حكايات لذكريات لي في ايام المحبة والتآخي …
كان شعب العراق قبل عام 2003 شعبا واحدا منسجما متحابا مترابطا و متآخيا بمسلميه و مسيحييه و صابئته و غيرهم . لم يكن احد يجروء ان يسال بسوء نية عن دين الاخر ان كان يشك من الاسم مثلا انه غير مسلم . كان المسلمون الطيبون يتعايشون مع اخوتهم المسيحيين في المحلة الواحدة متجاورين في البيوت والاحياء ، يتزاورون باستمرا عائليا بمحبة ، كنا في العمل و المصنع اخوة متحابين متعاونين ، نشترك معا في الآفراح والاعياد و نعيّد كل منا الاخر بالاعياد الدينية بالاحضان والقبلات الاخوية ، و نعزي الواحد للاخر في ايام الاحزان والمآتم . نزور المريض الراقد في المستشفى دون التفكير بأنه من دين آخر فهذا لا يهمنا ، بل الصداقة و الانسانية هي من اولوياتنا .
في يوم ما مرضت و رقدت في المستشفى لمدة 12 يوما ، زارني كل منتسبوا القسم من الاخوة المسلمين من زملاء العمل في المعمل ، وكل منهم يحمل الزهور اوالهدايا ، وامتلأت ردهة المستشفى بهم ، حتى تذمر الاطباء من كثرة الزائرين لي . لم يكن احد من اخواني المسلمين يعترض لماذا مسيحيا رئيسا او مديرا له .
اتذكر في ايام زمان مضى ( قبل 48 سنة ) اني عملتُ مهندسا لتصميم و تاسيس و نصب شبكات الكهرباء للقرى والارياف مندوبا عن وزارة البلديات في ناحية الكرمة جنوب الفلوجة قرب بغداد لمدة سنة واحدة ، وبعدها انتقلت لتاسيس شبكات كهربائية جديدة في قضاء حديثة و منطقة الوس التابعة لمحافظة الرمادي (الانبار) .
كنت الشخص المسيحي الوحيد الذي يخدم في تلك المنطقة من مدن العراق مع عمالي المسلمين الذين استأجرتهم بأحور يومية من اهل المنطقة لتنفيذ العمل . كانوا شبابا طيبين بأخلاقهم و سلوكهم ، كما كان كذلك اهل المنطقة من العشائر العربية الكريمة من اهالي الكرمة و قراها في الصبيحات والشهابي و غيرها من اروع ما رايت من ناس عرب اصلاء و كرماء .
تعود اهالي تلك المناطق العربية الا صيلة على استقبال المهندس المسيحي الذي جاء من بغداد ليؤسس قراهم بشبكات الكهرباء المحرومين منها من سنوات طويلة والمتلهفين لأنارة بيوتهم بالمصابيح بدلا الفوانيس . كانوا يستقبلوني في قراهم و بيوتهم و بالترحاب و الضيافة الكريمة التي تعكس اصالة وكرم العشائر العربية العراقية و حسن ضيافتهم للغريب . كان اهل القرية يعرفون اني اتأخر في العمل في مناطق سكناهم الى ما بعد العصر كي اسرّع في انجاز تمديد الشبكات الكهربائية باقرب وقت ليتمتعوا بمنافعها . فكان شيخ العشيرة او احد وجهاء القوم لكل منطقة اعمل فيها مع مجموعة العمال يتفق مع اهل القرية – من غير علمي – ان يقدموا لنا انا و عمالي الثلاثين فردا طعام الغذاء ظهرا لأننا جئنا من منطقة بعيدة واعتبرونا ضيوفا عليهم . وكان معظم اهل المنطقة ميسوري الحال ، و اصحاب اغنام و مزراع وبساتين البرتقال والنخيل المثمرة. كان ياتيني كل يوم صاحب اقرب دار يصادف عملنا بقربه ويقول لي : ” استاذ غداكم اليوم عندي” .
كان كل صاحب دار قريب لعملنا ، يستضيفنا يوميا انا وعمالي بين العشرين الى الثلاثين فردا الذين بصحبتي بوليمة غذاء و يذبح خروف و يعملون الاكلة المشهورة عندهم بأسم ( دليمية ) اي خبز ثريد فوقه لحم طلي (خروف) مع الرز يقدمونها في صينية كبيرة يعلوها جزء من راس الخروف ويوزعون عدة صواني مع اللبن على مجاميع للعمال كل خمسة بصينية يجتمعون حولها في ديوانية او مضيف صاحب الدار واستمرت هذه الحالة طيلة فترة عملنا هناك .
مر علينا اثناء فترة العمل في قرى الصبيحات في ناحية الكرمة شهر رمضان المبارك . وكان كل المسلمين هناك يصومون رمضان بضمنهم العمال المحليين العاملين معي، وكلهم يعرفون ان مهندس الكهرباء العامل في خدمتهم لأيصال شبكة الكهرباء الوطنية لبيوتهم وقراهم هو مسيحي ولاشأن له بصيام رمضان المبارك .
