عصور ما قبل التاريخ
د. عبد الوهاب حميد رشيد
1- العصور الحجرية في العالم
يُقصد بعصور ما قبل التاريخ
Pre-History
تلك المرحلة الزمنية الطويلة من تاريخ البشرية قبل أن يهتدي الإنسان إلى اختراع وسيلة التدوين (الكتابة). لذلك تعتمد دراسات هذه العصور على الدلالات الأثرية والانثروبولوجية التي يكتشفها علماء الآثار وعلماء الإنسان. وهي تختلف عن الدراسات التاريخية التي تعتمد الوثائق المدونة. كما درج الباحثون على تسمية عصور ما قبل التاريخ بـ (العصور الحجرية)
Stone Ages،
لأِن الإنسان في هذه العصور صنع آلاته وأدواته من الحجارة، رغم استخدامه كذلك وبقدر أقل العظام والقرون والأصداف والأخشاب. وتمتد هذه العصور منذ أقدم الآثار والمخلَّفات البشرية المكتشفة لغاية اكتشاف واستخدام الإنسان للمعادن(1).
ويرادف مصطلح بداية التاريخ طلائع نشوء الحضارة في مراكز الحضارات القديمة الأولى، وأقدمها حضارتا وادي الرافدين ووادي النيل، لتنتهي عصور ما قبل التاريخ فيهما بحدود مطلع الألف الثالث ق.م. ويرتبط بذلك أن نهاية عصور ما قبل التاريخ وبداية العصور التاريخية (ظهور الكتابة) تختلف بإختلاف البلدان والمواقع، فهي تحققت في القرن التاسع أو الثامن ق.م في اليونان، وتأخرت في أوربا وأمريكا الشمالية إلى القرن الأول ق.م، ولم تتعدَّ الألف الأول ق.م في شمال افريقيا(2).
امتدت عصور ما قبل التاريخ مسافة زمنية سحيقة استغرقت الجزء الأعظم من حياة الإنسان. قُدِّر عمر الأرض بحدود 3350 مليون سنة، بينما أعطى الفلكي البريطاني الشهير
Sir James Jeans
الأرقام التالية: عمر الأرض حوالي 3000 مليون سنة.. عمر الحياة على الأرض أكثر من 300 مليون سنة.. عمر الإنسان على الأرض بحدود 3 مليون سنة.. عمر الفلك حوالي 3000 سنة.. عمر التلسكوب الفلكي حوالي 300 سنة. وإذا علمنا أن عمر أقدم الحضارات البشرية (واديا الرافدين والنيل) قرابة خمسة آلاف سنة، عندئذ فهي تشكل 0.025% عند تقدير عمر الإنسان بمليوني سنة و 0.011% إذا قُدِّر بثلاثة ملايين سنة. بمعنى أن العصور الحجرية شغلت أكثر من 99.9% من تاريخ البشرية على الأرض قياساً بالزمن الحاضر(3).
وفي هذه الحقب المظلمة الممتدة، حقق الإنسان أثناء نموه البيولوجي الطويل تطوراً حيوياً رائداً في نمو حجم دماغه والقدرة على الوقوف والسير على القدمين والقدرة على تحريك أصابع اليد وضم الابهام اليها. هذه التطورات سهَّلت عليه صنع أدواته وآلاته. يُضاف إلى ذلك ابتكار اللغة التي ساعدته على التفاهم مع الآخرين من بني جنسه والانتظام في جماعات للحصول على طعام أفضل ودفاع أقوى ضد الخطر. وبفضل هذه التطورات العقلية والبدنية صار سيد الكائنات. وشهدت بدايات هذه العصور أثناء تطوره الحيوي أربعة أنواع بشرية: القرد البشري الجنوبي- جنوب وشرق افريقيا- قبل حوالي 1.750 مليون سنة، القرد المنتصب القامة- إنسان جاوة وإنسان الصين- عاش قبل أكثر من نصف مليون سنة، إنسان نياندرتال المتوحش قبل 100- 35 ألف سنة مضت، والإنسان الحالي (الإنسان العاقل)
Homo Sapiens
الذي ساد الكرة الأرضية بعد أن انقرضت الأنواع الثلاثة السابقة. وخلال هذه الفترة الطويلة جداً أكتشف الإنسان القديم النار وصناعة الأسلحة والزراعة والدجن والبناء والتعدين واختراع العجلة والفخار والحياكة(4).
تعارف الباحثون على تقسيم العصور الحجرية إلى ثلاث حُقَبٍ رئيسة وتخمين فتراتها، تبدأ قبل أكثر من نصف مليون سنة وتنتهي في حدود 20-10 آلاف سنة ق.م بإختلاف المصادر(5)، متمثلة في: العصر الحجري القديم/الأدنى، العصر الحجري الوسيط، والعصر الحجري الحديث/الأعلى.
