بشار بن برد شهيد الحرية
جهاد علاونة
حين سمع جارية تغني من بعض أشعاره قال:والله هذه الأشعار أفضلُ من سورة الحشر,كان يفضل النار على الطين,وإبليس على آدم,صارع من أجل الحياة كثيرا فصرعته, وتعب من الحياة كثيرا وأتعبته,لدرجة أن الناس حين قتله الخليفة المهدي قد تمنوا له الموت من قبل ذلك حتى يرتاح من آلامه وجروحه, كانت أيضا نظرته للحياة نظرة سوداوية هدده الخليفة (المهدي) بقطع رأسه إن لم يكف عن التغزل بالنساء وتشجيع الشباب على إظهار الفجور فقال له :إن لم تنته لآتين على روحك,ومن أجمل أشعاره الغزلية:
يا قومُ أذني لبعض الحي عاشقةٌ
والأذنُ تعشقُ قبل العين أحيانا.
ومما يحزن قوله كلمة(حس) بدل ذكر ألله حين بدأ سيّاف وجلاد الخليفة بجلده حتى قال وزير المهدي للمهدي:أنظر إليه إنه يقول حين يتألم (حس)بدل أن يذكر اسم الله,فقال بشار وهو يبتلع أنفاسه :ويحك اهو طعام حتى اذكر اسم الله عليه!! فقال له لماذا لا تحمد الله!, فقال والسياط تأكل بجلده:وهل هذه نعمة من الله حتى أحمدُ ألله عليها؟ فجلدوه سبعين جلدة على ظهره ومن ثم رموه ككيس نفايات في أحد القوارب التي تمخر دجلة والفرات فمات شهيداً من شهداء حرية الفكر والرأي والتعبير,عاش صاحبنا مكروها من قبل كل الناس ومن الخليفة نفسه ومن رجال بلاطه ,ولم أحزن في حياتي على أحد المفكرين أو الكتاب كما أحزن على بشار بن برد كلما انفتحت شهيتي للقراءة عنه, ومن أقواله الشعرية -التي تدل على ابتعاده عن أرض الواقع وعيشه في مجتمعٍ يشعرُ به بالاغتراب الفكري والاجتماعي- قوله:
الأرض مُظلمةٌ والنارُ مشرقةٌ
والنارُ معبودةٌ مذ كانت النارِ
إبليسُ خيرٌ من أبيكم آدمُ
فتنبهوا يا معشر الفُجّارِ
النارُ عنصره وآدمُ طينه
والطين لا يسمو سُموّ النارِ
ومن أقواله النثرية :”لقد عشتُ في زمنٍ أدركتُ فيه أقواماً لو احتفلت الدنيا ما تجمّلتُ إلا بهم,وإني في زمانٍ لا أرى فيه عاقلاً حصيفاً ولا فاتكا طريفا,ولا ناسكاً عفيفا,ولا جوادا شريفا,ولا خادماً نظيفا,ولا جليساً ظريفا, ولا من يساوي على الخبرة رغيفا” وقال مرة:الحمدُ لله الذي ذهبَ ببصري,فقيل له,ولِما يا أبا معاذ؟ فقال:لئلا أرى من أبغض.
كاد أن يكون أشعر أهل العرب إطلاقا على حسب قوله حين هجا الشاعر (جرير) وكان في وقتها بشار صغيرا لم يرد عليه جرير بقصيدة هجاء أخرى,وقال لأبيه لو هجاني جرير لأصبحت مشهورا بين العرب ولكنتُ أشعرَ الناس,كان يعاني من عدة عقد نفسية أهمها أنه كما يقولون(لا محضر ولا منظر) فكانت النساء تبتعد عنه لقبحٍ في منظره ,كان ضريراً لا يرى على الإطلاق ,وثانيا كان لا يطيق أي شخص النظر في وجهه الدميم,وثالثا كان عظيم الجثة ولديه زيادة في الوزن فضيعة جدا نستطيع تشبيه جسمه بلوحة من الرسومات الكاريتورية المضحكة,كان وجهه يشبه ورقة الجوكر,وكانت زيادة وزنه متعلقة بانغماسه في الشهوات من أطعمة وشراب وكان بحق يريد أن يفني حياته بالأكل وبالشرب طالما أنه لا محالة ميت,وكان يريد أن يموت بالشبع الزائد بدل أن يموت من الجوع الزائد,وكان كلما تألم أكثر كلما انغمس في الأكل أكثر وفي المجون أكثر, كان أيضا يشتغل بالكلام وله وجهات نظر في آدم وإبليس,وكان يعاني من عقدة نقص أخرى وهو أن أصله غير عربي فأبوه من الموالي الذين عاشوا في عصر بني أمية,وشهد بشار بن برد انتقال السلطة من الأمويين إلى العباسيين وبذلك فرح بشار فرحا كبيرا بهذه الثورة وبتلك النقلة النوعية ولكن كان سلوكه غير مقبول من قبل الناس وكان يعلن على الملأ وعلى العامة زندقته.
وحين رثا ابنه محمد بقصيدة:أجارتنا لا تجزعي,شكك النقاد بقدرة بشار على الرثاء كونه إنسان ماجن أفنى عمره في اللذات فكيف له أن ينغمس بالأحزان طالما أنه عاش طوال حياته مستهتراً ومنغمسا في الملذات ولا يدري النقاد أن الإنسان في أغلب الأحيان ينغمس في الملذات وفي الفكاهة ليتخلص من أحزانه وآلامه,وفي تمنيه موت محبوبته (عبده) كان نوعا من حب التخلص من الألم الذي سببه له عشقه لها,فالشاعر هرب من جحيم الواقع ليلقى نعيما في وصل المحبوبة له ولكن كانت النتائج عكسية فتمنى موتها ليموت حبه لها,أو على حسب التعبير القائل:من حبي لك أتمنى لو تموت لأكتب فيك قصيدة رثاء من أعظم القصائد على الإطلاق,كان يُقبل على محبوبته وكأنه (دانتي) يقترب من (أبيروس)في مظهر يدل على كثيرٍ من الحياء غير المصطنع,وكان حبه لعبدة وللهو على أساس الفرضية العلمية القائلة:أن الإنسان ينغمس في الشهوات لكي يتخلص من شيء ما أو من جرح كبير يؤلمه أو كما قال أحد الفلاسفة :انفتاح الشهية على الكتابة تعني أن هنالك جرحا كبيرا قد انفتح مع تلك الشهوة,وهنا الإنسان الذي على شاكلة الشاعر والمفكر بشار بن برد يعشق ويلهو ويتزندق لكي يهرب من واقع آخر أشد إيلاما عليه من غرس السهام والرماح في صدره.