في حلب الأمر يختلف ولو قليلا، فلتلك المدينة عراقتها في استقبال الضيوف، ومعروف عن الحلبيين آدابهم في التعامل مع الغرباء.
أحبّ حلب؛ وحبي لتلك المدينة قد يدفعني للإنحياز لها! أحبّ حلب لأنها علّمتني وشهدت قصة عشقي!
تخرجت من كليّة الطب في جامعتها، عشقت وتزوجت أحد أبنائها ومازال ذلك العشق يلامس شغاف قلبي!
كان مشفى حلب الجامعي، المشفى الذي تدّربت فيه خلال سنوات دراستي الأخيرة، كان قبلتنا الأولى.
استقبلنا رئيس الأطباء الدكتور علي في مكتبه، ورغم برودة الإستقبال ومحاولة، بريئة أو متعمّدة، منه للإستخفاف بالأمر لايسعني إلاّ أن أعترف بأنه أفضل من غيره، فعلى الأقلّ كلّف إحدى الممرضات بمساعدتنا للقيام بمهمّتنا!
تقدمت منه بهديّة حملتها معي من الجامعة التي أوفدتنا وهي عبارة عن مرجع في الصحّة النفسيّة حديث التأليف والطبع، وهو مقرّر دراسي في الجامعة نفسها. وضعت الكتاب على طاولة مكتبه وقلت إنّه هديّة مني إلى مكتبة المشفى. لم يردّ بكلمة واحدة ولم تلمس يده الكتاب! منذ تلك اللّحظة وأنا أفكر بتصرّفه!
روودلف جولياني الذي كان عمدة مدينة نيويورك أثناء أحداث أيلول الإرهابية ألّف كتابا بعنوان” القيادة” جاء فيه:
“لاتستطيع كقائد أن تتجنّب الكوارث الكبيرة إلاّ اذا ركّزت اهتمامك على الأمور الصغيرة”!
لاأحد ينكر أنّ الوطن يعيش كارثة حقيقة في كلّ جوانب الحياة، ولكن لاأحد ينتبه إلى خطورة الأمور التي تبدو صغيرة، بل صغيرة للغاية!
غياب الحسّ العام، أو الذوق العام، ـ إذا صح التعبير ـ عند المواطن العادي كارثة قادت إلى كلّ الكوارث!
انهيار الآداب العامة المسؤولة عن تنظيم العلاقات الإحتماعية أدى بدوره إلى انهيار المجتمع كنسيج اجتماعي يمسك في لحمته ناس ذلك المجتمع.
كيف سنسعى لحلّ المشاكل الكبيرة والكثيرة، التي لمستها وسأكتب عنها لاحقا، في ذلك المشفى إذا كان رئيس الأطباء فيه عاجزا أدبيّا على أن يتفوّه بكلمة شكر عندما تقدّم إحدى زميلاته هديّة له، بغض النظر عن قيمة تلك الهديّة؟!
********
اخترنا العيادات الخارجيّة لتكون موضع دراستنا.
لقد ظننت وأنا أمرّ في الدهاليز الضيّقة الممتدة أمامها أنني في يوم الحشر!
عدد المتواجدين يفوق بالمئات عدد المرضى، فلقد رافق كلّ مريض عشرة على الأقلّ من عائلته أو قريته أو قبيلته. ولا تجد تفسيرا لتلك الظاهرة إلاّ ضعف ثقة المريض وذوويه بالمشفى وكادره الطبيّ.
تتكوّن لديهم، وكنتيجة حتميّة لسوء سمعة المشافي الحكوميّة، قناعة بأن مرافقة المريض تخفف من حدّة ألمه النفسي الناجم عن اضطراره للجوء إلى ذلك المشفى المخزي! وممّا ساهم في ازدياد الوضع سوءا قيام عدد لابأس به من أهالي المرضى بالتدخين غير مكتريثين، أو متناسين أنهم في مشفى!
وتعود القضيّة، قضيّة غياب الحسّ العام، لتفسّر لي هذه الظاهرة المرفوضة أخلاقيّا!!