عاش في العصر الحجري القديم (قبل 500- 200 ألف سنة) مخلوقات شبه بشرية، واستخدم الإنسان الآلات والأدوات الطبيعية من حجارة وأغصان قبل أن يهتدي إلى صنعها في الجزء الأخير من هذه الحقبة. وفي العصر الحجري الوسيط (قبل 150-120 ألف سنة) ظهر إنسان الكهوف وأفضل من يمثلهم إنسان (النياندرتال) المتوحش المنقرض. وهو عصر تمهيدي بين الاقتصاد المستهلك (جمع القوت) وبين الاقتصاد المنتج (إنتاج القوت)- الزراعة والدجن/الرعي. وبدأت محاولات الإنسان ترك الكهوف والعيش في المواقع المكشوفة ومحاولة زراعة نباتات برية وترويض بعض الحيوانات. تميز العصر الحجري الحديث- قبل حوالي 35 الف سنة- بظهور الإنسان العاقل في أوربا وآسيا وشمال افريقيا(6). يؤشر هذا العصر حصول ثورة اقتصادية عظيمة تجسَّدت في اكتشاف وممارسة الزراعة والدجن نهاية هذه الحقبة في حدود لا تقل عن عشرة آلاف سنة مضت. وهذا التطور “لم يصل إلى أوربا حتى العام 3000 ق.م بعد أن تجذَّر في منطقة الشرق الأدنى قبل ذلك التاريخ بوقت طويل(7)”. وبذلك سجَّلت هذه الحقبة انتقال الإنسان من مرحلة جمع القوت إلى مرحلة إنتاج القوت، وتركه الكهوف للاستقرار في الأراضي المكشوفة المنبسطة قرب مجاري ومصبّات المياه. امتدت آثار هذه الثورة الاقتصادية لتدفع بالإنسان تدريجياً العيش في مجموعات بشرية مستمرة في التوسع وظهور المجتمعات السياسية المنظمة. أما أين تم اكتشاف الزراعة؟ فالإِجابة عليها لا زالت غير محسومة، “لأِنَّ كلاً من العراق وفلسطين يحق لهما الإدعاء أنه امتلك أقدم القرى الزراعية.” ولكن “يمتاز العراق على فلسطين في هذا الشأن أمتلاكه أربعة مواقع يقع كل منها قرب الآخر في شماله الشرقي، وتُصور بمجموعها نقطة التحول من العصر الحجري الوسيط إلى العصر الحجري الحديث بشكل قاطع(8).”
وفي النصف الثاني من العصر الحجري الحديث اكتشف الإنسان استخدام المعادن، فسميت الحقبة بـ (العصر الحجري- المعدني). كما ظهر في هذه الحقبة أيضاً (عصر ما قبل السلالات). وهو عصر تمهيدي لقيام الحضارات التاريخية، شهد ازدياد القرى الزراعية وظهور المدن الصغيرة في الشرق الأدنى كالعراق وسوريا ومصر وإيران، وقيام المبادلات التجارية وظهور بدايات تقسيم العمل والتخصص وتعاظم حركة تنقلات الأقوام.
تتطابق العصور الحجرية القديمة من الناحية الجيولوجية مع العصور الجليدية Ice Ages التي شهدت أربع حُقَب زحفت خلالها الثلوج نحو المناطق الشمالية من نصف الكرة الشمالي حتى خط عرض 45 درجة شمالاً، متضمنة قارة أوربا وأمريكا الشمالية. بدأت منذ حوالي نصف مليون سنة وانتهت في حدود 16 ألف سنة ق.م، وسُميت هذه العصور الجليدية بِأسماء مناطق الثلاجات في جبال الألب:
GUNZ،
مندل MINDLE
، رس RUS،
روم WURM.
كان المناخ في المناطق الجليدية بارداً جداً، وهذه البرودة أثرت على الحياة النباتية والحيوانية والبشرية. لكن هذه العصور الجليدية الآربعة تخللتها ثلاث حقب سادت خلالها أوربا وأمريكا الشمالية الدفء والجفاف النسبي. بينما شهدت المناطق الجنوبية الواقعة تحت خطوط الجليد بضمنها الشرق الأدنى- التي لم يصل إليها الزحف الجليدي- عصر غزير بالأمطار
Plunial Period.
حتى الصحاري القاحلة حالياً مثل صحراء شبه الجزيرة العربية والصحراء الأفريقية كانت تتمتع بمياه وفيرة ساعدت على نمو النبات والحيوان، واستطاع إنسان العصر الحجري أن يعيش في تلك المروج الخضراء تاركاً أدواته وآلاته. بينما قابلت حقب الدفء والجفاف النسبي الغربية فترات من الجفاف في المناطق الجنوبية ومنها منطقة الشرق الأدنى مثلما حاصل حالياً. ومع استمرار فترات الجفاف والحرارة بدأت عملية التصحر وظهور الصحاري(10).