كان اهل المنطقة والقرية يتوقفون عن ذبح الخراف لاطعامي و عمالي في رمضان لأنهم صائمون . ولكن كرمهم يابى عليهم ان يتركوني بلا غذاء وقت الظهر ولغاية الغروب حتى اصل لبيتي في بغداد مساء . فكانوا ومن غير علمي ايضا و بدون ان اوافق على تصرفهم ، يذبحون لي دجاجة و يطبخونها مشوية او مطبوخة مع الرز ويقدمونها لي بصحن خاص لي وحدي وقت الاستراحة بالرغم من اعتراضي المستمر على ذلك احتراما لمشاعرهم . ولكنهم يرفضون اعتراضي باصرار.
في وقت استراحة العمال من العمل ظهرا لمدة ساعة واحدة ينادينا صاحب الدار المضيف لنا ذلك اليوم ويدعوني للغداء في ديوانية داره الواسعة ، فيجلس هو و بقية العمال كلهم في محيط الديوانية وقد لفوا وجوههم باليشماغ ، صامتين جائعين ينظرون لي و انا آكل وحدي ، وكنت اشعر بحرج كبيرمن الاكل امام مجموعة من الاخوة الصائمين الجائعين . لم اشعر يوما لا بتلميح ولا بتصريح ان احدهم تذمر من هذه الحالة لأني اكل وهم صائمون . ولم يظهر على اي منهم ما يشعرني اني غريب عنهم ، كانوا يعتبروني كابن العشيرة وابن القرية و واحد منهم تماما ، وحبهم لي يزداد كل يوم .
في حكاية اخرى بنفس الضروف اتذكرها جيدا .
في احد الايام من مسيرة العمل التي عملت فيها بالقرية مع عمالي ، كنا منهمكين بالعمل ، ولم يستضيفنا احد في ذلك اليوم ، حيث كان صاحب الدار الذي نعمل بقربه في بغداد لأنجاز عمل ما . وعاد الى القرية عند انتهاء عملنا وقت الغروب و كنت منشغلا بدفع اجور العمال ، ركبت سيارة البيكب للعودة الى بغداد وانا متعبا دون ان انتبه لشئ . وسرت مسافة كيلومتر واحد ، فسمعت صوت مواء حمل صغير في مؤخرة السيارة البيكب . توقفت بالسيارة واذ بي اجد حملا صغيرا مربوطا في حوض السيارة ،استغربت من وجوده في سيارتي ، فعدت راجعا للقرية لأستفسر عمن وضع الخروف الصغير في سيارتي و نساه . فلم اجد احد فزمرت بمنبه السيارة في القرية ، فخرج صاحب الدار الذي كنا نعمل بقربه ، وسألته هل تعلم لمن هذا الخروف الصغير و من وضعه بسيارتي ونساه . فأبتسم الرجل وقال لي : لا تقلق انا من وضعته بسيارتك لتأخذه معك ليلعب معه ابنك الصغير ، لأنني لم اقم بواجب ضيافتك هذا اليوم لوجودي في بغداد ولم استطع ذبح الخروف لك ولعمالك كغذاء اليوم و اعتذر عن عدم الاستضافة في بيتي …
هذا نموذج لشيم العرب الاصلاء و محبة اخوتنا المسلمين للمسيحيين في بلد الحضارات والتآخي في العراق لما قبل الغزو الامريكي والغزو الداعشي لوطننا الغالي بلد آشور و سنحاريب و حمو رابي و هارون الرشيد وعلي بن ابي طالب .
تذكرت هذه الحكايات وانا اقرأ مآسي اخواننا المسيحيين واليزيديين و السنة والشيعة في بلد يقاتل اليوم اكبر غزوة همجية لغلاة الارهاب والتدين الكاذب في بلاد الرافدين . و سياسيوا كل طائفة تطعن بالطائغة الاخرى والكل في ضياع .
اين انت يا عراق الامس حيث كل العراقيين اخوة لا يفرق بينهم دين ولا مذهب و لا طائفة ؟ واليوم ملايين العراقيين مهجرين ومهاجرين في داخل الوطن وخارجه هل تعود ايام المحبة والتآخي بين شعبك الواحد يا عراق الرافدين ؟
واحسرتاه على ايام زمان .
