أنقرة ـ واشنطن.. هل تسربت المياه إلى سفينة العلاقات؟

سمير صالحة: الشرق الاوسط

السفير الأميركي فرنسيس ريكاردوني أغضب الأتراك أكثر من مرة بسبب آرائه وتوقعاته ونصائحه التي وجهها إلى قيادات «العدالة والتنمية» منذ تسلمه مهام السفارة في أنقرة. في البداية حكومة رجب طيب أردوغان كانت تتجاهل ما يقول أو تحاول تمرير المسألة على أنها هفوة دبلوماسية أو تصرف يعود لافتقاره إلى التجربة والخبرة، لكن عندما وجدت أن السفير الأميركي يتعمد ما يقول ويكرره على مسامع كبار الإعلاميين الأتراك الذين يلتقي بهم بين الحين والآخر، تحرك الناطق الرسمي باسم الحكومة حسين شليك ليقول إنه «يبدو أن السفير ريكاردوني لم يتعلم من أخطائه، هو يتجاوز حدود مهامه الدبلوماسية ويتدخل في شؤوننا الداخلية».

السفير الأميركي انتقد تردد حكومة «العدالة والتنمية» في إطلاق حملات الإصلاح القضائي والدستوري التي تتقدم ببطء، وعبر عن انزعاجه من المحاكمات التي تطال بحق كبار الضباط والأكاديميين ورجال الإعلام الأتراك الموقوفين منذ سنوات بتهم التحضير لانقلاب عسكري يطيح بحكومة «العدالة»، ولكنهم حتى الساعة لم توجه إليهم التهم المحددة ولم تحسم محاكماتهم.

فكرت بيللا أحد الإعلاميين القدماء الذين شاركوا في لقاء السفير الأميركي يقول إنه لا يبدو لي إطلاقا أنه دبلوماسي مبتدئ بل على العكس رأيت أمامي شخصية محترفة تتكلم بحذر ودقة، قال إن المحاكمات تطال في قضايا «أرغنيكون والمطرقة» من دون تهم واضحة محددة مما ينعكس سلبا على القضاء والحكومة معا.

قبل أيام فقط كانت تركيا وأميركا تتبادلان رسائل الدعم والتأييد وتجددان الالتزام باتفاقيات الشراكة والتعاون في أعقاب الهجوم الانتحاري الذي استهدف السفارة الأميركية في العاصمة التركية، وكان الدبلوماسي الأميركي نفسه يشيد بدور الأجهزة الأمنية التركية في منع وقوع الكارثة على مدخل سفارة بلاده، لكن رجب طيب أردوغان عندما شعر أن واشنطن وقفت إلى جانب سفيرها وأيدت أقواله تحرك لتذكير السفير الأميركي والإدارة الأميركية نفسها بأن أنقرة ليست تلك العاصمة التي تسمح للآخرين بإدارتها أو التأثير على قراراتها أو رسم سياساتها، وأن الأتراك سيكونون دائما حيث تفرض عليهم مصالحهم أن يكونوا. هي رسالة تذكير للبيت الأبيض بدعوات أنقرة لتوسيع رقعة التعاون مع مجموعة شنغهاي والتحول الاستراتيجي نحو روسيا والصين.

مسؤولون أتراك يقولون إن ريكاردوني تراجع عن أقواله وقدم اعتذارا بسبب سوء فهم كلامه، لكن مصادر السفارة الأميركية وواشنطن يقولون إنه لا اعتذار قدم لأحد وإن السفير كرر ما عنده من دون أي تردد أمام كبار الدبلوماسيين الأتراك الذين التقاهم هو بناء على رغبته وليس نتيجة استدعائه لمبنى الخارجية «لتحذيره وإيقافه عند حده»، كما ذكرت بعض وسائل الإعلام المحسوبة على «العدالة والتنمية».

ريكاردوني أمضى أكثر من ساعتين في مبنى الخارجية التركية، واللقاء المطول هذا تعدى أن يكون مجرد لقاء معاتبة أو لفت نظر.

البعض يتساءل عما إذا كان أسلوب الحكومة الأخير في الرد على السفير الأميركي يلغي الادعاءات والأقوال التي رددها ويكررها منذ أشهر طويلة وفي كل فرصة سانحة، لكن الحكومة ذكرت بمعتقلات غوانتانامو والاعتقالات من دون محاكمات أو تهم محددة، مما يعكس حقيقة وجود هذا التباعد بين أنقرة وواشنطن.