2- العصور الحجرية في وادي الرافدين
بدأ الإنسان القديم حياته وأقام مستوطناته في شمال البلاد واستمر في تجمعاته لتكبر تدريجياً وتمتد إلى المناطق الجنوبية. وأثناء تحركه من الكهوف الشمالية والشمالية الشرقية للمناطق المكشوفة القريبة من مجاري الأنهار، جاب بادية الرطبة والأقسام الغربية من البلاد، وترك مخلفاته- آثار حجرية وهياكل عظمية(11).
تميز مناخ بلاد الرافدين في العصور الجليدية بغزارة الأمطار، حتى أن البوادي القاحلة حالياً كانت آنذاك سهوباً عامرة بالنبات والحيوان ومجالاً ملائماً لإستيطان الإنسان. ومع حلول الحقبة الأخيرة من الجفاف المستمر، فإِنها دفعت إنسان الكهوف في مرحلة جمع القوت إلى انتاج قوته. ومع تعثر الزراعة المطرية في كثير من المواقع في ظروف اتساع التجمعات البشرية وامتدادها وحلول فترة الجفاف تدريجياً، أخذ إنسان العصور الحجرية البحث عن مناطق أُخرى تصلح لحياته الزراعية، فركن إلى الهجرة نحو وديان الأنهار، ودخل طلائع المستوطنين السهل الرسوبي (6000- 5000 ق.م) في تجربة قاسية فرضتها البيئة الجديدة لأِغراض الزراعة المروية(12).
لم يتم العثور على آثار إنسان العصر الحجري القديم حتى الآن في وادي الرافدين، بينما عُثِرَ على آثار العصر الحجري الوسيط في عدد من الكهوف والمواقع الاستيطانية شمال العراق تعود أقدمها إلى بداية هذا العصر. تُشير آثار الوجود البشري المكتشفة في كهف (بردة بلكا- ميل ونصف الميل شمال شرق جمجمال بين كركوك والسليمانية- إلى نحو 120 ألف سنة مضت. وآثار سكن في كهف هزار مرد- 12 ميل جنوب السليمانية- وكهف شانيدر- وادي الزاب الكبير، قرب راوندوز- لما قبل 60 ألف سنة مضت. وأكتشف ضمن الهياكل العظمية في كهف شانيدر على إنسان (نياندرتال)- المتوحش المنقرض. في حين تعود الآثار المكتشفة في كهف (زوري- شمال غرب السليمانية) إلى حدود 34 الف سنة(13).
حقق إنسان وادي الرافدين ثورة عظمى (اكتشاف الزراعية) بانتقاله من مرحلة جمع القوت والصيد إلى مرحلة الزراعة والدجن في وقت مبكر حوالي 7000 ق.م. تحققت هذه الثورة بمساعدة عاملين، على الأقل: سقوط كميات كافية من المطر، ووجود ستة أنواع من النباتات والحيوانات البرية القابلة للتدجين بسهولة (القمح، الشعير، الماعز، الغنم، الخنزير، البقر). بل وكانت البقعة الوحيدة في العالم القديم التي نمت فيها حبوب الحنطة والشعير البرية(14). وظهرت في هذا العصر أُولى القرى الزراعية في الوديان المنتشرة بين السلاسل الجبلية وفي الأراضي المتموجة قرب مصادر المياه. وتعد (جرمو) أقدم مستوطنة زراعية للعصر الحجري في العراق والشرق الادنى(15).
وهكذا كان شمال العراق مسرحاً للثورة الزراعية قبل أن تهب رياحها على أوربا بآلاف السنين. ففي هذه المنطقة كفَّ الإنسان أن يستمر صياداً متنقلاً معتمداً على مهارته وحظه في جمع قوته. فبدأ بممارسة الزراعة وارتبط بقطعة أرض صغيرة حقق من خلال عمله فيها غذاءه المعتاد. ومن الطين بنى بيته، واخترع أدوات جديدة لأِداء أعمال جديدة. وصارت الماشية والخراف مصدراً دائماً وسهلاً لتزويده باللحم والحليب والصوف والجلد. وفي نفس الوقت تطورت توجهاته الاجتماعية، ذلك أن ظروف زراعة الأرض والدفاع عنها تطلبت تعاوناً جماعياً وثيقاً. وهذا بدوره قاد إلى التوجه نحو تجمع عدة عائلات زراعية شكلت اللبنة الأُولى في جنين المنظمة الاجتماعية(16).
