نظم: فرانثيسكو دي كيبيدو*
ترجمة: الدكتور لحسن الكيري**
ستغلق عيني تلك
الظلمة الأخيرة التي ستذهب بنهاري الأبيض
و ستحرر روحي هذه،
إذ هي ساعة طالما اشتهتها الروح
لكن ليس في الجانب الآخر من البحيرة
حيث ستترك الذاكرة مشتعلة:
إن جذوتي تجيد السباحة في المياه الباردة
و تعرف كيف تتحدى ناموس القدر الصارم،
روح ظلت تعبد حبيبة كأنها إلاه،
عروق طالما منحت الحياة لحر النار المشتعلة،
مشاشة عظام أحرقت في المجد ذاك الجسد،
لن تتخلى عن رعايتها تلك الروح
مهما افترقت عن الجسد،
سيستحيل كل شيء رمادا، لكنه ذو معنى،
غبار سيصبح كل شيء، لكنه غبار عاشق ولهان.
*القصيدة في الأصل الإسباني:
Amor postrero más allá de la muerte
Cerrar podrá mis ojos la postrera
Sombra que me llevare el blanco día,
Y podrá desatar esta alma mía
Hora, a su afán ansioso lisonjera;
Mas no de esotra parte en la ribera
Dejará la memoria, en donde ardía:
Nadar sabe mi llama el agua fría,
Y perder el respeto a ley severa.
Alma, a quien todo un Dios prisión ha sido,
Venas, que humor a tanto fuego han dado,
Médulas, que han gloriosamente ardido,
Su cuerpo dejará, no su cuidado;
Serán ceniza, mas tendrá sentido;
Polvo serán, mas polvo enamorado
* سياسي وكاتب إسباني مشهور في العصر الذهبي الإسباني. ازداد بمدريد سنة 1580 ميلادية؛ و كان واحداً من أبرز الشعراء الإسبان في ذاك العصر. كتب في الشعر والسياسة والسخرية، و من ذلك نذكر روايته الشطارية الواقعية عن التشرد وحياة الطبقات الدنيا وعنوانها: “تاريخ دون بابلو دي سيغوفيا” المعروفة باختصار “إل بوسكون”.
مسيرته:
ترعرع كيبيدو في قصر الملك فيليب الثاني، وذلك بحكم وظيفة والديه الأرستقراطيين. ولد بتشوه في رجليه، وبضعف في البصر، وبالرغم من يُتمه المبكر فقد تمكن، برعاية أمه، من مواصلة دراسته في جامعة مدريد، وهي أهم جامعة إسبانية حينئذ، وتخرج منها وهو ما يزال في مقتبل العمر، محصلاً جل علوم عصره، إضافة إلى كونه قد درس اللغة العربية والعبرية أيضاً.
ظل كيبيدو منجذباً إلى القصر وإلى السياسة، وهو ما سيفسد عليه فيما بعد حياته كلها، متأرجحاً بين حلم الوجاهة الذي كان يصبو إليه، وما بين وجوده الواقعي الذي كان يعانده أيما عناد. فقد فر هارباً من إسبانيا بعد أن أودى بخصمه قتيلا في إحدى المبارزات.
صحبة الدوق أوسونا:
عاد إلى إسبانيا ثانية سنة 1613 حتى اتصل بدوق أوسونا، الذي أصبح فيما بعد حاكماً لصقلية، وقربه منه كثيراً، وصار سكرتيره وصديقه الحميم الذي ظل وفيا له، بالرغم مما عناه بعدما تعرض هذا الأخير للخذلان. فقد ماست حياته كما هو بيّن ما بين الرفعة والهوان. شارك في المحاولة الخطرة التي استهدفت نزع مدينة نيس من دوق منطقة السافواي.
محنة السجن:
سنة 1639 نسب إليه منشور هجائي، اقتحم على إثرها بيته في عز الليل وتم سحبه من فراشه شبه عار، كي يتم اقتياده بعد ذلك إلى زنزانة ضيقة وشديدة الرطوبة في قبو الدير الملكي سان ماركو بمدينة ليون.
الرسائل التي كتبها من محبسه ذاك شديدة التعبير عن حقيقة ما عناه فيه. لم يطلق سراحه إلا بعدما طالب بشدةٍ بإنصافه، حيث اشتد به المرض. وتبين حينها أنه ظُلم، ولم يكن هو صاحب المنشور الهجائي الذي ظُن أنه هو من كان كاتبه، وسجن بمقتضى جنايته، بعدما ألقي القبض حينها على من كان حقيقة خلف ذلك التشهير. قضى في السجن أربع سنوات.
