في أسمى تحليقاته في فضاءات الحرية كتب الشاعر العظيم عزرا ﭙاوند يقول : (( العبد .. هو ذلك الذي ينتظر من سيحرره )) لكن عزرا ﭙاوند دخل الى عبودية العزلة والصمت بإختياره المجبر عليه , منذ عام 1961 وحتى وفاته عام 1972 .
أحد عشر عاماً من الصمت المطبق الذي نادراً ما كان يقول فيه كلمة .. وحين يزوره الضيوف , فكان إما يجلس بينهم بصمت .. أو يتوارى مختفياً في غرفته بالطابق الأعلى , ذات يوم تجرأ أحد الصحفيين وسأله : ( أين تعيش الآن ؟ )
فرد عزرا ﭙاوند بعد طول صمت : ” في الجحيم ” .
ولد عزرا ﭙاوند في بيت جميل في مقاطعة ( إيداهو ) عام 1885 وحين أصبح عمره عاماً ونصف إنتقلت عائلته الى فلادليفيا , حين أصبح في الخامسة عشرة من عمره دخل الى جامعة فلادليفيا ثم إنتقل منها الى كلية هاملتون التي حصل منها على شهادة البكالوريوس , بعدها أتم الماجستير عام 1906 وكان تخصصه في ( فقه الرومانسية ) .
بدأ ﭙاوند بالتدريس في كلية واباش وتمت خطوبته على الشاعرة والروائية الأمريكية ( هيلدا دوليتل ) وكان مقرراً لحياته أن تسير بهذا الإتجاه .. لكنه قام بفعلٍ إعتُبر فضيحة في وقتها أدى الى تغيير مجرى حياته . فقد سمح لفنانة مشردة بالمبيت عنده على غرار ما هو سائد بين فناني الحي اللاتيني في باريس .. لكن هذا الفعل أدى الى فضيحته وطرده من الجامعة بعد 4 أشهر من عمله فيها , والى إنهاء خطوبته أيضا .
بعد هذه الفضيحة إنتقل للعيش في أوربا ثم ذهب الى المغرب , ومنها إنتقل الى مدينة البندقية في إيطاليا , في هذه الفترة صدرت له مجموعته الشعرية الأولى ( مصباح المائدة المطفأ ) بعدها غادر الى لندن , ثم عاد الى مستعمرة جبل طارق البريطانية ليعمل فيها مرشدا سياحياً .
كمتخصص في ( فقه الرومانسية ) كان ﭙاوند متأثراً بأشعار القرن التاسع عشر وأشعار القرون الوسطى , وأشعار الرومانسية الجديدة , والغموض والفلسفات الصوفية التي تعود لتلك الفترة .
حين إنتقل للحياة في بريطانيا كان يؤمن بأن الشاعر ( وليم بتلر ييتس ) هو أعظم شاعر حي على الإطلاق ثم أصبح صديقاً له , وأخذ يعتقد مثله بالجنيات والسحر والأرواح . عاش ﭙاوند مع ييتس لبعض الوقت خلال عامي 14 _ 1915 وأخذا يدرسان الأدب الياباني وخصوصا ( مسرحيات النو ) اليابانية , وتوجت صداقتهما أخيراً بزواج عزرا ﭙاوند من الفنانة ( دوروثي شكسبير ) وهي إبنة الروائية ( أوليفيا شكسبير ) حبيبة ييتس .
أثناء وجود عزرا ﭙاوند في بريطانيا عد واحداً من كبار الفنانين التشكيليين الذين إنبثقت عن أعمالهم ( الحركة التصويرية ) في الفن التي تفرعت عنها ( الحركة الڤورتزمية ) التي أرسى قواعدها الفنان ( وندهام لويس ) والتي لم تستمر غير 3 سنوات , وكان لويس يعتقد أنها حركة مستقلة عن مدارس التكعيبية والمستقبلية والإنطباعية .
كما ساهم ﭙاوند في المجلة الأدبية ( بلاست ) التي جلبت الإنتباه الى أدباء كثيرين من أمثال ( جيمس جويس ) وغيره , كما قام ﭙاوند بنشر قصيدة صديقه ( ت . إس . إليوت ) المعنونة ( الأرض اليباب ) التي حازت على إهتمام الرأي العام .