إنتهى العصر الحجري الحديث في العراق وبعض بلدان الشرق الأدنى في حدود 5600- 5000 ق.م، وبدأت طلائع الحضارة والعصر التاريخي في حدود 3500 ق.م. أما الفترة المحصورة بين هذين التاريخين (1500- 2000 سنة) فقد شهدت تطورات حضارية مهدت الطريق لظهور الحضارة في مطلع الألف الرابع ق.م، وهي تُعد فجر الحضارة والتاريخ، وأُطلقت عليها عدة تسميات: العصر الحجري- المعدني، وهي تشير إلى أن سكان وادي الرافدين بدأوا باكتشاف استعمال المعادن الذي تحقق في حدود منتصف هذا العصر. وسميت عصر ما قبل السلالات
Dynastic Pre-
وهي ذات مدلول سياسي. وتميزت هذه الفترة بازدياد واتساع القرى الزراعية وتطور الكثير منها إلى المدن التاريخية التي اشتهرت في العصور التاريخية اللاحقة، والانتقال من الاكتفاء الذاتي ألى مقايضة فائض الإنتاج الزراعي بالسلع التي تخصصت في صنعها فئات جديدة من الصناع والحرفيين. واشتهرت هذه الفترة بصناعة الفخار الملون والمزخرف في أرض الرافدين ومناطق الشرق الأدنى بحيث أطلق بعض الباحثين عليها (عصر الفخار الملون)، والذي ضمَّ ثلاث حُقَب هي: حسونة- سامراء، حلف، العبيد، ارتباطاً باختلاف أنواع الفخار المكتشفة في كل منها(17).
سُمًيت الحقبة الأخيرة من العصر الحجري- المعدني في العراق بالعصر أو الدور (الشبيه بالكتابي)
Proto-Literate
أو (الشبيه بالتاريخي) Pro-History
أو (عصر فجر السلالات) Dynastic Age 3500- 2800
ق.م. ويضم طورين هما اوروك (الوركاء) و (جمدة نصر). ظهرت لأِول مرة الأختام الاسطوانية واستعمال دولاب الخزف لصنع الأواني الفخارية، وتقدم فن التعدين وازدهرت القرى الكبيرة وبرزت نواة التمدن والحياة الحضرية
urbanization
ونظام دولة المدينة sity-state،
وتوجت هذه الحقبة أخيراً بظهور الكتابة الصورية التي تطورت لاحقاً إلى الكتابة المسمارية. وهكذا تولدت في جنوب وادي الرافدين أُولى المدن- أساس الحضارة- في التاريخ، وظهرت عناصر حضارة متكاملة وفق المعايير العشرة التي وضعها
Gordon Childe
لتمييز منطقة حضارية عن غيرها (حجم السكان المقيمين، التخصص، نشاط عمراني حقيقي، تطابق وانسجام اجتماعي وطبقة حاكمة مدعمة بالفائض، الكتابة، ظهور العلم الحقيقي والتنبؤ، الفنون، تجارة خارجية لتوريد مواد اولية، وجود طبقات بدلاً من علاقات قبلية). مؤكداً أن هذه العناصر الحضارية توفرت كلها جنوب ميزوبوتاميا(18).
وهناك حقيقة لكل التطبيقات العملية لهذه الحضارة، وهي أن من بين كافة المنشآت المكتشفة، كانت المعابد- بدون استثناء- أكبرها وأفضلها بناء، كما أن تقاليد العمارة كررت نفسها دوماً، وبقيت مستمرة في نفس المكان منذ طور العبيد وحتى العصور التاريخية المبكرة على مدى ألف سنة تالية. وفي كل الأحوال كان المعبد هو المحور الذي تدور حوله معظم النشاطات الاقتصادية والاجتماعية(19).
كما قادت هذه التطورات السريعة أخيراً إلى تفتح الحضارة السومرية لا بسبب ثورة
revolution
فجائية حاسمة، بل نتيجة عملية تطور وارتقاء
evolution
حضاري في فصله الأخير بعد أن تجذرت في وادي الرافدين منذ فترة طويلة(20). “لكن هذا الارتقاء كان مُقتصراً على القسم الجنوبي، وبدأ الشمال يتبع طريقاً آخر، ومع أن هذا الطريق لم يكن همجياً لكنه كان متخلفاً عن الجنوب في مجالات عديدة. إن العامل الرئيس في ذلك البون الشاسع كان بالتأكيد الجهد الجماعي المشترك الضخم الذي يحتاجه تنظيم الري الاصطناعي، حيث تستوجب هذه المهمة ظهور سلطة تخطيطية وتنسيقية.” وهكذا بقيت الحضارة السومرية مقتصرة على النصف الجنوبي من البلاد ولم تنتشر في كل أرجائها. واستمرت منطقة الجزيرة ووادي دجلة مغلقة بوجه هذا التقدم الكبير. ويظهر أن الكتابة لم تُعرف في آشور قبل نشوء إمبراطورية سرجون الثاني. “ولم يجرِ أبداً تجاوز الفجوة الحضارية في العراق بين شماله وجنوبه بعد أن بدأت في نهاية الألف الرابع ق.م واستمرت طوال العصور التاريخية القديمة(21).”
