موقع المصري اليوم
فى يوم الجمعة – الثانى من هذا الشهر – ذهب الدكتور محمد مرسى، رئيس الجمهورية، إلى مدينة أسيوط يصلى الجمعة كما أصبح يفعل فى هذه الأيام، فيوزع جمعه على المدن المصرية منتهزاً فرصة اجتماع الناس لأداء هذه الفريضة لينتقل من موقف الرئيس المنتخب المسؤول أمام جماعة المواطنين إلى موقف الإمام الخطيب الواعظ الناصح، الذى يقول ويحكم، ويأمر وينهى، ويهدد ويتوعد، خالطاً بين السياسة والدين، مستدعياً فى جماعة المصلين شعورهم بالهيبة والرهبة والسكوت والإذعان، وليس وعيهم السياسى بأنهم هم مصدر السلطة وأصحاب الثورة التى حملت المتحدث إليهم من ظلمة السجن إلى سدة الرئاسة: فماذا قال السيد الرئيس للناس فى أسيوط؟
قال لهم إن هناك تيارات ثقافية وفكرية تحاول أن تغير هوية مصر العربية الإسلامية!
كيف؟
هل يوجد فى مصر اليوم حزب أو جماعة تدعو للتخلى عن الإسلام واعتناق دين آخر؟ أو تعمل على إحلال اللغة الإنجليزية أو الصينية مثلاً محل اللغة العربية؟!
إن خاطراً من هذا النوع لا يمكن أن يخطر إلا لشخص يعتقد أن الإسلام دين أجنبى طارئ، وأن اللغة العربية ليست لغة المصريين، إنما هى لغة مفروضة عليهم. فإذا صح أن يكون الأمر كذلك يوم فتح العرب مصر فهو اليوم كلام باطل لا معنى له. وإذا جاز لبعض المهيجين أن يرددوه، هل يجوز للسيد الرئيس؟
الإسلام اليوم هو دين المصريين، كما أن المسيحية دينهم أيضاً، وحين نقول إن الإسلام دين المصريين نقصد أن نقول إن الإسلام فى مصر تمصر، كما تمصرت المسيحية فيها. وإذا كان المصريون قد أخذوا إسلامهم عن أهل السنة وظلوا أوفياء لهذا الإسلام السنى الذى لا يختلف فى مصر عنه فى الحجاز، أو فى تركيا، أو المغرب، فقد فقه المصريون الإسلام على النحو الذى يتفق مع ما لهم من خصائص وخبرات ومطالب ليست لغيرهم. ويكفى أن أشير هنا إلى دور المصريين فى نشأة التصوف الإسلامى الذى هو دورهم فى نشأة الرهبنة المسيحية. ويكاد يجمع المؤرخون على أن ذا النون المصرى، الذى عاش بين أواخر القرن الثانى الهجرى وأواسط الثالث، «هو أحق رجال الصوفية على الإطلاق بأن يطلق عليه اسم واضع أسس التصوف» كما يقول نيكلسون. ويعتقد المؤرخون أنه كان نوبياً، ويقول بعضهم إنه كان من أخميم. ومعنى هذا أن أصوله مسيحية. ويروى المسعودى أنه كان كثير التطواف بالآثار المصرية القديمة، وأنه «وفق إلى حل كثير من الصور والنقوش المرسومة عليها». وهكذا تمثلت الحضارة المصرية بكل تجلياتها فى رجل واحد.
ولست فى حاجة للإشارة إلى المكان العالى الذى يحتله الأزهر فى دنيا الإسلام، ولما قام به المصريون فى نشر الدين الحنيف فى السودان وفى شرق أفريقيا وغربها، وهو يذكر بدورهم فى نشر المسيحية فى الحبشة.
والدور الذى لعبه المصريون فى خدمة الإسلام ونشره وإثراء فكره وتجديده، لعبوه فى خدمة اللغة العربية وحفظ تراثها وتجديده وتزويده بما لم يكن فيه من قبل.
