أماندين أرور لوسيل دوﭘين والتي لقبت لاحقاً بلقب ( البارونة دوديوانت ) عاشت مابين الأول من تموز 1804 وحتى الثامن من حزيران عام 1876 وهي معروفة كروائية فرنسية بإسم ( جورج صاند ) يعدها الكثيرون رائدة من رائدات الحركة النسوية الفرنسية رغم أنها لم تنتم الى تلك الحركة , كما تعتبرها الأمة الفرنسية الرائدة النسوية الأولى للرواية الفرنسية , وكان العام 2004 هو عام الثقافة الفرنسي الملقب بعام جورج صاند .. تبنت فيه جميع دور النشر تشجيع نشر المؤلفات النسوية في مختلف التخصصات وكان ذلك العام هو الذكرى 200 على ولادة هذه الكاتبة .
كانت جورج تنتمي الى عائلة أرستقراطية , فوالدها موريس دوﭘين يرتبط بصلة قرابة مع الملك لويس السادس عشر , كما أنه حفيد المارشال جنرال موريس دي سايكس إبن ملك بولندا . أما والدتها فهي سيدة المجتمع صوفيا _ فكتوريا دلبورد .
ولدت صاند في باريس لكنها عاشت بعد ذلك في بيت جدتها في ( نوهانت ) وكانت قد إتخذت من هذا البيت مكاناً دارت فيه أحداث العديد من رواياتها .
يقال إنها عاشت حياة متحررة جداً في بيت جدتها هذا , حتى مجيء العام 1822 وكانت في التاسعة عشرة من العمر حين تزوجت من البارون ( كاسمير دوديوانت ) وإكتسبت لقب البارونة عن طريق هذا الزواج , أنجبت طفلين من زواجها , وفي العام 1831 تركت زوجها بحالة أسمتها ( حالة تمرد رومانسي ) وإستمر هذا التمرد لأربع أو خمس سنوات إنتهت بالإنفصال رسمياً عندها أخذت أطفالها معها .
بدأت صاند تتعرض الى إنتقادات الناس حين أخذت تظهر في العلن مرتدية ملابس بموديلات رجالية لكنها كانت تبرر إختيارها بأن هذه الملابس أكثر راحة وأقل كلفة من ملابس نساء الطبقة الراقية في تلك الفترة . كما إن هذه الأزياء تسمح لها أن تأخذ المزيد من الحرية في إرتياد المجالس التي لاتتمكن النساء من إرتيادها بأزيائهن الهفهافة وموديلاتهن شبه العارية .
القضية الثانية التي جلبت لها الإنتقاد كانت تدخينها التبغ في العلن , السيكار أو الغليون , وكان ذلك غير محبذ في القرن التاسع عشر حتى بالنسبة لعامة النساء فما بالك بنساء الطبقة الراقية , وهن أشد تمسكاً بالتقاليد الأرستقراطية !؟
بسبب حكم الإنفصال ( ليس طلاق ) الذي حصلت عليه من زوجها , أضف عليه قضية الملابس والتبغ جعلها تحت ملاحظات قاسية , وأجبرها على التنازل عن بعض إمتيازاتها كبارونة .
من أشد الخصوم مجابهة لها كان الشاعر بودلير فهو يصفها بقوله : (( إنها غبية , ثقيلة وثرثارة , وحقيقة أن هناك بعض الرجال الذين يعجبون بهذه الوقحة دليل على أن في زماننا رجال لم تعد تهمهم قيمة الرجال )) .
بسبب حالة المجابهة الحادة بينها وبين المجتمع .. لم يعد يهمها رأي الناس فيها , أو هكذا أرادت أن توحي .. لأنها ومنذ هذا الوقت بدأت بإقامة العديد من العلاقات المعلنة مع الرجال .
أقامت علاقة مع الروائي الفرنسي ( جول ساندو ) عام 1831 .
أقامت علاقة مع الكاتب المسرحي والباحث التاريخي وكاتب القصة ( بروسبير ميريميه ) عام 1833 .
أقامت علاقة مجنونة مع الشاعر الفرنسي ( ألفرد دي موسيه ) ولكي تهرب معه من مشاكل عشاقها الباقين .. أخذته وغادرت فرنسا الى إيطاليا في رحلة .. حين وصلا إيطاليا أصيب دي موسيه بالتيفوئيد , وكان محموماً وعليه ملازمة الفراش . أحضرت هي له طبيباً ووضعت له الدواء قرب رأسه ثم غادرت الى خارج البيت لقضاء السهرة مع الطبيب .