3- قرى ما قبل التاريخ في العراق
شهدت مراحل العصر الحجري الوسيط استيطان إنسان هذا العصر في الكهوف الشمالية والشمالية الشرقية لوادي الرافدين. وفي أواخر هذه المرحلة بدأ بترك الكهوف والتوجه للعيش في مناطق أبعد قليلاً (زاوي حجي، كريم شهر، ملفعات..). ومع إطلالة العصر الحجري الحديث ظهرت القرى الزراعية تتقدمها (جرمو). اتسعت القرى الزراعية هذه مع نهاية هذا العصر والدخول في العصر الحجري- المعدني لتمتد من المرتفعات الجبلية (حسونة، حلف..) إلى المناطق الوسطى والجنوبية (سامراء، العبيد..). استمرت هذه المراكز في التوسع والانتشار جنوباً خلال العصر الشبيه بالكتابي وطلائع الحضارة السومرية (الوركاء، جمدة نصر، اور، اريدو..). وفي السطور التالية حصر مكثف للقرى الأثرية المكتشفة في حضارة وادي الرافدين (22):
* زاوي جمي (الزاب الأعلى- 4 كم غرب كهف شانيدر). أول قرية في المناطق المرتفعة (425 م فوق سطح البحر). يرجع عهدها للعصر الحجري الوسيط. وهي أول مستوطن قروي في شمال البلاد وأول قرية من نوعها في العالم. ظهرت فيها آثار الانتقال إلى طور إنتاج القوت (الزراعة والدجن) رغم أن الآلات المكتشفة لا تؤكد ممارسة الزراعة.
* كريم شهر (نحو ستة أميال شرق جمجمال). يعود زمنه للعصر الحجري الوسيط بعد طور (زاوي جمي). وجد مستوى استيطاني واحد يغطي مساحة ايكرين (الايكر- 4000 م). عثر على أدوات حجرية يمكن اعتبارها أدوات زراعية كالنصول والمناجل والمجارف وأحجار الطحن. كما عثر في الموقع أيضاً على رصيف حصوي غير اعتيادي يمتد فوق المنطقة بكاملها ويوحي بِأرضية أكواخ معينة. يمثل مرحلة مبكرة من التطور نحو الاستيطان الدائم.
* ملفعات وكردي- جاي (ضفة نهر الخازر- الطريق بين أربيل والموصل). وجدت آثار بيوت صنعت من الحجارة وجرى رصف أرضيتها بالحصى وتحيط الأسيجة ببعضها وتتضمن الأدوات المكتشفة أزاميل وهاونات وفؤوس حجرية.
* جرمو (نحو 11 كم شرق جمجمال و35 كم شرق كركوك). يعود زمنها إلى 7000 ق.م. أُولى قرى العصر الحجري الحديث في شمال العراق. قُدِّر عدد بيوت القرية بحدود 25-30 بيتاً وعدد سكانها نحو 150 نسمة. تُعَد أول قرية زراعية. مارست زراعة القمح والشعير والعدس والحمص. وجدت بقايا عظام الماعز (أو) الغنم والخنزير. شكلت القواقع جزءاً مهماً من قوت السكان الذين مارسوا كذلك صيد البقر والغزال والخنزير الوحشي. عاش سكانها في بيوت مربعة مزدوجة الغرف مبنية من الطين المضغوط مع وجود أفران طينية (التنور) لعمل الخبز تشبه تلك التي يصنعها القرويون في العراق الحالي. واكتشفت ملاعق وأدوات منزلية، علاوة على أُبر خياطة عظمية، وأقراص مغازل صوانية تدل على معرفة بالغزل والحياكة. وكان سكان جرمو يدفنون موتاهم تحت بيوتهم، ويصنعون أجساماً طينية للحيوانات والمرأة الحامل (الإِلهة الأُم) التي فُسِّرت بِأنها تُجسِّد رمزاً للخصوبة والإنجاب وقوى الطبيعة المولدة الغامضة.