عام 1915 نشر ﭙاوند مجموعة شعرية صغيرة قام بترجمتها عن اللغة الصينية .. عنوانها ( كاثي ) بأسلوب الشعر الحر , الذي وجد النقاد أن ﭙاوند يستعمل فيه مخيلته الشعرية بأسلوب مميز .
سرعان ما ألقت الحرب العالمية الأولى بظلالها على العديد من الكتاب والشعراء وخيبت أمل عزرا ﭙاوند وإيمانه بالحضارة الغربية الحديثة لذلك سرعان ما غادر لندن الى باريس .
عام 1920 انتقل عزرا ﭙاوند الى باريس وعاش بين حلقة كبيرة من الفنانين والموسيقيين والكتاب من الدادائيين والسورياليين , كما أنه وجد صحبة طيبة في الروائي ( أرنست همنگواي ) الذي طلب منه ﭙاوند أن يعلمه الملاكمة . لكن همنگواي كتب فيما بعد : (( لم أتمكن من تعليمه لكمة الخطافة اليسرى مطلقاً )) .
في هذه الفترة إنشغل عزرا ﭙاوند في كتابة مجموعته الشعرية ( المقاطع ) والتي تركزت مواضيعها في السياسة والإقتصاد . كما كتب المواضيع النقدية والمواضيع المترجمة وأكمل كتابة عدد من الأوبرات , والمقاطع الشعرية التي تصاحب عزف الكمان لأنه في العام 1922 كان قد إلتقى بعازفة الكمان ( أولگا ردج ) وأغرم بها .
ومنذ ذلك الحين تكونت العلاقة الثلاثية التي ربطته بزوجته وعشيقته التي أنجب منها إبنته الوحيدة ماري , ودامت هذه العلاقة الثلاثية حتى نهاية عمره . عام 1924 ترك عزرا ﭙاوند باريس وإنتقل الى إيطاليا وقبل حديثي عن حياته فيها إسمحوا لي بهذا الفاصل .
ــــــــــ فاصل ثم نعود ــــــــــ
من أجل أن ندخل الى التاريخ الأسود الذي مرت به إيطاليا في العصر الحديث دعونا نتذكر هذه الحكاية :
عشية رشح الممثل الأمريكي ( أرنولد شڤارزنگر ) نفسه كحاكم عن الحزب الجمهوري على ولاية كاليفورنيا عام 2003 تعين عليه القيام بنقلتين على رقعة شطرنج الإنتخابات للتأكد من الفوز : النقلة الأولى هي مغازلة سياسة الرئيس الأمريكي جورج بوش الإبن في حربه العدوانية على العراق , لذلك قام شڤارزنگر بزيارة خاطفة الى بغداد لتعزيز حملته الإنتخابية فزار القصر الجمهوري العراقي وجلس على كرسي رئيس الدولة العراقية وقال جملته الشهيرة التي كان يرددها في فلم الأكشن العنيف ( ترمنيتر ) محوراَ إياها لتصبح : (( إيستا لا ڤيستا صدام حسين )) .
لكنه وقبل يوم واحد من بدء الإنتخابات الفعلية ظهر على شاشات التلفزيون والصحافة الأمريكيه وهو يعد شعب كاليفورنيا بأنه في حالة فوزه (( فإنه سيحب شعبه .. كما كان هتلر يحب الشعب الألماني )) في اليوم التالي سجلت له أصوات الناخبين فوزاَ كاسحاَ على بقية منافسيه ففاز بمقعد حاكم كاليفورنيا .
الزبدة التي أريد الوصول إليها من سرد هذه الحكاية .. هي أن الشعب الأمريكي يدرك بأن هتلر و موسوليني كانوا قادة أحبوا شعوبهم بإخلاص , لكن ذلك الإخلاص كان يتعارض مع المصالح الأمريكية حول العالم .. لذلك تم تسقيط الرجلين والنيل من الحزبين النازي والفاشي بإعتبارها أحزاباَ مجرمة بحق الإنسانية في الوقت الذي لو طبقنا العدالة على الكل فإن جرائم الدولة راعية الديوموكرسي ستحتل موقع الصدارة في القائمة .