كانت العيادة العينيّة من نصيبنا. وقفنا على الباب مع الممرضة المرشدة دقائق خلتها ساعات، كان لطم المرضى وذوويهم ودفشهم يأتينا من كل حدب وصوب!
تدخّلت القدرة الإلهيّة مرّة أخرى لنجد أنفسنا داخل الغرفة. ومهما حاولت سأجد نفسي عاجزة عن وصف مايدور بداخلها!
اختلط الحابل بالنابل، لاتعرف الطبيب من المريض من الممرّضة!
الغرفة لاتتجاوز بمساحتها مساحة غرقة عاديّة في أيّ بيت، نصبت فيها أربع طاولات بأربع منظارات لفحص العين، وخلف كلّ منظار يجلس طبيب وقبالته مريض. الداخل اليها مفقود والخارج منها مولود! والباب باستمرار يغلق ويفتح دون أي محاولة لتنظيم عمليّة الدخول والخروج، كأن يتّم ادخال أربعة مرضى في آن واحد وإخراجهم في آن واحد كي يتوفر الهدوء اللازم أثناء عمليّة الفحص الطبيّ!
هل نحتاج إلى عالم صواريخ كي ينظّم لنا العيادة العينيّة في مشفى حلب الجامعي؟!!
طبعا لا!!
كلّ مانحتاج اليه زرع الحسّ العام في ضمير المواطن طبيبا كان أم مريضا أم ممرضة!!
إذا الأزمة ليست أزمة تكنولوجيا، إنّها أزمة ذوق وحسّ وأخلاق!!
*********
موضوع النظافة قضيّة أخلاقيّة أخرى أثارت انتباهي في كلّ المشافي التي زرتها، ناهيك عن المرافق العامة الأخرى!
كنت أناقش هذا الموضوع في غرفة الممرضات في أحد المشافي الجامعيّة التي زرناها، فأطلعتنا إحداهن على قصّة حدثت في الصيف الماضي في غرفة عمليّات المشفى.
نقلت إلى الغرفة سائحة فرنسيّة كانت قد تعرّضت لحادث سيارة وأصيبت بعدّة كسور. أثناء تحضيرها للعمل الجراحي قامت الممرضة المسؤولة باستخدام “بيف باف” البخاخ المضاد للذباب، ورشّه فوق طاولة العمليّات في محاولة للحدّ من الذباب الطائر. تنبّهت المريضة الفرنسيّة للوضع فقفزت من على الطاولة ورفضت أيّ إجراء جراحي واتصلت بسفارتها لتنقلها بالسرعة القصوى إلى بلدها.
عامل التنظيفات في سوريّا وزير!
استلم المنصب عن طريق الإلتماس والواسطة، الأمر الذي يولّد لديه إحساسا بأنه مخلوق مهّم للغاية! ذلك الإحساس الذي يخفف بالمقابل إحساسا مناقضا آخر يشعره بضآلة العمل الذي يقوم به!
الأعراف العربيّة لاتحترم المهن، وايجاد معنى كلمة “مهنة” في قاموس اللغة العربيّة يطلعك على حقيقة الأمر! ناهيك عن مهنة “عامل تنظيفات” التي تزيد الطين بلّة!
*********
أذكر ماحدث مؤخرا، دعتنى المدرسة التي تلتحق بها ابنتي لحفل عشاء ستوزع فيه الجوائز على فريق كرّة السلة الفائز بالمباراة النهائيّة لهذا الموسم، باعتبار ابنتي لاعبة فيه.
مدرّب فريق المدرسة كان عريف الحفل. في البداية رحب بالطلاب والآهالي ثم أعلن وجود ضيفيّ شرف يجلسان معا على طاولة واحدة، ورحب بهما ترحيبا خاصا، هما مدير المدرسة وعامل التنظيفات، مثنيا بشكل خاص على الآخر ومصرا على أنّه لعب الدور الأكبر في فوز الفريق، لأنّه كان يبقى بعد انتهاء الدوام كي يتأكد من نظافة الملعب قبل بدء التدريب.