* حسونة (نحو خمسة أميال شرق ناحية المشورة و 22 ميل جنوب الموصل). يعود زمنها إلى الألف الخامس ق.م. أُولى أدوار العصر الحجري- المعدني. شهدت تطورات الثورة الزراعية بانتشار القرى الزراعية في السهول الشمالية بعد بدء الاستيطان في سفوح الجبال. سكن أهلها الخيام أولا ثم البيوت المشيدة من اللبن. وكانوا يخبزون في تنور من الطين. وفي مراحل تالية للاكتشافات الأثرية ظهرت ست طبقات سكنية ذات منازل تشبه في حجمها وتصميمها وموادها قرى شمال العراق الحديث. اشتهرت بالأواني الفخارية المكتشفة فيها لأِول مرة (أواني حسونة الفخارية).
* سامراء: تعاصر فترة حسونة (العصر الحجري- المعدني). اكتشف فيها نفس فخار حسونة لأِول مرة، وسميت (أواني سامراء). تميزت بفخارها الملون الذي عثر عليه في عدد من مواقع الشمال والجنوب.
* مطارة (تل قرة لطخ على بعد 4 كم من بلدة مطارة جنوب كركوك). قرية زراعية مبكرة، يعود زمنها إلى 5570 ق.م. يوجد شبه قوي بين آثارها وآثار تل حسونة.
* أُم الدباغية (هضبة الجزيرة على بعد 26 كم غرب مدينة الحضر). تعود إلى 5570 ق.م. بالإضافة لآِثار ممارسة الزراعة، وجدت فيها مبان مدورة أو بيضوية ومخازن، ربما استخدمت بصورة جماعية. يشبه فخارها فخاريات حسونة ومطارة، مما يدل على وجود علاقة بين القرى الثلاث.
* حلف (قرب قرية رأس العين نحو 140 ميل شمال غرب نينوى، الحدود التركية- السورية). يعود زمنها للعصر الحجري المعدني (5000 ق.م). أكثر اكتشافات هذه الفترة هي الأبنية المدورة. ويحتمل أنها كانت مجالس قروية تستخدم للاجتماعات. كما وجدت أشكال حجرية مثقوبة ربما ارتديت حول الرقبة للدلالة على الملكية، وتمثل شكلاً من الختم المنبسط. تميزت فترة حلف بروعة فخارها وجماله ودقته وزخرفته وتعدد الوانه، ويمثل الفخار المكتشف هنا تطوراً هائلاً يتجاوز الحضارات السابقة بشكل بيّن “ويمكن القول دون مبالغة أن فن السيراميك بلغ خلال فترة (حلف) درجة من التطور (لم تبلغه) وادي الرافدين من قبل أو من بعد أبداً(23).” وحسب طه باقر فإِن الحلفيين هم من أصل عراقي(24).
* نينوى (تقع في مدينة الموصل- تل قوينجق). قرية مبكرة، عُثر فيها ضمن الآثار المكتشفة في المنطقة على أنواع فخاريات حسونة.
* بارم تبة (نحو 7 كم غرب تلعفر في سهل سنجار. ستة تلال)، اكتشفت فيها آثار قرية مبكرة وفخاريات ملونة تعود إلى عصر حلف.
* شمشارة والتلال الأُخرى في سهول بتوين- رانية (تقع شمشارة على الضفة اليمنى من الزاب الصغير، نحو 8 كم شرق رانية)، استوطنت في عصور القرى الزراعية المبكرة، ويرجح انها تُعاصر قرية جرمو. “وتميزت فخاريات هذه القرى من النوع الملون والمزخرف وبعض أنواعه من أجمل ما انتجته الحضارات القديمة(25).” تشمل هذه المنطقة على جملة تلال: كمربان، تل الديم، قورة شيتا، باسموسيان، شمشارة(26).
* الأربجية (تبة رشوة- 8 كم شمال شرق نينوى- العاصمة الآشورية القديمة)، عُرِفَتْ بفخارياتها الجميلة التي اكتشفت لأِول مرة في تل حلف (5000 ق.م). تشير سعة بناء القرية إلى تقدم القرى الزراعية من حيث التنظيم وأساليب البناء ولتقترب في تكوينها من المدينة الصغيرة ببيوتها السكنية وشوارعها المرصوفة بالأحجار الطبيعية التي تدل على احتمال وجود نوع من الخدمات البلدية(27). واكتشفت آثار تدل على ممارسة الزراعة، علاوة على التماثيل الطينية ومن بينها تلك التي ترمز إلى (الإِلهة الأُم).
* كرد باناهلك (كيلومتر واحد جنوب غرب قرية ديانا الحديثة- منطقة راوندوز). يعود زمنها إلى حوالي 4800 ق.م. وبالإضافة إلى الأواني الفخارية، اكتشفت فيها كذلك أواني وآلات حجرية وصناعات عظمية.
* قرية بكم (تل يقع في وادي شهرزور)، تأسست في عصر حلف (5000 ق.م). وجدت فيها فخاريات كثيرة. تميزت بمبانيها المدورة على غرار قرية الأربجية.
