رسالة إلى المسلمين التقليديين

بقلم منصور الحاج/
لطالما ظننت أن الغالبية العظمى من المسلمين هم أقرب إلى الاعتدال منهم إلى التشدد نسبة لاختلاف مجتمعاتهم وتعدد ثقافاتهم وانتماءاتهم المذهبية ومدى فهمهم للتعاليم الإسلامية وانفتاحهم على العالم والقيم والمبادئ الإنسانية.
ويعزز هذا الظن ميول الإنسان بطبعه إلى السلم وحرصه على الاستقرار وحل الصراعات عبر الحوار وإيجاد تسويات تكفل العيش المشترك وتعزز التعاون بين الجماعات المتنازعة. وعلى هذا الأساس تعايشت الجماعات والأقليات داخل المجتمعات الإسلامية على مر السنين ولا تزال تتبنى الحوار لتسوية النزاعات حتى في قضايا الدماء بعد أن تضع الحرب أوزارها.
كم تمنيت لو شرحوا لي أن عملية “رجم بحجر” ليست عبثية كما أظن
إلا أن هذه المعادلة تتغير تماما حين يكون العامل الديني حاضرا، كما هو الحال في الصراع الدائر بين الوهابيين وأتباع الطريقة التجانية أو الصوفيين في العديد من الدول، أو بين العلمانيين والحقوقيين والإصلاحيين وأنصار القيم الليبرالية وبين المسلمين التقليديين في المجتمعات الإسلامية، حيث يبرز التعصب بصورة واضحة من خلال حملات التحريض المغرضة في المساجد والمنابر الإعلامية فضلا عن التكفير والتهديد والتفسيق والاتهام بمحاربة الإسلام والسعي لهدم أركانه ونشر الانحلال.
وعلى عكس النزاعات التقليدية، حيث تسعى الأطراف إلى حلول وسطية ترضي الطرفين، يعتبر الإسلاميون، وبدعم من المسلمين التقليديين، أن معركتهم مع أنصار الحريات لا تقبل أنصاف الحلول، فلا مهادنة ولا حوار مع “أعداء الدين” ولا تنازل عما يرونه ثوابت دينية أو اجتماعية.