ذكّرني هذا الترحيب بالطريقة التي نتعامل فيها مع هذا النوع من المهن، والثمن الذي ندفعه بسبب تلك الطريقة!
لانحتاج إلى عالم صواريخ كي نحلّ قضيّة النظافة في بلادنا، بل نحتاج إلى إعادة النظر في قواميسنا!
نحتاج إلى رفع مستوى الحسّ العام لدى انسان الوطن، كي يعتني بنظافة ذلك الوطن ويحترم عامل تنظيفاته!
*********
أذكر قصّة قرأتها مرّة بالإنكليزيّة. قصّة ذات مغزى عميق تقول:
اختلفت أعضاء الجسم الواحد فيما بينها، كلّ عضو يدّعي أنّه الأهمّ.
صاحت العين: أنا التي تبصر كل شيء ولولاي لأصبحت حياتكم ظلاما!
اعترضت اليدّ: أنا أقوم بكلّ عمل تحتاجون اليه، ولولاي لعجزتم عن انجاز أيّ شيء.
فردّ الفمّ: أنا الذي أمضغ الطعام وأزوّد به الجسم، ولو لم أتفضّل عليكم بعملي هذا لكان الموت نصيبكم!
ثار الدماغ غضبا: يبدو أنكم جميعا قد نسيتم أو تناسيتم أنني الآمر الناهي، ولولاي لم استطاع أحد منكم أن يقوم بوظيفته!
كانت الشرج تصغي إلى جدلهم وانتظرت بصبر حتى جاء دورها: ولكنني أنا الذي أقوم بأهم الأدوار، ولولاي لقتلتكم فضلاتكم وسمومكم!
غرق الجميع في نوبة ضحك مستهزئين، صائحين: اخرسي أيّتها الحمقاء! لقد أعمتنا رائحتك!
حزنت الشرج وقررت أن تلقّنهم درسا لن ينسوه.
شدّت حزامها وتوقّفت عن عمليّات الصرف التي كانت في العادة تقوم بها.
وما هي إلاّ ساعات معدودات حتى خارت قوى الجسم وأشرف على الهلاك، فصاحت أعضائه مستجيرة: نتوسّل اليك أيتها العزيزة أن تتوقّفي عن الإضراب وتعودي إلى عملك المشرّف، فلولاك لن يكتب لأحد فينا الحياة!
بهذه القصص يزرعون الحسّ العام في نفوس أولادهم، وبقواميسنا وكتبنا المليئة بالخزعبلات نقتل هذا الحس في نفوس الأجيال!
متى ننتبه أن جسدنا قد أشرف على الهلاك فنصيح جميعنا: لكلّ واحد فينا اعتبار!
متى يدرك رئيس الأطباء في كلّ مشفى من مشافينا أنّه ليس أهمّ من عامل التنظيفات!
*********
في حلب استضافتنا عائلة مسلمة متديّنة. وكانت ضيافة في منتهى الأدب والكرم.
والغريب في الأمر أن جميع أفراد تلك العائلة يعرفون طبيعة كتاباتي ويطلعون يوميا على موقعي الإلكتروني.
في البداية ترددت في قبول ضيافتهم، لاخوفا وإنّما تجنبا لأيّ احراج لي ولهم، ولكن ربّ العائلة، والذي تربطه بزوجي علاقات اخويّة وصداقة حميمة، أصرّ وزوجته على استضافتنا بعناد ورحابة صدر كان من الصعب عليّ أن أقاومهما.
لديه ولدان في عمر المراهقة طلبا مني أن أجيبها على بعض الأسئلة التي تتعلق بكتاباتي في حضور والديهما.
لم يمانع الوالدان رغم أنني أكّدت لهما عدم قدرتي على جواب ناقص مبتور ولا أستطيع أن أواري رسالتي التي أحملها خلف عبارات غير واضحة أو صريحة في محاولة لتجنيبهم الإحراج.
