الشرق الاوسط
أفرزت ما سميت بـ«ثورات الربيع العربي» الكثير من الأوهام، تناولت بعضها في مقالات سابقة، لكنها الآن أصبحت تنتج مسلّمات دون أن تتعرض للنقد أو الشك، ومن ذلك اعتبار أن دول الربيع العربي ذات هدف ومصير موحد ومحدد، بمعنى أن ثمة ارتباطا عضويا فيما بينها، ويتم التأكيد دائما على أن نجاح ثورة «مصر» أو فشلها يعني بالضرورة فشل البقية ونجاحهم، بل هناك من يتورط في الشوفينية المصرية ذات الامتداد التاريخي الناصري، فيزعم أن المنطقة كلها ستتجه للهاوية متى ما ظل «الحل» المصري معلقا إلى أجل غير مسمى، وهذه النظرة لا يروّج لها المصريون، وحق لهم أن ينظروا كيف شاءوا لبلدهم ودورهم، لكن يطرحها سياسيون ومفكرون وكتاب خارج مصر لأهداف تتصل برؤيتهم الجديدة ما بعد الثورات، بتفضيل مخرجات «الثورة» مطلقا على الوضع السابق في البلدان العربية، هناك من يصرح بعشقه «المطلق» للربيع العربي بكل كوارثه وتناقضاته وفوضويته، مفضلا أي استقرار سياسي أو اقتصادي لم يتأثر برياح الربيع، وبالتالي فهناك من يروج لمشروع الإخوان رغم كونه لا يفقه حتى أطروحة الإخوان السياسية، فضلا عن الفكرية، وهم ما يمكن أن نطلق عليهم «الإخوان بالوكالة»، وتلك قصة أخرى. إذا تجاوزنا وهم الوحدة المتوهمة لدول الربيع العربي، فإنه يمكن القول إن الحالة «التونسية» هي واحدة من أثرى وأكثر التجارب القابلة للتغيير والحل، رغم مشابهتها في وصول حزب النهضة – الإخوان إلى السلطة، لكن ذلك التشابه يخفي تحت عباءته الكثيرة من الاختلاف الشديد والتعقيد الذي يجعل من الحالة التونسية موارة بالجديد والتغيير.
في تقديري أن الحالة التونسية رغم الحدث المأساوي الذي تمثل في اغتيال الرمز اليساري الكبير شكري بلعيد، تتجه نحو فض الاشتباك بين الإسلاميين كسلطة اجتماعية ودينية، وبينهم كلاعبين سياسيين أخفقوا في نظر أنصارهم وحلفائهم من التيارات الأخرى قبل المناوئين لهم.
سبب اختلاف الحالة التونسية الذي يجهله الكثير من المتابعين حديثا للشأن التونسي ما بعد الثورات، هو تجذر «اليسار» بشكل عميق، وليس على طريقة الاستيراد النخبوي الذي صنعته الأحزاب الشيوعية في العام العربي، ومنها مصر التي لم يتجاوز اليسار فيها نخبويته حتى في أوج بروزه وتزعمه حركات عمالية، سرعان من انفصلت عنه لتعود إلى حالة عدم التسييس التي تعم أغلب الطبقات العاملة في الحالة العربية، عدا استثناءات قليلة أبرزها تونس.
ورغم ارتباط اليسار التونسي نظريا بالشيوعية منذ وقت طويل، فإنها لم ترتبط بحزب معين أو شخص كاريزمي قيادي، ما جعل فكرة اليسار بما تمثله – عند أنصارها – من عدالة اجتماعية فكرة شعبية، كما هو الحال في شعار «الإسلام هو الحل» الذي يطرحه الإخوان المصريون في الشارع المصري.
ظهرت فكرة اليسار التونسي مع تشكل الطبقة العاملة في تونس في وقت مبكر مطلع الستينات، التي تحولت إلى الاتحاد النقابي للعمال التونسيين، ثم لاحقا توسعت الحركة بظهور حركة بيرسبيكتيف (آفاق العامل التونسي)، وانتهت مع تفكك الحركة نهائيا في أواسط الثمانينات (والتحول المفصلي الذي قدمته في المشهد السياسي التونسي).