والمسلمون التقليديون في الغالب من المتأثرين بالإسلاميين، لكنهم على الرغم من جهلهم بالكثير من الأمور الدينية، لا يتورعون عن الدفاع بشراسة عن معتقداتهم والطقوس المختلفة كالصيام والطواف والسعي ورمي الجمرات والاستناد إلى معلومات مغلوطة، لإثبات الفوائد الصحية للصيام مثلا أو لتبرئة الإسلام من تهمة احتقار المرأة وهضمه لحقوقها أو لنفي علاقة الحركات الجهادية بالإسلام.
أتفهم أن مرد هذه المحاولات الحثيثة هو رغبة المسلمين التقليديين التوفيق بين الشعائر الدينية والعلم والعقل والترويج لما يعتقدون بأسلوب عصري، كما يفعل أرباب فكرة الإعجاز العلمي القرآني في مساعيهم لتحويل القرآن إلى كتاب علمي ونسبة الاكتشافات العلمية إليه مسيئين بذلك إلى القرآن من حيث لا يشعرون.
ومما لاحظت من خلال نقاشاتي مع المسلمين التقليديين على مواقع التواصل الاجتماعي في المواضيع الدينية المثيرة للجدل، أو في كل انتقاد يوجه للدين أو إلى النبي والصحابة أو متعلق بالشعائر والطقوس، هو أنهم يتسرعون في مهاجمة شخص من يطرح الفكرة بالجنون أو البحث عن الشهرة بدلا من مناقشة الموضوع المطروح.
أما أولئك الذين لا يشخصنون، فإنهم يعتبرون المواضيع المطروحة لا تحترم مشاعرهم ويطالبون بحذفها والاعتذار من المسلمين، فيما يتجه قسم آخر إلى فكرة المؤامرة ويتهمون كل من يطرح المواضيع التي يتهربون من مناقشتها علانية بالسعي للإساءة إلى الإسلام وإطفاء نور الله تنفيذا لأجندات غربية.
تعرضت في الأيام السابقة إلى سيل جارف من كل ما سبق حين نشرت تعليقا على صورة حاج أثناء رميه للجمرات كتبت فيه: “يرجم حجرا بحجر مؤمنا بأنه يؤدي طقسا مقدسا.. ما أسخف الأديان”. لا أدري كيف اعتبروا هذا التعليق مسيء للإسلام ولا يحترم مشاعر المسلمين. فعبارة رجم حجر بحجر ليست مسيئة، وبالتأكيد أن من يرمي الجمرات يؤمن بأنه يؤدي طقسا مقدسا. أما عبارة “ما أسخف الأديان” فقد شملت فيها كل الأديان ولم أخص بها الإسلام فقط وفي نهاية المطاف تمثل رأيي الشخصي وبالتأكيد لا يعني ذلك أن الأديان كلها سخيفة حقيقة.
هالني الكم الهائل من التعليقات البعيدة كل البعد عن أي نضج أو وعي أو حتى إدراك للحكمة من وراء رمي الجمرات. كانت أغلب التعليقات انفعالية ودفاعية مسيئة لي أكثر من كونها ترد على التعليق لتنفي فكرة السخف عن رجم كتلة خرسانية بالحجارة.
يعتبر الإسلاميون، وبدعم من المسلمين التقليديين، أن معركتهم مع أنصار الحريات لا تقبل أنصاف الحلول
والمصيبة الأكبر أن غالبية المعلقين من المتعلمين وحملة الشهادات في مجالات مختلفة. كم تمنيت لو أنهم قدموا لي شرحا روحانيا عن فضل الحج مثلا والقيم التي يرسخها والعمق في رمزية الطواف حول الكعبة والسعي بين الصفا والمروة والوقوف في عرفات والمبيت في منى ومزدلفة ورمي الجمرات وانتهاء بالحلق أو التقصير وطواف الوداع.
لم أقصد أبدا إطفاء نور الله بذلك التعليق، كم يتهمني البعض، إنما أردت اختبار القناعات الدينية ومدى الانفتاح والتقبل لدى معارفي، والكثير منهم أصدقاء طفولة وزملاء دراسة. لكنني أصبت بخيبة أمل لما وجدتهم عليه من قرب من التكفيريين أو محرضين لهم على أقل تقدير.
فاستخدامهم لعبارات كـ”لقد تماديت يا منصور” أو وصف التعليق بأنه “طرح أفكار شيطانية” و”جرح مشاعر أكثر من مليار شخص” أو “ما أسخف منشوراتك التي ضد الإسلام.. مهما تنشر وتصطاد في الماء العكر و(تظن) أنك تقلل من ديننا يبقى الإسلام نورا ويبقى منتشرا في أنحاء العالم.. ولو كره المشركون”، وغير ذلك من التلميح بأنني “زنديق” كلها تعليقات تنطبق عليها أركان التحريض.
لم يعترض أي منهم على الآيات القرآنية التي لا تحترم مشاعر غير المسلمين والأحاديث النبوية المسيئة لليهود، ولا حتى على أئمة المساجد الذي يدعون ليل نهار ضد من يعتبرونهم كفارا ومشركين بالويل والثبور والعذاب الأليم، لكنهم عاضبون من رأي شخصي عام عن كل الأديان.
إن هذا الواقع مؤشر على ضيق في الأفق، بل وعلى تطرف وجهل بأبسط مبادئ حقوق الإنسان التي تكفل حرية التعبير والتي عبرها فقط يمكن للمجتمعات الإسلامية تحقيق التعددية وترسيخ المساواة واقعا، حين تكفل للأصوات غير التقليدية حقها في التعبير وانتقاد الثقافة السائدة وبدعم من الجماهير التي لا تتفق بالضرورة مع تلك الآراء لكنها تدافع عن حق أصحابها بالتعبير عنها.
لا عيب في أن يعترف الإنسان بجهله، ولكن العيب كل العيب في أن يعبد الإنسان ربا عن جهل
كم تمنيت لو أنهم دافعوا عن معتقدهم برقي وشرحوا لي أن عملية “رجم بحجر” ليست عبثية كما أظن، وأن لها رمزية عميقة تتمثل في كذا وكذا وكذا. كما تمنيت لو أنهم دافعوا عن معتقدهم بوعي بدلا من التشكيك في قدراتي العقلية أو قص ولصق آيات قرآنية أحفظها عن ظهر غيب نسبة لنشأتي الدينية ودراستي للشريعة الإسلامية.
طلبت من أصدقائي المسيحيين التعليق على رأيي عن الأديان وسألتهم لماذا لم يثر تعليقي حفيظتهم كما أثار حفيظة أصدقائي المسلمين؟ فجاء تعليق أحدهم على هذا الشكل: “أنت من حقك تسفه أو تنتقد أي دين أو كل الأديان، ليس الله في حاجة إلى مدافع أو محارب من أجله.. الخالق الذي بحاجة إلى مخلوق لحمايته وحماية رسالته بالعنف هو خالق ضعيف ورسالته ضعيفة فكريا”. كما علق آخر: “ليس هناك دين مثالي وبالإمكان التوصل لتلك النتيجة إذا تنفسنا قبل الرد ومهاجمة الآخرين لأن آراءهم تجعلنا نشعر بعدم الارتياح”.
رسالتي إلى المسلمين التقليديين هي أن يسعوا إلى عكس صورة إيجابية عن أنفسهم وعن عقلياتهم وثقافتهم وقبل ذلك دينهم والابتعاد عن التحريض والشخصنة والترويج لنظرية أن الكون كله يتآمر “لإطفاء نور الله” ووقف تمدد وانتشار الدين الإسلامي.
عليهم، كما أسلفت الدفاع عن دينهم بوعي وعن علم وليس بترديد عبارات مستهلكة. لا عيب في أن يعترف الإنسان بجهله، ولكن العيب كل العيب في أن يعبد الإنسان ربا عن جهل أو بحسب التعبير القرآني “كمثل الحمار يحمل أسفارا” ولسانه حاله يقول “إنا وجدنا آباءنا على أمة وإنا على آثارهم مهتدون”.

شبكة الشرق الأوسط للإرسال

This entry was posted in دراسات سياسية وإقتصادية, دراسات علمية, فلسفية, تاريخية, ربيع سوريا. Bookmark the permalink.

Leave a Reply

Your email address will not be published. Required fields are marked *

This site uses Akismet to reduce spam. Learn how your comment data is processed.