فاجأني أحد اليافعين بسؤال ينمّ عن براءة طفوليّة نقيّة:
خالة! عندما تنظرين إلى الكعبة في موسم الحج وترين حوالي مليوني بني آدم يدورون حولها بخشوع وايمان ألا يساورك شكّ بأن ماتكتبيه عن المسلمين ليس صحيحا؟ هل يعقل أن يكون بليون مسلم على خطأ وأنت على صح؟!!
– يابنيّ أريدك أن تعرف أن المواجهة ليست بيني وبين بليون مسلم. المواجهة بيني وبين التعاليم الإسلاميّة.
لاتستمد أيّة فكرة مصداقيتها من عدد الناس المؤمنين بها، بل من الأثر الإيجابي الذي تتركه في حياة هؤلاء الناس.
عندما يؤمن بليون شخص بفكرة خاطئة لايعني هذا أنّها فكرة صحيحة. وحده الأثر الذي تركته في حياتهم يثبت مصداقيّتها أو بطلانها.
المسيحيون أكثر عددا من المسلميين. البوذيون والهندوس أكثر عددا من المسلمين. لماذا إذا لاتعيدون النظر في عقيدتكم طالما نقيّم مصداقيّة العقيدة من عدد الناس المؤمنين بها؟!!
لو اقتنع العلماء بمصداقيّة بعض الأفكار من خلال عدد الناس الذين يؤمنون بها ورفضوا أن يشكّوا بها أو أن يسعوا إلى دحضها لظلّ العالم غارق حتّى اليوم في بحر الجهل والظلمات.
ارسطو فيلسوف يوناني مازال العالم مدين له بالكثيرمن الحكمة والفلسفة. كان يعتقد أن الإنسان يولد من نطفة الرجل، وهذه النطفة، منذ البدء، تكون على شكل انسان متناهي في الصغر. عندما يزرع الرجل نطفته في رحم المرأة يبدأ هذا الإنسان “القزم” بالنمو حتى يصبح جنينا كاملا.
ظلّ الناس على مرّ الأزمان والعصور يؤمنون بتلك الفكرة حتى جاء القرن التاسع عشر باكتشافاته العلميّة المذهلة، والمجهر الإلكتروني إحداها، فدحض تلك الفكرة وأقام محلّّها علما مستقلا كاملا يدرس التكاثر والوراثة والصبغيات ودور الذكر والأنثى على حدّ سواء في تلك الظاهرة الطبيعيّة.
حتى عصر غاليلو كان البشر أجمعين يؤمنون بأن الأرض ثابتة وهي مركز الكون. لماذا لم ُيثبت عدد هؤلاء البشر مصداقيّة تلك الفكرة. هل بإمكانك أن تتصور لو اقتنع غاليلو بتلك الفكرة من خلاله عدد الناس المؤمنين بها أين كانت البشريّة الأن؟!!
شخص واحد غيّر خارطة الكون عندما أثبت خطأ ملايين الأشخاص!
علماء الفضاء اليوم، وبناء على أعمال غاليلو وغيره من العلماء، يحرّكون بأياديهم من على سطح الأرض مركبة الفضاء وهي جاثمة على سطح المريخ!
علماء ناسا الأمريكيّون يطلقون صواريخ لتفتيت المذنّبات وهي في الفضاء بينما “علماء” المسلميين ينزوون في مساجدهم مقتنعين: ” وجعلناها رجوما للشياطين”!
فقرهم الفلسفي والعلمي المدقع يحوّل كلّ حوار معهم إلى جدل عقيم لاطائل منه.
عندما يجادلك بليون شخص بالمعجزات العلميّة التي تحدّث عنها القرآن لايستطيعون أن يثبتوا صحّة ادعاءاتهم.
بليون انسان يؤمنون بأنّ الله قد فرش الأرض كالبساط لايستطيعون أن يدحضوا الحقيقة العلميّة التي تثبت بأنّ الأرض كرويّة.
تقول لهم الأرض كرويّة والقرآن يقول: بسطناها؟
فيردون: القضيّة هنا لغويّة بحتة! كلمة بسطناها تعني جعلناها كرويّة!
تقول لهم: بطة!
يقولون: بل عنزة ولو طارت!