تبدأ المأساة الإيطالية منذ العقدين الأخيرين من القرن التاسع عشر حين إنبثقت إيطاليا كقوة إستعمارية جديدة في العالم بعد أن وضعت تحت حكمها كل من الصومال وأرتيريا ثم ليبيا وحوالي 160 جزيرة يونانية صغيرة في بحر إيجة تعرف بإسم جزر الدوديكانز وجزيرة رودس , ومقاطعة تيانجين الصينية .
أما خلال الحرب العالمية الأولى فقد بقيت إيطاليا بلداَ محايدا َ حتى توقيع معاهدة لندن عام 1915 فدخلت الحرب الى جانب الحلفاء على أمل أن تتلقى بعد الحرب غنيمة حكم أجزاء من الإمبراطورية النمساوية المجرية التي كانت تعرف بإسم ( دلمسيا ) إضافة الى أجزاء واسعة من الإمبراطورية العثمانية . إنهار الإقتصاد الإيطالي نتيجة هذه الحرب , إضافة الى خسارة ما يزيد على نصف مليون جندي ماتوا على جبهات القتال .. لكن إيطاليا المنتصرة في الحرب لم تُمنح ربع ما وُعدت به في معاهدة لندن التي دخلت الحرب بموجبها .
الأوضاع الصعبة التي خلفتها الحرب العالمية الأولى داخل إيطاليا , إضافة الى خوف ملك إيطايا من تفشي المفاهيم البلشفية في إيطاليا قادمة من روسيا مما يؤدي للأطاحة به , أدى الى الإلتفاف حول ( الحزب الوطني الفاشي ) الذي يتزعمه ( بينيتو موسوليني ) وكان موسوليني قد أسس الحزب الفاشي عام 1917 تحت إشراف المخابرات البريطانية التي كانت تدفع له مقابل تأسيس الحزب راتبا َ شهرياَ مقداره 100 جنيه إسترليني .. والحزب الفاشي يتبنى المفاهيم الإشتراكية لكنه يعادي البلشفية , محاولة من بريطانيا لمنع إنتشار البلشفية في أوربا مما سيلحق الضرر بمصالحها .
سبب مهم من أسباب نجاح الحزب الفاشي في إيطاليا هو معارضته لنظام التمييز الإجتماعي على أساس الطبقات , وكل أنواع الصراع الطبقي .. حيث إستعاض الفاشيون عوضاَ عن نظام الطبقات بالنظرية القومية التي تراعي مبدأ الوحدة الوطنية التي تخلق مجتمعاَ قوياَ بغض النظر عن الفئة التي ينتمي إليها الفرد . وكان الحزب يهدف من وراء ذلك الى إعادة إيطاليا الى أيام مجد الإمبراطورية الرومانية .
موسوليني كان معجباَ بفلسفة أفلاطون وبالتحديد بكتاب الجمهورية الذي يتحدث عن المدينة الفاضلة التي تبني الفرد بطريقة صارمة في طاعة النظام وتعزيز الطابع العسكري للدولة , والإنتاج الدائم للمحاربين والحكام المستقبليين , ومطالبة المواطنين المدنيين بأداء واجباتهم بما يحمي مصلحة الدولة .
وفي حين أن جمهورية أفلاطون هي ليست أكثر من ( يوتوبيا ) أو فرضية خيالية تركز على العدالة والأخلاق ولا يمكن تحقيقها على أرض الواقع .. فإن الفاشست تمكنوا تحقيق بناء واقعي يركز على تحقيق أهداف سياسية .
عام 1922 قام الحزب الوطني الفاشي بمحاولة إنقلاب ضد الملك ( ڤكتور إيمانويل الثالث ) لكن بريطانيا راعية الطرفين تدخلت لحل الخلاف بينهما , مما أدى الى تحالف الملك مع موسوليني ومنحه منصب رئيس وزراء إيطاليا .