من أجمل ما قرأت من شعر , هي المجموعة الشعرية التي كتبها ألفرد دي موسيه عن تلك الأيام وعنوانها ( الليالي ) وتتكون المجموعة من 4 ليالي هي : ليلة صيف , ليلة خريف , ليلة شتاء , وليلة ربيع . في هذه الليالي الأربعة يسرد دي موسيه تفاصيل علاقته مع جورج صاند شعراً . في ليلة شتاء مثلا حدثنا عن حكاية مرضه وقصة الطبيب وكيف أنه كان رغم مرضه وألمه .. ينتظر عودتها من الخارج على أحر من الجمر وحين يستبد به الإنتظار يقوم من سريره ويذهب الى النافذة يضع جبهته الساخنة على زجاج الشباك المثلج مستعملاً إياه مثل كمادة , ويراقب الطريق متمنياً عودتها ويخاطبها قائلا ً :
(( الحمى تقتلني
أضع جبهتي على زجاج النافذة البارد
أراقب الطريق كما يفعل حرّاس الهموم
ولا أدري
ما دمت أحبكِ
من منّا هو الغائب )) .
طبعاً الصورة الشعرية لهذا المقطع أجمل منها بما لايقاس في اللغة الفرنسية , والترجمة هنا ترجمة معنى فقط .
أصبحت أجواء العلاقة عاصفة بالمشاحنات , ولهذا إنتهت في غضون عام , لكنها خلفت لنا مجموعة شعرية من أعذب ما يكون من عيون شعر الغزل في كل أدبيات العالم .
بعد ألفرد دي موسيه تعرفت على المحامي اللامع ( لويس كريستوسوم ميتشل ) وكانت علاقة إنتهت بسرعة .
بعده تعرفت ولمدة قصيرة على الممثل المسرحي ( بيير فرانسواز بوكيج ) . وبحلول عام 1837 كانت جورج صاند قد تعرفت على الموسيقار ( فريدريك شوبان ) وعاشت معه عشر سنوات قبل أن تنتهي علاقتهما , وتلك كانت أطول فترة قضتها مع رجل في كل حياتها .
في العام 1845 وكان عمر علاقتهما ثماني سنوات إعتلَّت صحة شوبان , وفي العام 1846 وقعت له مشاكل مع أبناء صاند الذين كانوا يعيشون معهما .
نشرت صاند روايتها ( لوكريزيا فلورياني ) عام 1857 التي تحوي شخصيتين رئيسيتين , ممثلة ثرية , وأمير بصحة معتلة , وقد فسر النقاد ذلك فيما بعد على أنه ترميز الى جورج صاند نفسها وشوبان المريض .
في العام 1847 وصلت المشاكل الى حد لا يطاق , فإنتهت العلاقة , ومات شوبان لاحقاً في نفس العام .
كانت جورج صاند في أواخر أيام علاقتها مع شوبان قد إرتحلت الى جزيرة مايوركا المغربية الواقعة تحت السيطرة الإسبانية وقد خلَّدت تلك الأيام بكتاب مذكراتها ( شتاء في مايوركا ) حيث كان شوبان وقتها يقدم المعزوفات الموسيقية للسياح من زائري الجزيرة التي بقيت حتى يومنا هذا تحتفل سنوياً بذكرى زيارة شوبان لها .. في نفس الفترة التي أمضاها مع جورج صاند وأولادها على أرض الجزيرة وذلك بتنظيم مهرجان سنوي يتضمن تقديم جميع أعمال شوبان الموسيقية .
نقطة الخلاف بينها وبين شوبان كانت قد بدأت منذ هذه الرحلة وأوصلتهما الى القطيعة التامة التي إستمرت حتى الى ما بعد موته , فحين عاد الى باريس مفلساً ومات فيها , دفع أصدقاؤه ثمن تشييعه الى قبره , ورغم حضور ما يزيد على 3 آلاف شخص من أصدقائهما لتأبينه بينهم شخصيات مهمه مثل ديلاكروا وفكتور هيغو .. إلا أن جورج صاند كانت غائبة .
ما تبقى من حياتها لم تجمعها علاقة برجل , بل إكتفت بمراسلة الروائي الفرنسي الشهير غوستاف فلوبير , وخلفت لنا مراسلاتهما إرثاً هائلاً من العبقرية تجلت في الكشف عن فلسفتهما في الحياة ونظرتهما الى الأشياء والناس وعلاقتهما بالوجود .