فى العصور الوسطى حين سقطت الأندلس فى أيدى الملوك الكاثوليك، وسقطت بغداد فى أيدى التتار لم تجد الثقافة العربية إلا مصر ملجأ آمناً. وحين أوشك عصر الانحطاط أن يقتل الفصحى نهضت مصر لتحيى الفصحى شعراً ونثراً، وتجعلها لغة الحديث والصحافة والسياسة والقانون، وتنشئ فيها فنوناً لم تكن تعرفها، فالمسرح العربى فن مصرى بفضل شوقى وتوفيق الحكيم، والرواية العربية فن مصرى بفضل هيكل ونجيب محفوظ الذى انتزع وحده الجائزة العالمية الكبرى للأدب العربى.
كيف خطر للرئيس إذن أن يتحدث عن محاولة لتغيير هوية مصر العربية الإسلامية؟ كان هناك من يحاول بالفعل، وكأن محاولته خطر حقيقى يستحق أن يتحدث عنه رئيس الجمهورية ويحذر منه!
لا، فليست هناك قوة فى الأرض تستطيع أن تغير هوية مصر العربية الإسلامية، لأن العروبة والإسلام ليسا رداء معاراً تلبسه مصر وتخلعه، إنما هما مصر التى اعتنقت الإسلام ونطقت بالعربية وتمثلت فيهما كما تتمثل الروح فى الجسد.
لكن هوية مصر لا تختزل فى العروبة والإسلام، إنما هى مصر كلها بتاريخها كله وحضارتها كلها، مصر الفرعونية، ومصر المسيحية – القبطية، ومصر العربية الإسلامية وصولاً إلى مصر الحديثة التى هى المركب الناضج، المؤلف من كل ما عرفته مصر وجربته واستفادت منه، وشقيت به فى تاريخها الطويل الحافل.
وقد يظن البعض أن الحاضر يمحو الماضى، وأن الجديد ينفى القديم، وهذا وهم، لأن الحضارة الإنسانية خبرات تتواصل وتتداخل وتتفاعل، فلا يمكن فصل إحداها عن الأخرى، غير أن البعض يخلط بين الخبرة الإنسانية والزمن الذى تتحقق فيه فيخيل له أن ما عرفناه بالأمس ضاع مع الأمس الضائع، وهذا خلط ساذج لو صح لما تطورت الحضارة ولا تقدم الإنسان خطوة للأمام، إنما يواصل الماضى حياته فى الحاضر، ويرث الأبناء والأحفاد ثقافة الآباء والأجداد كما يرثون ملامحهم.
وأنا أقرأ اليوم عن مصر القديمة فلا أشعر بالفخر فحسب، بل أشعر أيضاً بالحاجة الماسة، حاجتنا وحاجة غيرنا لهذا التراث الحى الذى خلفناه وراءنا وأهملناه ونسيناه، هذه الأمة الخيرة بطبيعتها الأسبق من غيرها إلى الحق والخير والعدل وسن القوانين والامتثال لصوت الضمير، وهذه الروح التى لم تكتف بحياتها الدنيا فاكتشفت الطريق إلى الآخرة. وهذه الطاقة المبدعة المتمثلة فى هذه المعابد، وهذه المقابر، وهذه التماثيل، وهذه الصور، وهذه التراتيل، وهذه الأغانى التى لاتزال حية نابضة بالحياة حتى اليوم وحتى الغد، وهذا المجتمع الراقى الذى خلا من العبودية وتساوى فيه الرجال والنساء.
ولقد كانت المرأة المصرية فى العصور القديمة سيدة بيتها وشريكة زوجها فى الحقل وراعية أسرتها. ومصر القديمة لم تعرف البغاء ولا أسواق الرقيق، والمرأة المصرية مع ذلك حرة عفة سافرة.
