بمناسبة إعلان 2017 سنة “مخافة الرب”.
المطران د. يوسف توما *
يسود على الكثير من المتدينين عقلية ان الديانة هي قبل كل شيء هي لإخافة الناس: يخيفونهم مما بعد الموت، من الجحيم، من النيران الأبدية، من حيل الشيطان… وهذا نوع من التكتيك، “فعندما يسود الخوف – كما يقول العالم النفساني سيجموند فرويد (1856 – 1939) – تتحول الحياة رعبًا”. هذا الخوف قد يعود إلى سنوات الطفولة حيث يلجأ كثير من الأهل، في سياق تربيتهم، إلى تخويف الطفل كنوع من السهولة: كأن يقال له بأن الله سينتقم منا، أو يعاقبنا. أو عندما يتأذى الطفل أو يجرح، يقال له: أترى؟ كان ذلك عقابا من الله، لأنك لم تسمع الكلام…”. وقد يمتد هذا الأسلوب إلى جميع المؤسسات الاستبدادية التي تميل إلى فرض العقائد على كونها أبدية منقوشة في الحجر، وبالتالي سيحفز الناس على قبول الظلم والاستبداد لمجرد الحصول على الراحة والأمان.
بهذا الأسلوب يضحّي الإنسان بالحرية ويتنازل عنها، وهو بذلك ينبذ الضمير الناقد، ويغوص في الاستسلام للقوة وتصبح كل سلطة غاشمة عليه، ويلبس الجبناء ثوب الدين الكاذب ويدّعون القدرة في التأثير على تحصيل حماية متعالية ومتجبرة. وهذا ما حدث في كل زمان ومكان، حتى في القرون الوسطى في زمن محاكم التفتيش، وإبان جميع الأزمنة التي سادت فيها الدكتاتورية. وفي البلاد المغرورة التي تربّى فيها الناس على كراهية الأجانب والمختلفين عنهم، فيصعد البعض على أكتاف الخوف من الإرهاب، وتتشكل الهويات انطلاقا من شرائح مذهبية ودينية التي توزّع الأحكام القطعية على الهوية وتقيّم من هو شرير بحيث يضع هؤلاء أنفسهم في موضع الله، وتتشدق مثل هذه الأنظمة بالوعود بقدرتها على تحرير أتباعها من الشرور، من خلال ممارسة القسوة وجعل العنف أمرا عاديا بطرد كل من يختلف عنهم، كما لو كانت فيه أرواح شريرة، ويدّعي أولئك القدرة على إجراء علاج مجتمعاتهم، وشفاء الأمراض، في حين هم بكل بساطة دجالون يضَلِلون البسطاء والسذّج من الناس ليتحكموا بهم.
ما أكثر الذين باسم التصفية العرقية أو الدينية تمّت على يدهم إبادة الملايين من الشعوب الأصلية لدى استعمارهم للدول. وباسم نقاء العرق أو الاعتقاد بأن مجرد انتمائهم إلى الشعب الفلاني يكفي ليكونوا فوق الناس. هكذا بنى النازيون معسكرات الموت إبان الحرب العالمية الثانية وألقى الشيوعيون في معتقلات الكولاك
(gulags)
مئات الآلاف من المرحلين إلى سيبيريا. وباسم الاشتراكية قضى ستالين على 20 مليون من الفلاحين. وباسم الدفاع عن الديمقراطية انتشرت على يد الولايات المتحدة الحروب في الماضي البعيد والقريب، وزرعت الديكتاتوريات الدموية في كل مكان!
اليوم باسم العلم والمنجزات الطبية يقتنع الناس بتنازلات خطيرة، ثقة بأنها من مصادر علمية وطبية، ويضحّون بجزء كبير من دخل الأسرة لأمور لا فائدة فيها من أمور كاذبة
(بلاسيبو placebo)،
فيتم استغلال الكثيرين، وهي بلا نتائج، لأنها لا تعالج ولا تشفي. بهذا تبقى المجتمعات فقيرة ومتخلفة، ويكثر فيها البحث عن المعجزة، عوض المطالبة بخدمات تعليمية وصحية جيدة، فتكاثر المعتقدات الوسواسية لا يمت إلى الديانة بصلة، بل هي أقرب إلى الشعوذة المتنكرة في زي الدين!