* قرية إبراهيم عزو (نحو 17 كم شمال غرب مدينة الموصل)، وجدت فيها مبانٍ مدورة الشكل وأواني فخارية تعود لعصر حلف وأقراص ومغازل وأدوات عظمية ودمى طينية.
* قرية صوان (ضفة دجلة اليمنى- نحو 11 كم جنوب بلدة سامراء)، يعود زمنها إلى حدود 4450 ق.م. وجدت فيها فخاريات حسونة (عصر سامراء) وأدوات زراعية وحياكة وخياطة ومزج أصباغ. مورست فيها الزراعة المطرية. اكتشف فيها بناء واسع مشيد من اللبن، يرجح أن يكون من بيوت العبادة حيث وجدت فيه تماثيل صغيرة من المرمر (الإِلهة الأُم)، علاوة على هيكل امرأة دفنت معها قلائد خرز مختلفة.
* قرية حسن (قرب عيون الخشالات- منطقة حمرين)، اكتشفت فيها مخلفات مبنى مدور وفخاريات تعود إلى عصر حلف.
* جوخة مامي (بضعة كيلومترات شمال مندلي)، تضمنت مخلفات القرية فخاريات: تعود إلى زمن حلف. ويظهر أن القرية تمثل النهاية الجنوبية لانتشار قرى عصر حلف.
* قرية العقر (75 كم جنوب غرب بغداد- جزيرة ما بين النهرين السفلى)، تمثل استيطاناً مبكراً في السهل الرسوبي (5000 ق.م). وبالإضافة إلى بيوتها المشيدة من اللبن، وجدت نماذج للتنور شبيهة بالتنور العراقي الحديث وأدوات زراعية حجرية وأقراص مغازل متقدمة للنسيج والحياكة، علاوة على اكتشاف فخار عصر العبيد.
* تبة كورا (نحو 15 ميل شمال شرق الموصل)، يعود زمنها إلى 5000 ق.م.
* العبيد (أربعة أميال عن اور)، يعود زمنها إلى الطور الأخير من العصر الحجري- المعدني (4000 ق.م). يشكل الدور الأول للاستيطان البشري في السهل الرسوبي الجنوبي. يُعاصر في بدايته دور حلف في شمال العراق، وفي نهايته يُعاصر دور الوركاء في الجنوب(28). وتدل المكتشفات الأثرية على “أننا حيال موقع قد استوطنه أُناس لهم علاقة بالحلفيين في الشمال… (29)”
* قلعة حاج محمد (ضفة نهر الفرات- جنوب غرب الوركاء نحو 18 كم). تعود مكتشفاتها إلى عصر العبيد.
* اوروك/الوركاء (شمال غرب الناصرية)، يمثل الطور الأول من العصر الشبيه بالكتابي. تميزت مكتشفاتها بمجموعة خصائص لهذا الطور الحضاري: ظهور المعابد المشيدة على مصاطب اصطناعية مثل معبد (انانا)- عشتار- التي شكلت أساساً لظهور المعابد العالية- الزقورات
ZIGGURAT
التي اختصت بها حضارة وادي الرافدين(30)، ظهور الأختام الأسطوانية لأِول مرة واستمرارها إلى آخر عصور التاريخ القديم في البلاد، استعمال دولاب الخزف لصنع الأواني الخزفية، تقدم وانتشار فن تصنيع المعادن، قطع فنية رائعة من النحت المجسم والبارز (مسلة صيد الأسود، الإِناء النذري، رأس المرأة المنحوت من المرمر)، نقوش المخاريط الفسيفسائية، ظهور المدن (دول المدن). وتبقى الخطوة الأكثر أهمية وتأثيراً هي ظهور الكتابة (الصورية) لأِول مرة في معبد (انانا)- عشتار(31).
* جمدة نصر (15 ميل شمال شرق كيش، تلول الأحيمر، شمال الحلة، وهي غير مدينة كيش السومرية التي لا يُعرف موقعها). تمثل الطور الثاني من العصر الشبيه بالكتابي. تميزت هذه الفترة بتقدم الكتابة المسمارية واختزال عدد من علاماتها، واكتشاف أواني فخارية متميزة. وفي هذا الدور اتضح أن اللغة المدونة هي السومرية.
* اور (تل المقير: جنوب غرب الناصرية- قرب المحطة)، كانت مأهولة منذ عصر العبيد وأصبحت من المدن السومرية الشهيرة في عصر فجر السلالات.
* اريدو (أبو شهرين: نحو 24 كم غرب مدينة اور القديمة)، من أماكن الاستيطان المهمة في السهل الرسوبي. تعود بداياتها إلى عصر العبيد مروراً بعصر الوركاء وفجر التاريخ. تُعتبر من أقدس المدن القديمة في وادي الرافدين لكونها المسكن الأرضي لـ (انكي)- ايا- إِله المياه الجوفية وأحد ثلاثة آلهة كبار في هيكل الآلهة السومري.