تحت إدارة موسوليني للبلد أصبحت إيطاليا من جديد قوة إستعمارية تفرض إنتشارها في العالم وبإحتلالها الخاطف لأثيوبيا عام 1935 تم طردها من ( عصبة الأمم ) التي أسسها الأمريكان والبريطانيون بعد الحرب العالمية الأولى , لذلك لم يجد الحزب الفاشي بداَ من التحالف مع ألمانيا النازية في معاهدتي 1936 و 1938 .
قبل إندلاع الحرب العالمية الثانية بحوالي 6 أشهر قامت إيطاليا بإحتلال ألبانيا التي تفرض عليها سيطرة غير مباشرة منذ عقود من السنين وحين إندلعت الحرب العالمية في 1 أيلول 1939 دخلت إيطاليا الى الحرب بعد 13 شهراَ من بدايتها بغزوها لليونان عبر اراضي ألبانيا في أكتوبر 1940 .
خسارة معركة العلمين جعل القوات الإيطالية تضطر الى الإنسحاب الى قواعدها في تونس وهذا ما سمح لقوات الحلفاء ملاحقة الألمان حتى صقلية . سقوط صقلية بيد الحلفاء , وشحة الفحم والنفط مما أدى الى تذمر تذمر شعبي واسع في إيطاليا , ثم قيام الحلفاء بقصف روما لأول مرة في تاريخ الحرب جعل الملك الإيطالي الذي يحاول حماية عرشه من السقوط يقوم بعزل موسوليني عن منصبه كرئيس للوزراء ويأمر بإلقاء القبض عليه وبعد يومين من ذلك وقّع الملك على إتفاقية الهدنة بين إيطاليا ودول الحلفاء .
من شروط الهدنة كان حل الحزب الفاشي وتسليم موسوليني الى الحلفاء كمجرم حرب وإعلان الحرب على ألمانيا , اذاك سارعت قوة ألمانية خاصة بالوصول الى المعسكر المجهول الذي يحتجز فيه موسوليني وأنقذته من أسره ولاحق الألمان كل من : الملك , ولي العهد , ورئيس الوزراء الجديد للإطاحة بهم , لكن هؤلاء هربوا الى الجنوب الإيطالي .
حين إلتقى موسوليني بهتلر كان عليه أن يقرر بين خيارين : أما أن يقوم هتلر بالدخول الى ميلانو وجنوة وتورينو لمواجهة الحلفاء فيها , وإما أن يقوم موسوليني بتشكيل دولة في شمال إيطاليا تقوم بصد الحلفاء عن الوصول الى ألمانيا . إختار موسوليني الخيار الثاني وقام بتأسيس ( جمهورية إيطاليا الإشتراكية ) والتي تعرف رسمياَ بإسم ( جمهورية سالو ) لأن موسوليني كان يباشر الحكم فيها من مدينة سالو .
عام 1943 دخلت قوات الحلفاء الى إيطاليا من الجنوب , فأصبحت إيطاليا بأجمعها ساحة للقتال بين الحلفاء وقوات المحور التي تتمركز في الشمال , وحين تم إسقاط موسوليني في نهاية العام , إستسلمت إيطاليا في الحرب , بخسارة حوالي نصف مليون إيطالي قتلوا خلال مدة لا تتجاوز عشرة أشهر . وتشكل من الإيطاليين حوالي ربع مليون مقاتل من مقاومي الإحتلال تمت إبادة حوالي سبعين ألف منهم , أما الإيطاليين الذين أخذوا أسرى الى معسكرات الإعتقال الروسية فقد مات منهم ما يقارب الخمسين ألفاَ .
عام 1946 وضعت الحرب أوزارها وكان ينبغي تقسيم غنائمها , ولأن الملك الإيطالي كان يريد أن يحمي عرش بلاده من الكوارث التي وقعت في عهده , لذلك تنحى عن العرش .. وسلم حكم البلاد الى إبنه ولي عهده الذي أصبح يعرف بإسم ( الملك أمبرتو الثاني ) الذي لم يحكم غير شهر واحد .. فقد تم إجباره كملك لدولة محتلة على القبول بإستفتاء شعبي حول تفضيل المواطن الإيطالي لنوع نظام الحكم المقبل هل هو ملكي أم جمهوري ؟
ولتسقيط الملكية , وفي مثل أي دولة محتلة .. تم في الحال نشر إشاعات في عموم إيطاليا وهي مجتمع مسيحي كاثوليكي محافظ عن الشذوذ الجنسي للملك , فقد قيل وقتها إن موسوليني كان يحتفظ بألبوم صور للملك بوضعيات مختلفة يهدده بها دوماًَ.. وهو كلام كاذب طبعاَ لأنه مما يرافق الإنتخابات والإستفتاءات الشعبية .