ديانة الخوف هي تلك التي تعلن أنها وحدها حقيقية وأن جميع البقية أديان ومذاهب محرفة، اثيمة، وثنية أو شيطانية. وبالتالي مثل هذه المواقف، من حيثما صدرت هي ما يعزز الأصولية، ويقود إلى العدوانية ويدعو إلى الاقتتال، ويعتبر أعداءً كل من لا يخضع للنص المقدس لتلك الديانة، بل حتى يُعَدّ كل تصرّف يقوم به أتباع الديانات والمذاهب الأخرى (أو حتى غير المتدينين) مخالفة تستحق العقاب، أو يأتي وقت يشكل الاختلاف عن هذا النهج جريمة، فيلاحق الجميع وينقلب التطرّف على أصحابه، حين يقوم من يغالي في التطرّف، فينقلب الأخيرون على الأولين ويشيطنونهم، فيصبح أولئك أكثر من يدفع الثمن من غيرهم، كما حدث في الجماعات التي بقيت تحت حكم داعش.
بسبب هذه المسارات ونتائجها الخطيرة من مشاكل اتجهت الدول الحديثة نحو الحكم المدني أو العلمانية، وقبل الجميع بفصل السلطة السياسية عن السلطة الدينية. وبالرغم من بقاء بعض القوى السياسية هناك بالمرصاد من تلك التي عادت لتتنكر في زي السلطة الدينية “بثياب الحملان وهم في الداخل ذئاب خاطفة” (متى 7/15)، في مناطق عديدة من العالم عادت بأشكال جديدة من العقيدانية (الدوغمائية)، لتستغل المشاعر الدينية، ولكي تنزل بها لاحتلال الساحات السياسية، مما عاد إلى الأديان والمذاهب بضرر كبير قبل غيرها، لأنه يحمّلها من العيوب أكثر مما يأتي إليها بالفوائد.
حتى السوق والتجارة وضعا نفسيهما في مصف الدين لكونهما مشربين بالصنمية الدينية، عندما يحاول كل منهما أن يقنعنا بأن تكون لدينا مصداقية “دينية” لما يباع لنا في محاول “اليد الخفية” وعبادة المال. كما أكد البابا فرنسيس: “إذا كان هناك أطفال ليس لهم ما يأكلون (…) وآخرون ليس لديهم سقف يقيهم البرد فيموتون في الشوارع، وهذا الأمر يكاد لا يستحق أن يكون مجرد خبر من بين الأخبار، لكن من ناحية أخرى، إذا ما انحدر سوق الأسهم التجارية عشر نقاط، فإن الجميع سوف يعتبر ذلك مأساة حقيقية”! (خطابه في أسيزي 5 حزيران 2013).
إن الدين الذي لا يمارس التسامح ولا يحترم التنوّع الديني ويرفض أن يحبّ أولئك الذين لا يلتزمون بعقيدته، ينبغي استبعاده والتنكر له. فالدين الذي لا يدافع عن حقوق الفقراء والمهمّشين ينطبق عليه ما قاله المسيح عن الفريسيين بأنهم يشبهون “القبور المطلية بالكلس” (متى 23/27). فحين تملأ مسامع أتباع الدين كلمات جميلة، في حين تكون جيوبهم مملوءة من المال الحرام، ألا يغشّون أنفسهم ويصبحون عبارة عن “مغارة لصوص” (لو 19/46)؟
إن المقياس الحقيقي للحكم على أي دين أو مذهب ليس ما يقوله هو عن نفسه، بل هو الدين الذي يحاول كل مؤمن به أن يفعل ما في وسعه لكي يكون مثمرا ويظهر أمام الجميع “مليئا بالحياة، والحياة بوفرة” (يو 10:10)، عندئذ سيتحقق العدل ويصير مصدرا للسلام.
إن الله الحي الحقيقي بالتأكد لم يخلقنا ولم يكشف نفسه لنا لكي نخدمه ونحبه لمجرد معرفتنا بنصوص وكتب مقدسة ولا بكثرة معابدنا، ولا بعقائدنا أو مبادئنا، ولكن الله يهمه كل أنسان “خلق على صورته ومثاله”: كل إنسان، وخصوصا الطفل والمتألم والمريض والذين يعانون من الجوع والعطش والمرض، والمتروكين والمضطهدين” (متى 25: 36-41)، حقا كل دين ومذهب ينطبق عليه مقولة: “من ثمارهم تعرفونهم” (متى 7/20).
• رئيس أساقفة كركوك والسليمانية للكلدان (العراق)
مواضيع ذات صلة: مطران الموصل على الاديان الاخرى ان تطور نفسها كما حدث بالمسيحية وعودة المسيحيين بعد استئصال سرطان داعش