والكلام يطول عن مصر الفرعونية، كما يطول عن مصر المسيحية التى ناضلت عن عقيدتها، وحولت كنيستها إلى حصن للاستقلال، وواصلت وجودها الحى فى حياتنا الحاضرة. يكفى أن أشير إلى التقويم القبطى الذى لا يستطيع الفلاح المصرى أن يعيش بدونه لأنه دليله الوفى الصادق لمعرفة الطقس، وحراثة الأرض، وبذر الحب، وحصاد الغلة، ومع ذلك فمصر القديمة منفية من ثقافتنا السائدة منبوذة مضطهدة، وهذا هو الواقع الذى كنا ننتظر من السيد رئيس الجمهورية أن يشير إليه وهو يتحدث عن هوية مصر وعن التيارات التى تحاول أن تغيرها.
من الطبيعى أن يتحدث السيد الرئيس عن هوية مصر العربية الإسلامية، وأن يطالبنا بأن نعتز بها ونلتف حولها فى مواجهة الأخطار التى يمكن أن تتعرض لها، والتيارات التى يعتقد الدكتور مرسى أنها تريد أن تغيرها. لكن الدكتور مرسى لم يسم هذه التيارات، ولم يقدم مثلاً واحداً أو دليلاً على محاولات تغيير الهوية العربية الإسلامية لمصر، فى الوقت الذى تجاهل فيه تجاهلاً تاماً ما يتعرض له تراثنا القديم الفرعونى والمسيحى وثقافتنا الحديثة من تهديدات فعلية وأخطار ماثلة ملموسة.
تاريخنا الفرعونى مهمل.. وآثارنا تسرق وتهرب.. واللغة القبطية لا مكان لها فى مؤسساتنا العلمية.. وثقافتنا الدينية متأثرة بالأساطير الإسرائيلية المعادية لمصر والمصريين.. وقد رأينا كيف وقف شيخ سلفى يدعو لهدم الأهرام وأبى الهول! وكيف تلاه شيخ آخر جمع بين الجهالة والبذاءة فقال، فض فوه، إن الأهرامات شيدت بواسطة الدعارة التى مارستها بنات خوفو وخفرع ومنقرع، ثم تبعهما متحدث آخر وقف يقول فى ندوة عقدت بالإسكندرية حول الهوية المصرية إن الحضارة المصرية القديمة لم يبق منها إلا «الأصنام»! ثم لم يكتف بهذا القدر من الجهل والتنكر للأصل، إنما زاد فقال: إن النهضة المصرية الحديثة كلها من أول محمد على إلى اليوم، كتابات طه حسين، وسلامة موسى، ولويس عوض، وأشعار صلاح جاهين، خروج على الإسلام وطمس لهوية مصر العربية الإسلامية! فإذا عرفنا أن هذا المتحدث قيادى إخوانى كما ذكرت الصحف التى نقلت أخبار الندوة، وأن حزب «الإخوان المسلمون» هو الذى عقد الندوة وحدد موضوعها، أدركنا أن ما قاله الدكتور محمد مرسى فى أسيوط ليس بعيداً عما قاله القيادى الإخوانى فى الإسكندرية، وما قاله الشيوخ السلفيون فى التليفزيون، وإذا كان السلفيون يريدون هدم الأهرام فالإخوان يريدون هدم الدولة المدنية، وهدم الديمقراطية، وهدم الدستور الذى يفصلونه الآن على مقاسهم، ولهذا يختزلون فيه هوية مصر، ويستبعدون خمسة آلاف عام من تاريخها القديم ومائتى عام من نهضتها الحديثة، ويعتبرون الأحزاب المدنية والقوى الديمقراطية تيارات هدامة، فلابد من مقاومتها واستبعادها وإعادة مصر إلى ما كانت عليه فى العصور الوسطى، وتلك هى النهضة التى يعدنا بها السيد رئيس الجمهورية، نهضة طالبانية لا علاقة لها بمصر، ولا علاقة لها بالإسلام!