في الأعمّ الأغلب يصعب حتى على الصحافيين الكبار الجمع بين البحث الأكاديمي الموضوعي.. والحس الصحافي اللمّاح.
الاستثناءات موجودة، لكن بصفة عامة أن يتغلب هذا على ذاك، أو العكس. وفي الإعلام العالمي بلغ كثيرون مرتبة «المرجعية» في قضايا تتعلق بتخصّص فرّغوا له نصيباً كبيراً من رحلة عمرهم. وبعضهم حصل على درجات أكاديمية رفيعة من دون أن يخطر ببالهم الإشارة إليها ولو تلميحاً في سيرهم الذاتية. ومن هؤلاء باتريك سيل، الكاتب والمؤرخ والإعلامي الموسوعي، الذي توفي قبل بضعة أيام عن عمر ناهز الثالثة والثمانين.
التقيت بباتريك سيل لأول مرة في أواخر عام 1982، وكنت حريصاً على اللقاء أمام خلفية الاجتياح الإسرائيلي للبنان، إذ كان يهمني كثيراً أن أتعرّف بأولئك الكتاب المتخصصين بشؤون الشرق الأوسط في كبريات الصحف البريطانية لأتعلم منهم، وأنقل إليهم صورة ما يحدث وتداعياته من شخص تسكنه المنطقة وإن كان قد غادرها جسدياً. وكان بين من عرفت عن كثب باتريك سيل… والصديق إدوارد مورتيمر، الذي كان في تلك الفترة مُشرفاً على شؤون الشرق الأوسط في صحيفة «التايمز» ما قبل عصر رووبرت مردوخ، وكان مراسلها في بيروت حينذاك روبرت فيسك. ولقد استمرت الصداقة مع إدوارد حتى بعد مغادرته «التايمز» إلى «الفايننشيال تايمز»، ثم انتقاله إلى الأمم المتحدة مستشاراً إعلامياً لكوفي أنان إبان تولي الأخير الأمانة العامة. أما علاقة الود مع باتريك سيل فاستمرت.. ولكن من دون أن تتحوّل إلى صداقة وثيقة، وهذا مع أننا بقينا نلتقي في المناسبات ونتبادل الأحاديث السريعة.
كان اللقاء الأول في أحد المطاعم اللبنانية في لندن. ومنذ اللحظة الأولى أخذ بلباقته وروحه المرحة «يستنطقني»، مهتماً بالإحاطة بخلفيتي الشخصية الدينية والمذهبية والمحلية لكي تتكامل لديه الصورة عن محدّثه، كيف لا وهو الذي فهم «على الطبيعة» تكامل هوية الإنسان المشرقي وتعقيداتها وتداخل دوائرها، والذي عاش في بيروت وتنقّل في لبنان وسوريا لسنين… فبات من «أهل البيت» كما يقال.
من ذلك اللقاء اكتشفت سيل الإنسان اللطيف والذكي المثقف، وأعجبني اسما ولديه… أورلاندو ودليلة. وبعد عشاء طويل ناقشنا خلاله أحداث المنطقة معرّجين على جوانب من تاريخها، أوصلته بسيارتي إلى بيته في شارع موتكوم ستريت، عند الحد الفاصل بين حيي بلغرافيا ونايتسبريدج الراقيين، قرب فندق الكارلتون تاور. وكنت قد علمت منه أن مسكنه جزء من «الغاليري» الذي يملكه للصوَر والتحف الفنية، وكان خبيراً فيها وفي تجارتها. ولاحقاً علمت أنه كان وكيلاً لفنانين وأدباء بينهم الموسيقار النابغة يهودي مينوهين.
قبل 1982 كنت متشوّقاً إلى التعرف إلى ذلك الرجل الذي كتب أحد أمتع كتابين قرأتهما عن سوريا، لتاريخه، وهما «مذكرات خالد العظم» وكتابه القيّم «الصراع على سوريا» (The Struggle for Syria) – المنشور عام 1965 – الذي كنت قد قرأته بنهم إبان دراستي في الجامعة.
من ناحية ثانية، لفرط موسوعية سيل وإلمامه المدهش بشؤون الشرق الأدنى، وخصوصاً سوريا ولبنان، أحيطت شخصيته عندي قبل أن التقيه بهالة من الشائعات والغموض.
يومها كنا صحافيين شباناً طارئين على المشهد الإعلامي البريطاني الرّحب والعميق. وكانت «نظرية المؤامرة» راسخة في أذهاننا… أليس كل مستشرق «مشروع مؤامرة تجسّس» ما لم يكن جاسوساً بالمطلق؟! على الأقل هذا ما سمعته في بداية مشواري الصحافي عن ديفيد هيرست مراسل «الغارديان» في بيروت، إذ نبّهني صحافي لبناني مخضرم قائلاً: «لا تُعجب كثيرا بأمثاله.. فكلّهم في النهاية جواسيس (!)»..
في ما يخصّ باتريك سيل لم يقف «الغموض» عند هذا الحد، إذ تناهى إلى سمعي ذات يوم أنه «يهودي»… وما أدراك معنى أن يكون يهودياً ذلك الكاتب الخبير في شؤون بلادنا الذي يؤثر في الرأي العام وتصغي لما يقوله الحكومات.
ثم سمعت أن أمه «علوية» في محاولة لتفسير تعاطفه الشديد مع البعث بشقه «الأقلياتي» الذي حكم سوريا – ولو من وراء الستار – منذ 1963 في أعقاب سقوط حقبة لؤي الأتاسي التي أنهت حكم «الانفصال» وما يسمى بمجموعة «الضباط الشوام».
