أهكذا تبنى الخلافة وبهؤلاء؟ عمليات بروكسل يوم الثلاثاء قبل الماضي كانت الثالثة التي هزت أوروبا منذ بداية العام الماضي، وعمليات لاهور يوم الأحد الماضي، التي قال إحسان الله إحسان الناطق باسم «جماعة الأحرار» أن هدفها كان المسيحيين فقتلت 70 شخصًا أغلبهم من النساء والأطفال، وصفها الناطق باسم رئاسة الوزراء الباكستانية بأنها «الشرير بذاته». «حركة الأحرار» (الاسم مضحك ومبكٍ)، انشقت عن طالبان باكستان (غير متشددة برأيها) وانضمت إلى «داعش» عام 2014.
عمليات بروكسل قيل إن من نفذها إرهابيون يتشاركون في الأفكار الإسلامية المتشددة التي يعمل بها تنظيم داعش. لكن ما نعرفه الآن أن الهجمات قام بها شقيقان يجمعهما تاريخ من السجون: الأخوان إبراهيم وخالد البكراوي، عام 2010 حكم على إبراهيم بالسجن بتهمة السطو المسلح، وفي العام التالي أدخل خالد إلى السجن لسرقة السيارات وحيازة السلاح.
يمكن للسجون أن تكون بمثابة حاضنة للإسلاميين المتشددين. عمليات بروكسل جاءت بعد أيام من اعتقال منفذ عمليات باريس في نوفمبر (تشرين الثاني) الماضي، صالح عبد السلام. لعبد السلام تاريخ إجرامي واسع، عام 2010 سجن بتهمة السرقة. منفذا هجوم «شارلي إيبدو» سعيد وشريف كواشي كانا معروفين للسلطات بسبب تاريخهما الإجرامي. شريف أمضى سنتين في سجن «فلوري ميروجي» في فرنسا حيث التقى وتطرف على يد أحد السجناء المنتسبين لتنظيم «القاعدة»، الجزائري جمال بقال. زميل شريف في الزنزانة كان أميدي كوليبالي الذي قتل لاحقًا شرطية فرنسية وأربع رهائن في المتجر اليهودي وسط باريس.
تبني «داعش» لهجمات بروكسل كشف عن خطورة هذا التنظيم بالنسبة إلى التدريب والتجهيز والقدرة التكتيكية على شن الهجمات في أوروبا. على الرغم من أن الهجوم بدا وكأنه رد «داعش» على استفزازه باعتقال عبد السلام حيًا، فاضطر إلى تقديم توقيته لأنه كان يجب أيضا أن يتزامن مع عيد الفصح عند المسيحيين. ما أكد أن الهجوم كان وشيك الوقوع أن المواد المتفجرة والكيماوية وجدت في شقة المهاجمين، كما أن الأهداف لم تكن عشوائية بل مخطط لها.
مع استمرار البحث عن الإرهابيين، كثرت التساؤلات حول مكان الهجوم المقبل، وكيف سيكون، كذلك التوقعات بشكل أشمل، وكيفية المكافحة الحقيقية لخلايا «داعش» في أوروبا الغربية.
مجموعة من الخبراء الأمنيين الغربيين حددت عدة اتجاهات من شأنها أن يتردد صداها في أوروبا والعالم:
1- الهجمات الإرهابية في أوروبا ستزيد خلال 18 إلى 24 شهرًا مقبلاً.
2- سيزيد المتشددون من التسبب بعدم الاستقرار في دول مثل الأردن وتركيا وبعض دول الخليج.
3- الإرهاب في أفريقيا سيتوسع عدديًا وجغرافيًا، وسيؤدي إلى زعزعة الاستقرار بشكل كبير في دول شمال أفريقيا ما يستوجب مراقبة الصحراء الغربية.
4- سيوسع المتطرفون نشاطهم ويركزون على جنوب وجنوب شرقي آسيا.
5- الأزمة الإنسانية ستستمر ما لم يغير الحلف الأطلسي والولايات المتحدة تكتيكاتهما واستراتيجيتهما ويبدآن في معالجة جذور القضايا بشكل جذري.
كل هذه التوجهات ستؤثر بشكل كبير على أوروبا لأنها تقع في الخطوط الأمامية لتلقي الكوارث الإنسانية، إذ تسببت الهجرة غير المنظمة لمئات الآلاف من اللاجئين الهاربين من سوريا والعراق وليبيا بتهديد مباشر للواقع الأوروبي، الدول الثلاث دول فاشلة، ولا سجلات تسمح بتدقيق الذين يريدون المجيء إلى أوروبا.
الوضع الإنساني المتشابك سمح للإرهابيين بالاختلاط السهل، ثم إن تزوير الوثائق يعتبر تجارة مربحة لـ«داعش». لن تستطيع هيئات الخدمات الاجتماعية، أو قوى الأمن استيعاب التطورات التي ستستجد، مع العلم أن الدور الرئيسي لأي حكومة يكمن في توفير السلامة والأمن لأبنائها.
