولة جورج في خدمة الاب القائد بشار الاسد والتي هي بنفس الوقت خدمة للوطن, وهي الوطنية الصافية الصادقة؟ هنا شعر جورج وعلي بحنق اكبر وكاد ان ينفجر الدم في عروقهما وهم وحدهم عارفي حقيقة الامور وحقيقة ما حدث ؟
وبعد ان انهى قائد التوجيه المعنوي خطابه التأبيني, همس علي بأذن جورج قائلاً: حسناُ أنه انهى كلمته فلو اطال اكثر من ذلك فلكنا قتلناه من هذه الهراءات المقولبة التي مللنا من تكرارها, فلماذا لا يدع هذا الحمار الناس تصلي على فقيدها بسلام؟ هل من الضروري ان يسمعنا هذه الكليشات البائسة؟
هنا بدأ القسيس كلمته التأبينية, فكانت اسوء من كلمة قائد التوجيه السياسي, وأكثر كذبا وتملقا للرئيس (المفدى البطل العظيم) بشار الاسد من كلمة قائد التوجيه السياسي, فهمس جورج باذن علي قائلاً: هذا القسيس الدنئ يريد ان يترفع ليصبح مطراناً, وهو يريد ان يزاود لكي تختاره المخابرات السورية مطرانا بدل من غريمه القسيس في الضيعة المجاورة, مع العلم بان ذلك القسيس اكثر تقوى ومحبوب اكثر من الناس.
بعد انتهاء صلاة الجنازة اراد القسيس ان يتملق السلطة العسكرية اكثر فأكثر لضمان كرسي المطرانية فقال لجورج: لقد استشهد ابن عمك البطل جورج ونريد منك وانت البطل جورج ان تقود زفة لتشييع ابن عمك, ويجب ان تردد ونردد معك في الزفة: ” قائدنا للأبد البطل بشار الاسد الذي سينتصر وينصره الله على الارهابيين, …. ” لقد قال القسيس هذا الكذب والتملق امام الجميع ومن فوق الهيكل وعلى بعد اقل من متر من قدس الاقداس…….
في هذه اللحظة لم يتمكن جورج ان يتحمل هذه الكمية من الكذب والتملق بقلب الكنيسة وعلى مسافة اقل من متر واحد من قدس الاقدس, فصرخ بوجه القسيس بقلب الكنيسة: كفى كذبا وهراءا, هذا لا يحتمل.. انا لست بطلاً… وابن عمي لم يمت في سبيل بشار الاسد….لقد مات في سبيل الوطن… ولم يقتله الارهابيون, وأنما انا الذي اطلقت عليه النار بأوامر من القيادة, واخذ جورج يجهش بالبكاء وهو يصرخ لقد قتل جورج جورج , هناك ايضا يقتل جورج جورج, والمصيبة بأن الذي يقتل من كل طرف هو ايضا جورج, كفى دماء كفى قتل …. فكل الذين قتلوا او قتلوا هم جورج وجورج يقتل جورج.