كانت هذه التجربة قاسية وقاصمة لعنفوانه، فانزوى في بيته، منهكاً، شبه معدم وأعمى. انتقل إلى دير توري خوان أباد ولم تمض إلا سنوات قليلة حتى قضى أجله في 8 سبتمبر سنة 1645 وكان قد كتب مخاطباً الموت:
“أحبك أيتها المحسنة إلي، وأتريث
دون أن أرتجف، ريثما يحين
أجلي وأطرق الخلود!”
أعماله:
استقى بعض معانيه وصوره الشعرية من مؤلفين سابقين. وهو دليل على الثقافة الواسعة التي كان يتميز بها كيبيدو. تتميز أعماله بكتابة صعبة، حيث كان محترفاً للتلاعب اللفظي الذي يشكل على الدوام حجر عثرة كل ترجمة، من أية لغة كانت، أو الأوزان الخاصة المتعلقة بفن السوناتا.
الشعر:
لم ينشر كيبيدو شعره في حياته، وإن كانت هناك إشارة تؤكد بأنه قد نوى مرات عديدة ذلك، وبأنه عكف على إعادة كتابة قصائده، ثم مراجعتها وتصحيحها في أفق إعداد طبعها. وهو الأمر الذي لم يحدث قط إلا بعد وفاته، وذلك بإيعاز من أحد الجهابذة هو غونثاليث دي سالاس.
لكنه سبق له أن نشر عدداً من قصائده باسم مستعار خاصة لدى انزوائه في برج خوان أباد. ثم أن زمرة من نصوصه كانت تقرأ وتنسخ، في سرية، طيلة مدة بأكملها. فإذا كان الرجل قد سعى ما بوسعه إلى أن ينفلت من قبضة محاكم التفتيش حينها، مثل غيره، بأن كتب في اللاهوت، وأبان قدر الإمكان عن أرثوذكسية محضة، فإنه كان أقل أهل عصره تديناً، وجرّ عليه ذلك كثيرا من المتاعب.
“يتعايش، بسلام، الماء والنار بداخلي ؛
هما حليفان ؛ فإذا ما امتحنني كلاهما،
وإذا ما قتلاني، فهما لا يقتتلان؟”
خلال فترة وجوده في قصر بلد الوليد خرجت قصائد كيبيدو الأولى، التي كان يقلد فيها ويحاكي بسخرية قصائد لويس دي غونغورا، ناشرا إياها تحت اسم مستعار “ميغيل دي موسى” في بعض الأحيان، وسرعان ما تعرف الشاعر القرطبي دي غونغورا على الشاب الذي قوض سمعته واكتسب شهرة على حسابه، فقرر مهاجمته بسلسلة من القصائد، فرد عليه كيبيدو بأبيات مماثلة، وكان ذلك بداية لعداء أزلي بينهما لم ينته حتى وفاة دي غونغورا.
تدور قصائده حول الحب والموت، كانت القصائد التي تغنى فيها بالمسماة ليزي والتي لم يستطع أحد من دارسي شعره التعرف على هويتها، وعلى حقيقة وجودها بالفعل أكثر شهرة من غيرها من النصوص الأخرى. إن شغف كيبيدو بالحب هو أكبر حقيقة مما تواتر عنه من كونه كان كارهاً وعدوا شرسا للمرأة. وربما أن قوله “إن المرأة نوع من الجحيم الذي نحمله معنا” هو ما ألصق به أكثر تهمة كرهه للمرأة من غيره. (نقلا عن ويكيبيديا بتصرف).
وجدير بالذكر أن هذه القصيدة التي عكفنا على ترجمتها ها هنا قصيدة صعبة من حيث المبنى و المعنى سواء بسواء لكننا وقفنا فيها لكيبيدو الند للند و أنطقناه بعربية سليمة و مستقيمة دون أن ندعي تملك معناها تملكا مطلقا ذلك أن النص الأدبي بصفة عامة و الشعري بصفة خاصة يبقى منجما غنيا بالمعاني الصريحة و الضمنية و مفتوحا على التأويل على الدوام. و مما صعب علينا مهمة ترجمتها هو الفارق الزمني الكبير جدا الذي يفصلنا عنها ثم التيار الأدبي التنخيلي الذي يندرج فيه الشاعر نفسه، ناهيك عن خلفيتها الأسطورية الإغريقية المعقدة الثاوية في مفاصلها. و أخيرا، فهذه واحدة من بين أفضل و أشهر عشر قصائد منشودة في تيمة الحب في الشعر الإسباني.
**كاتب، مترجم، باحث في علوم الترجمة ومتخصص في ديداكتيك اللغات الأجنبية – الدار البيضاء -المغرب.