************
ما يسعدني هو أن الجيل الشاب بدأ يقرأني. في البداية ليس مهما بالنسبة لي أن يقتنع بما أكتب.
أول دليل على تأثرهم بكتاباتي طرحهم لأسئلتهم.
عندما يطرح الإنسان سؤالا يؤكّد أنه بدأ يستوعب ما يقرأ.
الأسئلة التي تصلني من الجيل الشاب تفائلني رغم أنها قد تعطي انطباعا برفضه لما يقرأ، لكنّه انطباع خاطئ فالشكّ بداية المعرفة والسؤال أول خطوة في طريق الإستيعاب والفهم.
شابة مسلمة في السادسة عشر من عمرها كتبت لي بعد قرائتها لموقعي مستفسرة: لماذا خلقني الله انثى في مجتمع يحتقر الأنثى؟!!
رغم أهميّة جوابي مازلت مقتنعة بأن السؤال أهم منه.
طرحها لهذا السؤال يؤكّد لي أنها بدأت تستوعب المشكلة التي تعيشها كأنثى في مجتمعها.
ومتى أدركت الأنثى بأنها تعيش مشكلة ستسعى حكما لإيجاد حل لمشكلتها.
الإعتراف بالمشكلة، وعلى حد قول عالم النفس الأمريكي فيل ميك غرو، هو نصف الحل!
بل هو النصف الأول والأكثر أهميّة، وجوابي، إن أجدته، سيكون النصف الآخر!
***********
في اليوم الثالث والأخير لتواجدنا في حلب قمنا بزيارة بعض الأماكن الأثريّة كالمتحف الوطني وقلعة حلب وبعض القرى المحيطة بالمدينة والتي تتميّز ببيوتها المقببّة والمصنوعة من الطين.
أثناء تجوالنا في شوارع المدينة صادف مرورنا من جانب جامع الرحمن في حيّ السبيل. منظر قبّته من الخارج يشدّك للدخول إليه.
بدأ بناء هذا الجامع ـ على ماأذكر ـ في أواسط السبعينات ولا أعتقد أنّهم انتهوا من بنائه حتى الآن، هذا ماتدلّ عليه بعض ورشات العمل التي رأيناها حوله.
سألنا الحارس إذا كان بإمكاننا الدخول فوافق شرط أن نغطي رؤوسنا. في الجامع لايوجد أغطية للرأس فاضطررنا أن نخلع معاطفنا ونتبرقع بها.
على باب الجامع علّقت لوحة كبيرة ُكتب عليها: ” احذروا سارقي الأحذية”. فحملنا أحذيتنا ودخلنا بها.
داخل البهو وقفنا مذهولين من التصميم الرائع للقبة التي تحيط به!
لايمتلكني أدنى شكّ بأن كلّ سنتيمتر مربع فيه قد كلّف وقتا ومالا يكفيان لبناء عيادة في أحد أحياء حلب الفقيرة، إذا أخذنا بعين الإعتبار السرقات التي “شفطها” القائمون على بنائه وعلى مدى قرابة ثلاثين عاما.
في البداية، وكنت يومها طالبة في كليّة الطب، أكّدت الإشاعات إن التبرعات التي انهالت من السعوديّة لبناء الجوامع ستتكفّل بالنفقات اللازمة لبناء هذا الجامع.
ومن تلك الجوامع انطلقت حملات “التثقيف والتنوير” على الطريقة الوهابيّة!
بدأ الضخ السعودي يحقن الأموال داخل جيوب الأغنياء والسموم داخل عقول الفقراء.
أتخموا بعض الجيوب وسمّموا معظم العقول!
الفقر يبيض جرائما ويفقّس مجرمين، وتكبر الطامة عندما يغسل الدين عقول الفقراء ويقنعهم بأنّ فقرهم هو الضمان الوحيد لدخولهم الجنّة، “ودخلت على أهل الجنّة فوجدت أكثرهم فقراء” ـ حديث نبوي ـ
عقول مسمّمة وأقدام حافية، ولذلك يأتون إلى الجامع ولايتورّعون عن سرقة الأحذية!