-
بحث موقع مفكر حر
-
أحدث المقالات
-
- قوانين البشر تلغي الشريعة الإسلاميةبقلم صباح ابراهيم
- ستبقى سراًبقلم عصمت شاهين دو سكي
- #إيران #الولي_الفقيه: تأجيل قانون العفة والحجاب… ما القصة؟!بقلم مفكر حر
- إشكالية قبول الأخربقلم مفكر حر
- موسم إسقاط الدكتاتوريات في #الشرق_الأوسط!بقلم مفكر حر
- ردود فعل مسؤولي #النظام_الإيراني على #سقوط_الأسد: مخاوف من ملاقاة نفس المصيربقلم حسن محمودي
- ** من وراء محاولة إغتيال ترامب …إيران أم أذرع الدولة العميقة **بقلم سرسبيندار السندي
- ** هل إغتيال هنية في طهران … فخ لهلاك الملالي وذيولهم أم مسرحية **بقلم سرسبيندار السندي
- ** هَل فعلاً تمكّن إبليس مِن العاصمة بَاريس … في عهد ألمسخ ماكرون **بقلم سرسبيندار السندي
- ** كَيْف رصاصات الغدر للدولة العميقة … أحيت ترامب وأنهت بايدن **بقلم سرسبيندار السندي
- ** العراق والمُلا أردوغان … ومسمار حجا **بقلم سرسبيندار السندي
- ** صدقوا أو لا تصدقو … من يرعبهم فوز ترامب وراء محاولة إغتياله وإليكم ألأدلة **بقلم سرسبيندار السندي
- ** هل تخلت الدولةٍ العميقة عن باْيدن … ولماذا ألأن وما الدليل **بقلم سرسبيندار السندي
- مقارنة بين سيدنا محمد في القرآن وسيدنا محمد في السنة.بقلم مفكر حر
- ** تساءل خطير وحق تقرير المصير … هل السيّد المَسِيح نبي أم إله وما الدليل **بقلم سرسبيندار السندي
- ابن عم مقتدى الصدر هل يصبح رئيساً لإيران؟ طهران مشغولة بسيناريو “انقلابي”بقلم مفكر حر
- ** ما سر تبرئة أل (سي .آي .أي) لبوتين من إغتيال نافالني ألأن **بقلم سرسبيندار السندي
- المجزرة الأخيرةبقلم آدم دانيال هومه
- ** بالدليل والبرهان … المعارف سر نجاح ونجاة وتقدم الشعوب وليس الاديان **بقلم سرسبيندار السندي
- رواية #هكذا_صرخ_المجنون #إيهاب_عدلان كتبت بأقبية #المخابرات_الروسيةبقلم طلال عبدالله الخوري
- قوانين البشر تلغي الشريعة الإسلامية
أحدث التعليقات
- منصور سناطي on من نحن
- مفكر حر on الإنحراف الجنسي عند روح الله الخميني
- معتز العتيبي on الإنحراف الجنسي عند روح الله الخميني
- James Derani on ** صدقوا أو لا تصدقو … من يرعبهم فوز ترامب وراء محاولة إغتياله وإليكم ألأدلة **
- جابر on مقارنة بين سيدنا محمد في القرآن وسيدنا محمد في السنة.
- صباح ابراهيم on قراءة الفاتحة بالسريانية: قبل الاسلام
- س . السندي on ** هل تخلت الدولةٍ العميقة عن باْيدن … ولماذا ألأن وما الدليل **
- الفيروذي اسبيق on مقارنة بين سيدنا محمد في القرآن وسيدنا محمد في السنة.
- س . السندي on مقارنة بين سيدنا محمد في القرآن وسيدنا محمد في السنة.
- عبد الحفيظ كنعان on يا عيد عذراً فأهل الحيِّ قد راحوا.. عبد الحفيظ كنعان
- محمد القرشي الهاشمي on ** لماذا الصعاليك الجدد يثيرون الشفقة … قبل الاشمزاز والسخرية وبالدليل **
- عزيز الخزرجي فيلسوف كونيّ on أفضلية الإمام عليّ (ع) على آلرُّسل :
- عزيز الخزرجي فيلسوف كونيّ on أفضلية الإمام عليّ (ع) على آلرُّسل :
- عزيز الخزرجي فيلسوف كونيّ on أفضلية الإمام عليّ (ع) على آلرُّسل :
- س . السندي on رواية #هكذا_صرخ_المجنون #إيهاب_عدلان كتبت بأقبية #المخابرات_الروسية
- صباح ابراهيم on ** جدلية وجود ألله … في ضوء علم الرياضيات **
- س . السندي on الفيلم الألماني ” حمى الأسرة”
- Sene on اختلاف القرآن مع التوراة والإنجيل
- شراحبيل الكرتوس on اسطورة الإسراء والمعراج
- Ali on قرارات سياسية تاريخية خاطئة اتخذها #المسلمون اثرت على ما يجري اليوم في #سوريا و #العالم_العربي
- ابو ازهر الشامي on الرد على مقال شامل عبد العزيز هل هناك دين مسالم ؟
- س . السندي on ** هل سينجو ملالي إيران بفروة رؤوس … بعد مجزرة طوفان الاقصى وغزة والمنطقة**
- مسلم on قراءة الفاتحة بالسريانية: قبل الاسلام
- الحكيم العليم الفهيم on أفضلية الإمام عليّ (ع) على آلرُّسل :
- المهدي القادم on قراءة الفاتحة بالسريانية: قبل الاسلام
- Joseph Sopholaus (Bou Charaa) on تقاسيم على أوتار الريح
- س . السندي on النظرة الفارسية الدونية للعرب المسلمين أصولها، أسبابها ونتائجها/3
- س . السندي on اوبنهايمر
- محمد on مطالعة الرجل لمؤخرة النساء الجميلات
- ألعارف الحكيم : عزيز الخزرجي on أفضلية الإمام عليّ (ع) على آلرُّسل :