وأخيرا يبدأ الطور الثالث لما بدأ اليسار يتشكل في أحزاب سياسية، وهو الأمر الذي جعل أفكارا يسارية رغم «مثاليتها» البديل لأطروحات الإسلام السياسي الذي لم يكن منافسا حقيقيا إلا بعد تحوله لمعارضة مطاردة، استطاع من خلال استثمار «مظلوميته» السياسية أن يكسب تعاطف طبقة جديدة، كما أن ذكاء الحركات الإسلامية المغاربية إذا ما قورنت بالإسلام السياسي المشرقي في التعامل مع التيارات الأخرى، فهناك الكثير من الأطروحات ذات المنزع اليساري القريب من الشعب تبناها قادة الحركة الإسلامية على طريقة «نحن أحق بالعدالة الاجتماعية منهم».
اليوم وبعد أن وصل الإسلاميون للسلطة أصبحوا على مرمى حجارة الشارع التي تجمع بين العاطلين من العمل أو المتذمرين من التحولات الاجتماعية العميقة التي لم يستطع حتى النظام السابق أن يجرؤ على فعلها، ومن ثم دخول مكونات طارئة على المشهد التونسي، سواء السلفية التكفيرية أو الجهادية التي ترفع شعار التغيير باليد والعنف المسلح.
هذه البيئة أفرزت حادثة الاغتيال، وربما لو تأملنا حادثة اغتيال مشابهة لكن بظروف مغايرة في اليمن، حين تم اغتيال القيادي الاشتراكي البارز جار الله عمر، في ديسمبر (كانون الأول) 2002، لوصلنا إلى نتيجة أن مثل هذه الاغتيالات عادة تقوم بتعزيز الفكرة التي كان يدعو إليها المغتال، إلا أن المشهد التونسي اختلف بأن هذه الطريقة الإقصائية في السياسة طارئة على مشهده وليست شائعة كما في الحالة اليمنية.
وبغض النظر عن يد الفاعل هنا، فإن المهم هو قراءة نتائج الفعل التي بدأت في طرح إمكانية استقالة «النهضة» من العمل السياسي، وإعطاء الفرصة لحكومة تكنوقراط مسنودة بفعل الغضب الشعبي تجاه الاغتيال، إضافة إلى فشل «النهضة» في إدارة الحكومة.
والحق يقال إنه ما كان لهذا التحول أن يحدث لولا فروقات كبيرة على مستوى التكتيك بين إسلاميي «النهضة» ونظرائهم في المشرق، وتحديدا في مصر، في تقدير حجم المعارضة.. في الحالة المصرية هناك تسفيه شديد من قبل الإخوان للمعارضة عطفا على حجمهم في الشارع، لكن القلق واضح على رموز «النهضة» من غليان الشارع التونسي، إلا أن الإشكالية التي يمكن أن تصعد للسطح هي أن يتم التحالف بين قادة «النهضة» وبين طبقة التجار وبين الجيش لطرح سيناريو حكومة عسكرية، بما يشبه الانقلاب على الإسلاميين في الجزائر.. الذين يرون في هذا مبالغة يتكئون على خلو تاريخ اليسار العربي من فكرة ما يسمى «العنف الثوري»، وهي فكرة مركزية في كل الأحزاب الشيوعية، حتى العربية منها، في أوقات مضت، وهو ما قد يجعل «ثمن» الاستئثار بالسلطة من قبل «النهضة» بقاءهم في الحياة السياسية للأبد.
بالطبع هناك من يطرح نظرية المؤامرة ويروج لها بأن ما تم هو تصفية من الداخل في اليسار التونسي بهدف تقديم صف الصقور عبر التضحية برموز الحمائم، لكن من الواضح أن مثل هذا التحليل الذي يحمل بصمات «النهضة» لم يفكر في النتائج الكارثية لفعل متهور كهذا في تفكيك لحمة اليسار التونسي بأكمله.
أعتقد أن حدث الاغتيال جعل الحالة التونسية ترفع شعار «لليسار در»، وربما كان تساهل حزب النهضة في التعامل مع التيارات التكفيرية وأنصار السلفية الجهادية، الذي كان لا يعدو في تقديمهم كفزاعة أمام الأحزاب الأخرى من جهة، ومحاولة استمالتهم طمعا في قواعدهم الشعبية التي تتنامى يوما بعد يوم.. هذا التساهل هو ما أفرز حالة الفوضى السياسية التي هيأت المناخ لاغتيال سياسي بهذا الحجم الذي سيكون حدثا مفصليا من الصعب السيطرة عليه بمجرد تغيير شكلي للحكومة.