شيء نادر الحدوث أن تلتقي الأرواح والنفوس والعقول بهذه الطريقة المبدعة الفذة , حاول كتّاب كثيرون فيما بعد تقليدها .. لكن الصنعة شيء , والتجربة النابعة من الروح شيء آخر .
وفي هذه الفترة من حياة جورج صاند ربطتها علاقة صداقة حميمة مع الممثلة المسرحية ماريا دورفال . خلال هذه الفترة بدأ الناس الذين تعودوا على التعامل مع جورج صاند بالشكوك والإستغراب بالتهامس حول هذه الصداقة بتصورات أغلب الظن أنها غير حقيقية .
كيف إختارت هذه البارونة إسم ( جورج صاند ) ليكون إسم شهرتها كأديبة ؟ .. حين كانت على علاقة مع الروائي الفرنسي جول ساندو عام 1831 كان هو الذي ساعدها على إكتشاف موهبتها الأدبية . وللعلاقة العاطفية الحميمة التي ربطتهما معاً , فقد تحول إسم ( جول ) الى ( جورج ) مثلما تحول إسم ( ساندو ) الى ( صاند ) , عندها سمَّت البارونة نفسها : جورج صاند .
أثمرت العلاقة والإكتشاف عن إصدار جورج صاند لروايتها الأولى ( الأبيض والوردي ) عام 1831 .
عام 1832 أصدرت روايتها الثانية ( إنديانا ) .
عام 1833 أصدرت روايتها الثالثة ( ليليا ) .
عام 1837 نشرت روايتها ( ماوﭘرات ) .
نشرت عدا عن ذلك عدة روايات مستوحاة من فترة طفولتها في بيت جدتها حتى الفترة الممتدة الى عام 1857 إضافة الى بعض أعمال الدراما المسرحية .
عام 1855 نشرت كتابها ( قصة حياتي ) وهو كتاب مذكراتها .
عام 1859 نشرت كتابها ( هو وهي ) وفيه حكاية علاقتها مع ألفرد دي موسيه .
كتاب ( يوميات جورج صاند ) نشر بعد موتها عام 1926 .
الكتاب الأجمل الذي نشر بعد موتها هو الذي يتضمن رسائلها مع غوستاف فلوبير لأنه يتضمن حوارات تأتي بمنتهى العفوية ملخصة كل شيء عن هذه الحياة .
كان لهذه المراسلات بريقها حول العالم , حاول أدباء كثيرون مجاراتها , وكذلك حاول كثير من العشاق من محترفي الأدب , لعل جبران خليل جبران ومي زيادة .. منهم , غير أن قطعة الماس التي صقلها قلما جورج صاند وغوستاف فلوبير .. لن يجود الزمان بمثلها بسهولة .
إضافة الى كل هذا , واصلت صاند كتابتها في النقد الأدبي والسياسة , ونشرت العديد من مؤلفاتها ومقالاتها بهذا الخصوص لأنها كانت تريد تأكيد موقفها الداعم للإشتراكية , فقد قالت عن نفسها بأنها ومنذ طفولتها كانت منحازة الى جانب الفقراء والطبقة العاملة . حين بدأت الثورة عام 1848 لم تكن هناك حقوق للمرأة في فرنسا , في حين كانت صاند ترى ضرورة مراعاة حقوق المرأة من أجل المزيد من التقدم الإجتماعي .
وفي حدود هذا الوقت بدأت صاند بإصدار جريدتها الخاصة التي كانت تطبعها في ( تعاونية عمالية ) مما يسمح لها بنشر أعداد أكبر من مقالاتها الى الجمهور وفي تلك الفترة كتبت : (( لا أستطيع تصديق أن هناك جمهورية تبدأ ثورتها بقتل الطبقة البروليتارية من الشعب )) .
ماتت جورج صاند في بيت جدتها في ( نوهانت ) يوم 8 حزيران 1876 عن عمر 71 سنة ودفنت في حديقة المنزل , حيث بقيت هناك حتى العام 2004 , حين تم الإحتفال بالمئوية الثانية لولادتها , عندها تم تكريم رفاتها بنقله الى كنيسة البانثيون في باريس التي تعد مقبرة للعظماء . لكن روحها العظيمة ستظل تطير مثل يمامة بيضاء بين البشر والى الأبد في إحدى عباراتها التي كتبت فيها :
(( السعادة الوحيدة فقط في الحياة : أن تُحِبَ , وأن تُحَبْ )) .