عندما يتزاوج الفقر والدين ينجبان تربة خصبة للإرهاب، الأول يسلب الأخلاق والثاني يسلب العقل والإرادة.
وعندما يكون الموجّه الأساسي طغمة مهووسة بالمال والجاه يكتمل الثالوث “المقدس” اللازم لتمرير المخطط!
أغنياء الإسلام مدججين بالأموال السعوديّة استطاعوا أن يقودوا فقراءه من خلال عقيدة إرهابيّة لتنفيذ كلّ مخططاتهم.
أضرب مثلا المنظمات الفلسطينيّة الدينيّة: زعماؤها أغرقوا البنوك الأوربيّة والأمريكيّة بأموالهم واعتمدوا لإنجاز مهمّتهم على شريحة عريضة من أفقر فقراء الأرض وعلى آيات وأحاديث تبارك تلك المهمّة!
إذا الإرهاب يقوم على دعائم ثلاث:
أقليّة فاحشة في غناها، أغلبية غارقة في فقرها، وتعاليم دينيّة موغلة في إرهابها!
استمرار تلك العلاقة الثلاثيّة المنحى يضمن استمرار تلك التركيبة، والحل الوحيد يكمن في قطع تلك الحلقات.
جرّدوا هؤلاء البدوان من أموالهم الهائلة وغير المشروعة، اغسلوا فقر الطبقة العريضة وأمنّوا للناس مستوى مقبولا من حياة كريمة!
احموا الأجيال الجديدة والفتيّة من تعاليم ارهابيّة وأقيموا نظاماً تعليمياً تربوياً يغرس المبادئ الإنسانيّة والأخلاقية والعلميّة في عقولها ونفوسها تقضوا على الإرهاب قضاء مبرما!
كتب مرّة صحفي أمريكي يقول:
عندما رأيت بأمّ عيني مجموعة من الأطفال الفلسطينيّين ينتظرون شاحنات القمامة الإسرائيليّة لتفريغ حمولتها في منطقة نائيّة ثم يركضون باتجاهها للبحث بين محتوياتها عن قوت يومهم، عندما رأيت هذا المشهد أدركت كيف تستطيع أن ُتقنع طفلا فلسطينيّا بأن يفجّر نفسه بعد أن كان هذا الأمر أكبر من قدرتي على ادراكه!
لقد أدركت ما أدركه هذا الصحفي، ولكن ادراكي لم يكتمل إلاّ عندما وافتنا محطات الأخبار بنبأ تجميد بريطانيا لأموال السيّد الريستيني زعيم حماس وذلك قبيل مقتله بمدّة قصيرة.
تحتاج إلى طفل ينبش طعامه من أكوام القمامة كي تصنع ارهابيا، هذا صحيح!
ولكننا نحتاج أيضا إلى زعيم متخوم بالعملة كي يصنع ذلك الإرهابي!
ونحتاج إيضا إلى فكر ارهابيّ كأداة يستخدمها هذا الصانع كي يتمكّن من انجاز عمله.
**********
في حلب وبعد زيارتي لجامع الرحمن تساءلت: كيف نتغاضى عن هدر ملايين الدولارات كي ننشئَ جامعا، لا يطعم جائعا ولا يغني عقلا ولا يعالج مريضا ولا ينصف مظلوما؛ بينما على بعد ثلاثة أميال حيث يقوم مشفى حلب الجامعي، نواجه كارثة انسانيّة وصحيّة قد يكفي للتخفيف منها ثمن سجادة واحدة في هذا الجامع، ناهيك عن كلفة حيطانه وسقفه وأرضيّته وعن الأموال التي صُبّت في جيوب القائمين عليه؟!!
هل يطلب الله سجادا وحيطانا مزركشة بالفسيفساء وسقوفا تتدلى منهما أغلى أنواع الثريّات كي يقبل صلواتنا! كم هو أنانيّ هذا الله؟!!
نحتاج إلى محاكمته قبل أن نحاكم القائمين على هذا البناء!
للحديث صلة.