يُعرف الدستور، بـ “وثيقة العقد الاجتماعي” بين الحاكم (السلطة) والمحكوم (الشعب). وظيفة الدستور ، تنظم العلاقة بين السلطات الاساسية الثلاث في الدولة” التشريعية والقضائية و التنفيذية”. كما ينظم السلطات العامة ويحدد الواجبات والحقوق الأساسية للأفراد والجماعات داخل الدولة. وهو (القانونالأعلى)، الذي يحدد شكل الدولة واسمها وهويتها ونظام الحكم فيها.
مسودة الدستور لسوريا الجديدة، المقترحة من قبل “الوصي الروسي” ،على وفدي النظام والفصائل الاسلامية المسلحة المعارضة لحكم بشار في لقاءات العاصمة الكازاخستانية( الأستانة)، أثارت جدلاً واسعاً وسجالاً حامياً فيمختلف الأوساط السورية. لما حملته هذه المسودة من مفاهيم وتعابير ومقولات سياسية ومجتمعية وقانونية جديدة ،غريبة ودخيلة، على الثقافة الوطنية وعلى الحياة السياسية للشعب السوري. سجالات ونقاشات السوريين ،عبر وسائل الاعلام وعلى صفحات مواقع التواصل الاجتماعي، أظهرت الفهم الخاطئوالنظرة الرومانسية السياسية والوطنية لدى الكثير من السوريين لأهمية ودور الدساتير وتأثيرها في الحياة السياسية والبيئة القانونية للشعوب. لأن واقع الحياة العامة للمجتمعات البشرية، يؤكد على أن الشعوب محكومة بطباعهاوعاداتها وتقاليدها وثقافتها وموروثها التاريخي ، أكثر من كونها محكومةبدساتير وقوانين بلدانها. بمعنى آخر، إذا كانت الدولة متأخرة ،غارقة في تخلف شعبها تعيش في عصر الظلمات ، مهما تضمن دستورها من مبادئ ومفاهيمديمقراطية ومدنية وعصرية ، لن يتحضر شعب هذه الدولة ولن تتحول الى دولة ديمقراطية. فالدساتير والقوانين، عادة تواكب تطور الدولة وتقدم المجتمع ، وليس العكس. أي أن دساتير الدول هي نتيجة لتطور المجتمع وليست سبباً لتطوره . هنا تكمن المهمة التاريخية للثورات الوطنية الحقيقية في حياةالشعوب والأوطان. عندما تنجح الثورة في تحقيق كل أهدافها وإحداث تغيرجذري في المجتمع،( سياسي، ثقافي ، فكري ، تربوي ، اقتصادي)، حينها الطبقة السياسية الجديدة، التي تأتي بها الثورة، يفترض بها أن تضع دستوراً جديدوتسن قوانين جديدة ، تشرعن الواقع الجديد الذي أحدثته الثورة . والحال هذه، لطالما أخفقت الثورة السورية في تحقيق اي من أهدافها السياسية والثقافيةوالمجتمعية والاقتصادية، فأي دستور جديد لا معنى ولا قيمة فعلية له ولن يكونله اي تأثير فعلي وحقيقي على الحياة السياسية في البلاد، لأنه سيولد ميتاً ولن يجد طريقه الى التطبيق . تبسيطاً أقول: دستور علماني/ ديمقراطي لنيجعل من شعب متدين، مكبل بكل قيود العنصرية والقبلية والطائفية، شعباًحضارياً مدنياً ديمقراطياً.