في حقيقة الأمر، وهذا هو الجانب المهم، أن سيل سيظل يُذكر كظاهرة إعلامية وبحثية وثّقت المشرق العربي وأحبته وفهمته – أحيانا أكثر من الكثير من مثقفيه – بغض النظر عن مواقفه الحذرة والمشكّكة، وآرائه الملتبسة عموماً، بعد الانتفاضة السورية عام 2011، ومن دون التوقّف طويلاً عند بعض السيَر الشخصية التي كتبها في أواخر سنوات عمره، والتي أزعم أنها لم تضف إلى رصيده الشيء الكثير.
* آراء ومواقف من سيل
* «… كتب باتريك سيل، الكاتب البريطاني المهتم بقصة سوريا وحكم عائلة الأسد، يوم الجمعة الماضي، في صحيفة «الحياة»، مقالا تناول فيه الملف السوري الملتهب، وشرح، حسب رؤيته التحديات التي تواجه المتصارعين على سوريا، من روسيا إلى أميركا والاتحاد الأوروبي، طبعا هو أبدى موقفا نقديا «لتأخر» الرئيس بشار الأسد في الإصلاحات والاعتماد على الحل الأمني فقط، وهو بالمناسبة موقف تجاوزته أحداث الثورة السورية، ولم يعد يصنّف على أنه موقف معارض للنظام الأسدي، لكن هكذا خيل لباتريك سيل أنه بهذا الموقف قد احتفظ لنفسه بموقع حيادي، كما خيل لكثير من اليسار والقوميين العرب، وبقايا الحزب القومي السوري الاجتماعي، ممن أحرجهم بطش وتوحش نظام الأسد، لكنهم لا يريدون رحيله ولا نجاح الثورة ضده، فاتخذوا مثل هذه المواقف المائعة.
هو كلام منخرط في نسيج خطاب لافروف وعلي أكبر صالحي وحسن نصر الله، وربما ثلة من القوميين وقليل من اليساريين والإسلاميين، حلفاء الأمس «الممانع» مع بشار وخامنئي. أناس مثل باتريك سيل وبعض مراكز الأبحاث حتى في أميركا، هم جزء من النسيج النفسي الداعم لمخاوف الغرب القديمة من يقظة قوة ما في هذا المشرق، تجدد ذكريات التاريخ القريب والبعيد ….».
(مشاري الذايدي: «الشرق الأوسط» – الثلاثـاء 31 يونيو/ حزيران 2012 )
«.. منتقدوه (أي باتريك سيل) أخذوا عليه أن قربه من نظام حافظ الأسد جعله منه محامياً له. ربما، ولكن سيل لم يكن غبياً. كان يعرف أن قلب نظام الأسد من رصاص غير أنه استطاع الاستفادة من منفذه إليه…
… (وبعد الانتفاضة السورية) من يستحق اللوم غير بشار نفسه على خطيئته الشنيعة. وكما يعرف سيل، الذي غطى أخبار منطقة ألفت تصرفات من هذا النوع، إن الطغاة يتصرفون بحمق لأن لا أحد يردعهم. بعد مسيرة غطى طوالها الشرق الأوسط، يستحق سيل أن نتذكره بأشياء اكثر من زلاته…».
(مايكل يونغ: «الديلي ستار» اللبنانية – 3 أبريل (نيسان) 2014)
*«…(باتريك سيل) كتب بعاطفة صادقة عام 2012 بأن السبيل الوحيد لمنع حرب اهلية شاملة في سوريا سوريا، يتوقع أن تدمّرها على غرار ما حدث في العراق وتقضي على استقلال المشرق العربي بأسره، يتمثل بمفاوضات تحت رعاية الأمم المتحدة بين الثوار والحكومة. سيل أيد إنهاء (عسكرة) الأزمة وممارسة أقصى الضغوط على الجانبين للدخول في مفاوضات، وانحى باللائمة على قوى خارجية في دعم الثوار برفضها السماح بالتفاوض، وإفشالها مهمة كوفي انان المكوكية الهادفة لإنقاذ البلاد. لقد تثبتت الحرب الهلية على أرض سوريا منذ كتب (سيل) تلك الكلمات. لقد كان سيل على حق».
(فرانسيس ماثيو: «الغلف نيوز» الإماراتية – 12 أبريل/ نيسان 2014)
*«عمل باتريك سيل مراسلاً صحافياً وأجرى مقابلات مع أبرز القادة والشخصيات في الشرق الأوسط، ولم تغب القضية الفلسطينية عن مقالاته، إذ عدّها حجر الزاوية بالنسبة إلى الكرامة والهوية العربية، مشيراً إلى أن الدول العربية الثرية عجزت عن استخدام تأثيرها في الولايات المتحدة وأوروبا للمطالبة بالعدالة للفلسطينيين، كما رأى أن حل الدولتين أصبح ساقطاً عملياً. أبرز مواقفه الأخيرة يتجلى في قوله: إن الكيان (الإسرائيلي) يسعى للسيطرة العسكرية على المنطقة، ويضغط على الولايات المتحدة من أجل إسقاط محور المقاومة مؤكداً أنه لا يمكن فصل ما يجري في سورية عن التطورات في المنطقة».
(موقع صحيفة «تشرين» السورية، ووكالة «سانا» السورية الحكومية للأنباء، وقناة «الميادين» التلفزيونية المؤيدة لدمشق)
* «باتريك سيل يلمح إلى أن العصابات وراء مجزرة الحولة. كيف نقاوم رغبة الرد بأقذع الألفاظ على (شبيح القلم) المبتذل هذا»؟
(المعارض السوري صبحي الحديدي على «تويتر»)
نقلا عن الشرق الاوسط