ألا يزعج الحكومة أن تسترد مركز الصدارة في الدول الأكثر مثولا أمام محكمة العدل الأوروبية كما يقول بعض المدافعين عن السفير ريكاردوني؟ لو كانت الحكومة غاضبة حقا فلتشرح لنا أسباب العديد من الزيارات التي قام بها البعض إلى السفارة الأميركية نفسها لاطلاع المسؤولين هناك على تفاصيل اعتقالات ومحاكمات «أرغنيكون والمطرقة» والشفافية في عمليات التوقيف والاعتقال والمداهمات.

التوتر الأخير بين أنقرة وواشنطن أسبابه أبعد وأهم من أن تكون مجرد تدخل أميركي في شؤون تركيا الداخلية.

ريكاردوني انتقد سياسة تركيا المنفتحة على أربيل والمنغلقة بوجه بغداد، فهذا التباعد يزعج واشنطن ويتعارض مع حساباتها وسياساتها العراقية.

أميركا غاضبة، فأنقرة لم تتعاون معها في موضوع صهر بن لادن، سليمان أبو غيث الذي كشفت المخابرات الأميركية عن دخوله تركيا وساهمت في اعتقاله وكانت تمني النفس بتسلمه أو التحقيق مباشرة معه لكن السلطات التركية لم تكتف برفض الطلب الأميركي بل ذكرت الأميركيين أنه لا سبب قانونيا يدفع لتوقيفه واعتقاله، فكل ذنبه هو دخوله البلاد بجواز سفر مزور لكنه جاء يطلب اللجوء السياسي في تركيا بعدما فر من طهران.

أنقرة من ناحيتها قلقة وغاضبة من سيناريوهات يجري الحديث عنها حول تفاهم أميركي – روسي في المسألة السورية على حساب تركيا ومصالحها بعد كل الثمن الذي دفعته، وأن يتم ذلك بدعم وتأييد من إيران وأخذ مصالحها السورية هي بعين الاعتبار.

أنقرة منزعجة من أن يكون التفاهم الأميركي – الروسي يعطي النظام السوري فرص البقاء في الحكم من خلال إقناع بعض رموز المعارضة السورية بذلك، وهو ما يتعارض مع ما قالته هي منذ اندلاع الأحداث إنه لا فرصة أخرى للنظام بعد هذه الساعة، فهو أحرق كل أوراقه في الداخل والخارج.

أنقرة متوترة، فأوباما حسم موضوع رفض التدخل عسكريا في الأزمة السورية، وهو يساوم على حل سياسي يرضي الروس والإيرانيين، ولو كان ذلك على حساب أنقرة وبعض الدول العربية.

أنقرة متشائمة، فهي تشعر أن واشنطن تلهيها بدمى «الباتريوت»، لكنها في الحقيقة تحاور موسكو ودمشق وطهران بعيدا عن الأضواء وعلى حساب أنقرة نفسها التي حسمت أمرها في الموضوع السوري بمعرفة وتشجيع من واشنطن قبل سنتين.

أنقرة مربكة، فواشنطن تطرح موضوع «جبهة النصرة» لتكون حرة في التحرك وتحديد السياسات والمواقف في الموضوع السوري وترفض في الوقت نفسه أي تقارب تركي – روسي ثنائي وإقليمي، لكنها تسمح لنفسها بمفاوضة الكرملين والمساومة على مستقبل سوريا من دون تقديم أي اعتبار لمصالح الحلفاء والشركاء.

أنقرة مستفزة عندما ترى أن واشنطن تفسح المجال أمام إيران لتكون شريكا في صناعة المسار السياسي للعراق وترفض لتركيا أن تحمي مصالحها العراقية باللعب بورقة أربيل الاقتصادية والتجارية والسياسية في موضوع حزب العمال الكردستاني وإطلاق مشروع الحوار مع أوجلان المسجون في جزيرة إيمرالي.

أنقرة ثائرة، فهي تتفرج على إدارة أوباما تماطل في استقبال أردوغان في البيت الأبيض لكنها تجدد دعمها العلني والمفتوح لإسرائيل وحكومة نتنياهو الجديدة، متغاضية عن كل تعهداتها لأنقرة بالوقوف على الحياد في التوتر التركي – الإسرائيلي أو إقناع تل أبيب بمراجعة أسباب الغضب التركي وضرورة التعامل معه بجدية.

This entry was posted in دراسات سياسية وإقتصادية, ربيع سوريا. Bookmark the permalink.

Leave a Reply

Your email address will not be published. Required fields are marked *

This site uses Akismet to reduce spam. Learn how your comment data is processed.