كما تم حرمان وصول المواطنين الى صناديق الإستفتاء بطرق مختلفة .. إضافة الى التزوير في نتائج الإستفتاء , ورغم كل هذا فقد ظهرت نتيجة الإستفتاء تريد تغيير نظام الحكم الى الجمهوري بنسبة 54% فقط .. عندها أعلنت إيطاليا جمهورية , وقامت الولايات المتحدة الأمريكية بالإستيلاء على مستعمراتها .. فحلت محلها منذ ذلك الحين في إستعمار تونس وليبيا وأثيوبيا وأرتيريا , جزر الدوديكانز أعيدت الى اليونان , ألبانيا منحت الى الإتحاد السوفييتي كدولة إشتراكية . مذابح الصومال لحد اليوم تبدأ من الصومال التي كانت إيطالية , الملك أمبرتو الثاني عاش منفياَ في البرتغال 37 عاما َومات فيها عام 1983 .
ـــــــــ إنتهى الفاصل ـــــــــــ
حين قدم عزرا ﭙاوند الى إيطاليا عام 1924 كان رجلاً بالغاً عاقلاً في التاسعة والثلاثين من العمر وحين إستقر في صقلية فإنه سرعان ما تعلم النحت إضافة الى تنظيمه لحفلات الموسيقى السمفونية الكلاسيكية وبالأخص معزوفات الموسيقار ( ڤيڤالدي ) , كما بدأ ينشر ويكتب في الصحافة . عام 1933 كانت له مقابلة شخصية مع رئيس الوزراء الإيطالي موسوليني قدم له فيها نسخة من ديوانه ( المقاطع ) .
بعد ذلك تم تكليف عزرا ﭙاوند بتقديم برنامج إذاعي من إذاعة روما , وفي برنامجه كان متعاطفاً مع الفاشية وضد البلشفية حيث نستمع إليه في إحدى الحلقات يقول : (( كل من يملك حساً سليماً … إضافة الى ذلك النائب البريطاني غريب الأطوار , يعلم أن العقلاء يفضلون الفاشية على الشيوعية في لحظة معرفتهم بعض الحقائق الملموسة عن كل منهما )) .
حين إندلعت الحرب العالمية الثانية عام 1939 كان عزرا ﭙاوند يعمل في الإذاعة الإيطالية لقاء أجر , وكان يكتب للعديد من الصحف معارضا سياسة الولايات المتحدة المريكية التي دخلت الحرب الى جانب الحلفاء بعد موقعة ( بيرل هاربر ) عام 1941 .
في سلسلة أحاديثه من إذاعة إيطاليا كان يتحدث عن ( الربا ) الذي تجنيه البنوك المركزية من حكومات الدول وكيف أنها بواسطة الديون إستطاعت التسلل الى القرار الحكومي الأمريكي والبريطاني بخوض الحرب وكيف أنها وبنفس ذلك المال كانت قد إشترت الصحف والإذاعات التي تروج للحرب وكان يدعو الى الحرية الإقتصادية , وكان يتحدث عن دعايات الحرب المناهضة للنازية والفاشية بإعتبارهما ضد اليهود , وقد عدت الولايات المتحدة الأمريكية كل ذلك فيما بعد مما يقع تحت طائلة ( معاداة السامية ) .