سوريا ، وهي قضيتنا المركزية وموضوع مقالنا ، رغم نظامها الجمهوريوقوانينها المدنية- المستوحاة من القانون المدني للجمهورية الفرنسية،المشهود لها بديمقراطية نظامها السياسي وباحترامها للحريات- عام 1949، أي بعد سنوات قليلة من الاستقلال، شهدت سوريا ثلاث انقلابات عسكرية . بعد الانتخابات البرلمانية الديمقراطية التي جرت عام 1954، تخلى القوميون العربعن الدولة السورية، بضمها للكيان المصري عام 1958، خدمة لمشاريعهم القوميةالعنصرية. بعد تحرر سوريا من قبضة الاستبداد العربي المصري الناصري(كان اشبه بحكم المستعمر) انقلب جنرالات حزب البعث العربي على الحكم 1963، عطلوا العمل بالدستور ، بفرض “قانون الطوارئ” على البلاد ، قوضوا الحياة السياسية باحتكارهم للسلطة الى تاريخ اليوم . عام 1970، انقلب الجنرال حافظ الأسد على رفاقه البعثيين في السلطة. حافظ ،حكم سوريا على مدى ثلاثة عقود بطريقة هي أقرب الى “حكم الفرد” . ورغم (النظام الجمهوري)، الذي ينص عليه الدستور السوري، بقي حافظ الأسد يحكم سوريا وهو في قبره وجعل منها”مملكة لآل الأسد”. فبوفاته صيف عام 2000 ، ورث السلطة لابنه بشار، رغم صغر سنه(34)، اقل من الحد الأدنى لعمر الرئيس المحدد بالدستور بـ (40 عاماً) . طبعاً، سوريا ليست حالة شاذة عن دول المنطقة المحكومة بأنظمة سياسية،هي الأخرى تحكم شعوبها بطريقة هي اقرب الى ” حكم الفرد” . أنظمة تعطل العمل بدساتير بلدانها حينما تشاء ، خاصة عندما تشعر بأن سلطتها مهددة. ما اريد قوله في هذا السياق، أن العبرة ليست بمضامين ونصوص الدساتير والقوانين، وإنما في احترامها والالتزام في تطبيقها والتقييد بها. طبعاً، هذا لا يعني التقليل من أهمية الدساتير والقوانين في إدارة شؤون الدول وفي تنظيمودمقرطة الحياة السياسية والاجتماعية وفي تهذيب أخلاق وسلوك الشعوب.لكن يجب عدم المبالغة كثيراً في وظيفة الدساتير وأهميتها في تقدم الشعوب وتطورها وفي تحديث المجتمعات ونهضة الدول. أن دساتير الدول ، هي نتاج تطور وتقدم شعوبها، ولم تكن يوماً سبباً لتقدم وتحضر الشعوب والأمم. فمن الخطأ النظر للقوانين والدساتير على أنها الدواء الشافي لأمراض وعاهاتالمجتمع ، وبأن الدولة ستزدهر بمجرد وضع لها دستوراً عصرياً متقدماً و قوانينحديثة مستوردة من دول ديمقراطية متقدمة. أن الدساتير والقوانين المستوردة، هي كمن يلبس رداءً مستعاراً لا يليق به. الصحيح هو أن تُغيير أو تتغير افكارالشعوب وآراءها وثقافتها وعقائدها المتخلفة البالية ، قبل تغير دساتيرهاوقوانينها. تجدر الاشارة هنا ، الى أن العديد من الدول الأوربية، بينها (انكلتراوالسويد ) هي دول ديمقراطية ، رغم أنها تخضع لنظام حكم ملكي. فيما الكثيرمن الدول الخاضعة لأنظمة حكم جمهورية، مثل سوريا، تتعرض شعوبها ،على ايدي حكامها لأبشع أنواع الاستبداد والعسف والقمع.
ونحن نتناول القضية السورية من الزاوية الدستورية ، نذكر بأن (حافظ الأسد)، يوم انقلب على السلطة ، الغى من الدستور صفة الدين عن رئيس الدولة. لكن هذا التعديل قُبل برفض قوي من قبل الشارع الاسلامي السني وخرج المسلمون السنة ، في حلب وحمص وحلب وفي مناطق سورية أخرى ، بتظاهرات احتجاجية غاضبة ضد هذا التعديل ، مما اضطر حافظ الأسد على التراجع عن خطوته المتقدمة على طريق بناء (دولة المواطنة) وثبت من جديد في دستور البلاد، المادة المتعلقة بدين رئيس الدولة” أن يكون الاسلام دين الرئيس”. واليومجميع الفصائل العربية الاسلامية المعارضة لحكم الأسد الأبن ،رفضت مسودة الدستور المقترحة من الروس، بذريعة أنها تلغي الهوية (العربية الاسلامية) للدولة السورية وتمهد لتقسيم سوريا. إزاء هذا الواقع السوري الأليم والشائك،أنه لوهم كبير وخطأ قاتل، أن يجعل السوريون من “الدستور” قضية كبيرة واساسية، فيما هم يتقاتلون على تقاسم تركة الرجل المريض ( دولة الخلافةالأسدية). حتى أن بقاء دولتهم ككيان سياسي مستقل وموحد بات على المحك . والحالة هذه ، إذا ما فرض عليهم أي دستور جديد ( المسودة الروسية أو غيرها)لا يتوافق عليه السوريون ولا يناسب الحالة السورية، التي تتصف بالتنوع الاثني واللغوي والتعددية الدينية والمذهبية ، من شأنه أن يدخل السوريين في حرب أهلية جديدة، أكثر كارثية من الحرب الراهنة.
أخيراً : كيف لنا الحديث عن دساتير علمانية / ديمقراطية/مدنية لسوريا، أو لغيرها من دول المشرق ذات الغالبية الاسلامية، فيما الأوطان وحقوق الشعوب بالنسبة لغالبية الشعوب الاسلامية، مازالت تُختزل بـ ” سجادة الصلاة ” ؟؟؟.
سليمان يوسف يوسف … باحث سوري مهتم بقضايا الأقليات
shuosin@gmail.com
المصدر ايلاف