وكما أيقظت عمليات لاهور الأخيرة ردود فعل صارمة لأن مقاطعة البنجاب هي المعقل السياسي لرئيس الوزراء نواز شريف، فربما سببت اعتداءات الإرهابيين على مطار بروكسل ومترو الأنفاق صدمة للسلطات السياسية لمواجهة هذه «الحرب» القاتلة فهي حاولت سابقًا جاهدة تجنبها أو الاعتراف بخطورتها، فسقطت أرواح بريئة ضحية للإرهاب.
الأوروبيون غاضبون بسبب القرارات التي اتخذتها السلطات المنتخبة لديهم. وهنا يكمن خطر أكبر.
من المهم أن ندرك، أن «داعش» يعتمد ارتكاب المجازر كوسيلة لتحقيق غاياته. هدفه من العمليات الدموية إضعاف الثقة في قدرة المجتمعات المفتوحة والحرة والحضارية على حماية مواطنيها، فيقوض مبادئ الديمقراطية، ويدفع بالتالي إلى مجتمعات متوترة تعتمد على التجسس على مواطنيها، أي تمامًا كالمجتمع الذي يبنيه «داعش».
هنا تكمن الخطورة، لأن القوى اليمينية المتطرفة في أوروبا تراقب نجاح الخلايا الإرهابية في إضعاف آلية دفاع الحكومات الأوروبية، ستبدأ الآن دعوتها لرص الصفوف ضد المتشددين. شاهدنا كيف اقتحم اليمين المتطرف مظاهرة بروكسل يوم الأحد الماضي، وأدى التحية على الطريقة النازية.
قبل باريس، كانت منطقة «مولنبيك» في بروكسل لا تدخلها الشرطة. وقالت نائبة بلجيكية على القناة الثانية لـ«بي بي سي»، ليلة الهجمات، كان هناك «اتفاق ضمني» بين الحكومة البلجيكية والمتشددين في مولنبيك: «لا نتدخل فيكم مقابل ألا تقوموا بعمليات إرهابية في بلجيكا». لكن عمليات باريس قلبت الأوضاع رأسًا على عقب. لذلك تصاعدت اتهامات «الجبن الأخلاقي»، كسبب رئيسي لبعض حكومات أوروبا الغربية، باستثناء بريطانيا، بألا تتدخل في هذه الأحياء المتطرفة وعدم التصدي لتصاعد التطرف. هذه الأحياء صارت حاضنات جديدة للإرهاب.
منذ شهر ديسمبر (كانون الأول) الماضي، تحول الميل إلى اليمين المتطرف واقعًا في أوروبا، في الأساس على خلفية مكافحة الهجرة، واقتحم اليمينيون المتطرفون وأحزابهم صلب السياسة الأوروبية كناخبين متمردين على حكم الأغلبية الاشتراكية أو يمين الوسط، كثرت المظاهرات وامتدت من اليونان، إلى ألمانيا وسويسرا والسويد. في فرنسا كادت مارين لوبان و«الجبهة الوطنية» أن يسيطرا على أجزاء كبيرة من البلاد، لولا اتفاق الاشتراكيين ويمين الوسط لمنعهما، وأدارت المجتمعات المعروفة بليبراليتها في الدول الاسكندنافية ظهرها للمعتدلين في ظل ضغط «اللاجئين» غير المسبوق.
استغل اليمين المتطرف في أوروبا أزمة اللاجئين التي تخللها هجوم صاعق ليلة رأس السنة من شبان من شمال أفريقيا على الفتيات والنساء في ألمانيا، وكأن كل شيء مباح لهم، فحشد اليمين المتطرف ويحشد المشاعر. وبما أن الطبيعة لا تقبل الفراغ، يقوم اليمين المتطرف باستغلال هذا الفراغ السياسي الفوضوي. النمسا والدنمارك وفنلندا والسويد والمجر (في أوروبا الشرقية) وهولندا تشهد الآن زيادة مفرطة في القومية بسبب أزمة اللاجئين الذين استغلهم «داعش».
المزيد من الهجمات الإرهابية سيقوي عزم القوميين المتطرفين. أوروبا لن تقبل بعودتهم، لكن لا توجد دولة تتسامح والحرب تشن ضدها. الإرهاب أمضى من الحرب التقليدية خصوصًا إذا استعمل الدين كوسيلة وسلاح لتغيير صلب مجتمعاتها.
أدرك الغرب أن العناد الفاتر الذي كان يبديه في سياسته الخارجية كان نقطة ضعف كبيرة. العدو على الأبواب والحضارات لا تحافظ على بقائها باعتماد وسائل غير عنيفة. دعا توني بلير رئيس الوزراء البريطاني السابق في مقال نشره الأحد الماضي في «الصنداي تايمز» البريطانية إلى تضافر عسكري دولي، يشمل العرب، لاستئصال «داعش»، هذه دعوة صائبة لأن وقف النزف الإرهابي الهائل هو البديل الوحيد لوقف الانزلاق نحو تطرف من كل الأنواع.
إذا ظللنا حريصين على «الصواب السياسي» ستبقى الساحات مفتوحة لإرهاب «داعش» وشركاه. عندها لا يجب أن نستغرب «اقتحامات» دونالد ترامب أو إصرار حزب «بهاراتيا جاناتا» (بي جي بي) في الهند على استخدام القومية المتطرفة، وعندها سيكون الدين والعرق الضحيتين!