في الحقيقة كان هناك العديد من الأمريكان في تلك الفترة الذين يؤمنون بكل كلمة كان يقولها عزرا ﭙاوند عبر الميكرفون عن السياسية العدوانية للولايات المتحدة الأمريكية أثناء الحرب العالمية الثانية , وعن طبيعة وأسباب القتال الأوربي , وعن قوة اليهود المتنامية بسبب الدعم الأمريكي , وكانت هذه الأحاديث تسجل أولاً بأول من قبل جهاز ( مراقبة الإذاعات الأجنبية ) في الحكومة الأمريكية وتسجيلاته محفوظة حتى اليوم في مكتبة الكونغرس الأمريكي .. وبناءا على ذلك تم توجيه تهمة ( التمرد ) الى عزرا ﭙاوند عام 1943 .
حين أسس موسوليني ( جمهورية إيطاليا الإشتراكية ) في شمال إيطاليا بعد أن حرره الألمان من السجن الذي وضعه فيه الملك في أيلول 1943 فإن عزرا ﭙاوند إرتحل هو أيضاً الى الشمال ليعمل في إذاعته , وحين سقطت جمهورية موسوليني في مايس 1945 تم إعتقال عزرا ﭙاوند من قبل الجيش الأمريكي الموجود في إيطاليا ( جنوة ) ثم تم ترحيله الى معسكر الإعتقال الأمريكي في ( بيزا ) حيث وضع لمدة 25 يوم في قفص في العراء قبل أن يتم إعطاؤه خيمة يحتمي بها وكان متألماً جداً , يتضح ألمه من خلال المقاطع الشعرية التي كتبها خلال إعتقاله وكان يرثي بها خراب أوربا , ويرثي بها نفسه , ويرثي العالم الحر .
كانت شهادة الروائي جورج أرويل عن عزرا ﭙاوند في العام 1949 تقول : (( كان ﭙاوند أحد الأتباع المتحمسين لموسوليني منذ العشرينات من هذا القرن ولم يخف ذلك , كما أود القول بأنه لم يكن مؤيداً للنازية بشدة , أو ضد الروس , لكن دافعه الحقيقي هو كراهيته لبريطانيا وأمريكا واليهود , وأتذكره على الأقل في واحد من برامجه المذاعة , لم يكن يعترض على المذبحة التي تعرض لها اليهود في أوربا , بل كان يحذر من الدور الحالي والمقبل لليهود الأمريكان )) .
حين تم إحضار عزرا ﭙاوند الى داخل الولايات المتحدة الأمريكية وجهت تهمة التمرد إليه , وتم التحقيق معه عن نشاطاته في خدمة جمهورية موسوليني .. ولإصراره على آرائه ومبادئه فقد وجد من قبل ( هيئة محلفين فيدرالية خاصة ) مختلاً عقليا ً حيث تم إرساله الى ( مستشفى سانت إليزابث للأمراض العقلية ) في واشنطون حيث أمضى فيها 12 عاماً تمتد من عام 1946 وحتى عام 1958 .
وخلال هذه الفترة كان يعكف في مستشفاه على كتابة المقاطع الشعرية في الجزء الذي يعرف ب ( الكلاسيكيات الكونفشيوسية ) .
كما صدرت له وهو في مستشى الأمراض العقلية مجوعته الشعرية ( قصائد عزرا باوند ) عام 1951 وكان له العديد من المعجبين بشعره والأصدقاء الذين يزورونه في المستشفى , ولذلك نسق عدد منهم حملة من أجل إطلاق سراحه من المستشفى فتم ذلك .
مباشرة بعد خروجه من المستشفى غادر الولايات المتحدة الأمريكية وعاد الى إيطاليا في تموز 1958 وعندما سئل عن أحتجازه في مستشفى الأمراض العقلية قال : (( لا لم أكن فيها لفترة طويلة , غادرت المستشفى وكنت في أمريكا وجميع أمريكا هي ملجأ مجانين )) .
منذ العام 1961 دخل عزرا ﭙاوند في العزلة والصمت بإرادته إحتجاجاً على زيف العالم وبطلان الكلمات , وكان نادراً ما يتكلم .
وبعد يومين من عيد ميلاده 78 غادر العالم كواحد من أعظم المبدعين الذين عاشوا في القرن العشرين ودفن في إيطاليا .. بين البشر الذين أحبهم وأحبوه بأسمى معاني الإخلاص . ميسون البياتي – مفكر حر؟