هوامش الفصل الثاني
(1) الدباغ، تقي، العراق في التاريخ، ص42- 43..، سليمان، عامر، ص84- 87.
(2) باقر، طه، ص164.
(3) نفسه، ص165..، Hallo,William W.,and others,The Ancient Near East-A History,USA,1971,P.5.
(4) الدباغ، تقي، العراق في التاريخ، ص42- 43..، باقر، طه، ص168.., Hallo,William W.,P.7.
(5) باقر، طه، ص172..، عبدالواحد، فاضل (و)سليمان، عامر، ص10..، سليمان، عامر، ص10..، رو، جورج، ص68- 69..، علي، عبدالقادر حسن، “انسان الكهوف”، حضارة العراق، ج1، ص76- 82.
(6) ظهر الانسان العاقل قبل حوالي 50 الف سنة في حدود منتصف العصر الحجري الوسيط (باقر، طه، مقدمة في تاريخ…، ص165).
(7) رو، جورج، ص69.. تختلف التواريخ المعطاة لاكتشاف الزراعة في وادر الرافدين بين 10-8ر12 الف سنة مضت انظر: الدباغ، تقي، حضارة العرا، ج1، ص112..، الاحمد، سامي سعيد، حضارة العراق, ج2، ص154.
(8) نفسه، ص77.., Robinson,JR,P.25..,Hallo,William w.,P.11.
(9) باقر، طه، ص170..، رو، جورج، ص67.., De Mieroop,P.13.
(10) الدباغ، تقي، ص44.
(11) سليمان، عامر، ص87- 88..، الدباغ، تقي، العراق في التاريخ، ص24.
(12) الدباغ، تقي، حضارة العراق، ج1، ص13،23.., Hawkes,Jacquetta,P.31-32..,De Mieroop,P.19,26.
(13) الدباغ، “الآلات الحجرية”، حضارة العراق، ج1، ص99- 102..، رو، جورج، ص71- 74..، باقر، طه، ص182،186.., Hallo,William W…,P.11,14.
(14) باقر، طه، ص32..، رو، جورج، ص76.
(15) سليمان، عامر، ص93..، باقر، طه، ص195..، علي، فاضل عبدالواحد،من الواح سومر إلى التوراة، بغداد 1989، ص17- 18،66- 67.
(16) رو، جورج، ص79.
(17) باقر، طه، ص207- 208.
(18) نفسه، ص236- 241..، رو، جورج، ص111.., De Mieroop, P.2, 23-24, 37-38.., Hallo,William.., W.,P173.., Hawkes,Jacquetta,P.3,5,69.., Hammond, Mason, P.25.., Robinson, Jr. P.15.
(19) رو، جورج، ص101- 102.
(20) الماجدي، خزعل، متون سومر، عمّان، 1998، ص56..، رو، جورج، ص107.
(21) رو، جورج، ص118.., Hammond, Mason, P.49.., DeMieroop, P.38-40.., Hawkes, Jacquetta, P.70.
(22) باقر، طه، ص195- 197،236، 243..، رو، جورج، ص97- 99..، الدباغ، تقي، “الثورة الزراعية والقرى الاولى”، حضارة العراق، ج1، ص120- 141..، البدراوي، عدنان مكي،”نشأة القرى العراقية الاولى”، حضارة العراق، 3، ص285- 29، 307- 310.., Hammond, Mason, P.19-21, 33.., Hallo, William W., P.44, 48.
(23) رو، جورج، ص94.
(24) باقر، طه، ص22.
(25) الدباغ، تقي، حضارة العراق، ج1، ص131- 132.
(26) باقر، طه، ص214.
(27) رو، جورج، ص94.
(28) باقر، طه، ص225.
(29) رو، جورج، ص97.
(30) الزقورات او الابراج المدرجة ترتبط باسم اور- نمو مؤسس امبراطورية اور الثالثة (ف5). وهي مصاطب او قواعد عالية تشكل اساس بناء المعابد السومرية، وردت بشأنها تفسيرات عديدة، منها تجنب تأثير المياه الجوفية القريبة من السطح في الجنوب بالارتباط مع قدسية المعبد والمخاطر الجمّة (الشؤم) المتوقعة عند سقوط مبنى المعبد حسب معتقدات القوم. بينما يرى جورج رو ان التفسير الاكثر قبولا هو الاقتراب اكثر من السماء (الآلهة) وفق معتقدات القوم. وهذا ما ورد في التوراة- سفر التكوين 6،4 (رو، جورج، ص228).
(31) باقر، طه، ص234- 235..، رو، جورج، ص111.