الوضع في دمشق يختلف عنه في أيّة مدينة سوريّة!
يحاول المسؤولون تلميع الوضع العام بالحفاظ قدر الإمكان على تلك المدينة. وهم إذ يفعلون ذلك كمن يحاول أن يرتدي قفّازتين جميلتين لتغطية يديه المصابتين بالجرب!
ورغم أن الفساد المالي على أشدّه في دمشق، تبقى المرافق العامة في تلك المدينة أفضل من غيرها في المدن الأخرى. السبب لايخفى على أحد! فالميزانيّة المخصصة للعاصمة تبلغ أضعاف مايخصص للمدن الأخرى مجتمعة. ولذلك مهما بلغت السرقات يبقى مايصرف على المرافق العامة في دمشق مميزا بالقياس على مايصرف في المدن الأخرى!
أحد المسؤولين الذين قابلتهم في وزارة التعليم العالي نصحني أن أزور مشفى الأسد الجامعي ورجاني أن لا أزور مشفى المجتهد أو المواساة مراعاة لوجود ضيفة وباحثة أمريكيّة معي، فنزلت عند رغبته.
أوليسيس غرانت كان قائدا عاما لقوات الشمال أثناء الحرب الأهليّة الأمريكيّة وأصبح بعدها رئيسا لأمريكا، قال عندما انتهت الحرب لصالح الشمال: لقد ربحنا الحرب!
ردّ عليه أحد معارضيه يومها بقوله: إذا كان هذا هو الربح فويلنا من الخسارة!
تذكّرت عبارته وأنا أدخل البهو الأرضي في مشفى الأسد الجامعي في مدينة دمشق: إذا كان هذا مانصحني به المسؤول في وزارة التعليم العالي، فياويلي من الوضع في المشافي التي نصحني بعدم زيارتها!
في هذا المشفى لم نقابل أيّا من الأطباء ذوي المراكز الحساسة. هؤلاء الأطباء، ومعظمهم من خرّيجي دول المنظومة الإشتراكيّة يتهافتون عادة على المناصب الإداريّة لتغطية عجزهم العلمي، يتظاهرون بأنّ وقتهم أثمن من أن يضيّعوه في استقبال باحثتين من أمريكا.
استقبلنا في البداية المدير الإدراي للمشفى السيّد المهندس أيمن حوراني، وهو شاب في منتهى الأدب، بذل قصارى جهده لإنجاح مهمتنا. طلب من الممرضة فاطمة قاسم القيام بمرافقتنا إلى جميع الأقسام التي نقترحها. بمساعدة تلك الممرضة الشهمة وبالإعتماد على اطباء الدراسات العليا الذين أبدوا لنا تجاوبا لابأس به، تكللت مهمتنا هناك بنجاح لم نفز به في المشافي الأخرى.
الإلتقاء بهذا النمط الخلوق من البشر يبثّ فيّ الأمل بأن الوطن مازال بخير!
**********
مهمّتنا العلميّة اقتصرت على جانبين. جانب يتعلقّ بالمرضى وآخر بالأطباء.
الجانب الذي يتعلق بالمرضى ينطوي على كتيب صغير يحتوي على خمسين سؤالاً، وكلّ سؤال يحتوي على خمسة أجوبة. يطلب من المريض اختيار الجواب الذي يوافق رأيه قدر الإمكان.
الأسئلة تدور حول طبيعة علاقة المريض بالطبيب وتدرس بالتفصيل مدى التفاعل بينهما من وجهة نظر المريض.
أمّا الجانب الذي يتعلّق بالطبيب فينطوي على القيام بتسجيل مشاهدة تتمّ بينه وبين المريض. على أن أقوم عند عودتي إلى أمريكا بترجمة تلك المشاهدة إلى الإنكليزيّة ثم دراسة الطريقة التي يتفاعل فيها الطبيب مع المريض, وبالتالي كيف يتعامل معه.
في تعاملنا مع الطبيب واجهتنا معضلة لم نواجهها مع المريض!
تسجيل؟!!
هذا هو السؤال الذي كان يقابلنا به معظم الأطباء بدهشة، ليتبعه الطبيب السائل بسؤال آخر: هل أنتم إف بي آي أو سي آي أي؟!!
ولم نكن قادرين على إقناعه بسلامة الأمر وبأنّه لاصحّة لمخاوفه إلاّ بعد “أن تطلع روحنا”!
كانوا يتظاهرون بالمزح عند طرح هذا السؤال، لكن خلف مزحهم كانت تنطوي حالة نفسيّة مرضيّة تدعى “بارانويا”.
وأعتقد أنّ العالم العربي والإسلامي بأكمله مصاب بها وبتّ أطلق عليها شخصيّا Islamic Paranoia .
هل تحتاج السي آي أي للإستماع إلى محادثة بين طبيب ومريض مصاب بحالة اسهال حاد في أحد مشافي دمشق، كي تتّطلع على الأسرار العسكريّة لسوريّا؟!!
**********
البارانويا حالة نفسيّة مرضيّة يملك المصاب بها جهازاً عقائدياً معقّداً وتفصيلياً يتمركز حول أوهام لا أرضيّة واقعية لها.
هذه الأوهام تقنعه بأنه مضّطهد من قبل الآخرين وبأنّ السبب الرئيسي لإضطهاده من قبلهم هو كونه شخص عظيم ومهمّ للغاية!
الجهاز العقائدي المفعم بالأوهام الذي يبتلي به المصاب بالبارانويا يتشكّل ويتطور ببطء شديد وعلى مرّ زمن طويل. ويصبح مع الأيام منظّماً للغاية إلى درجة يبدو معها منطقيا ومقنعا!
والخطورة التي ينطوي عليها هذا الإضطراب النفسي تكمن في أن المصاب به يبدو طبيعيّا أثناء الحديث وفي تصرفاته وسلوكه إلى درجة لاتثير لدى اللآخرين إيّة رغبة لمواجهة المريض وإحالته إلى الجهات المعنيّة بعلاجه.
تتشكّل لدى المريض قناعة مطلقة بأنّه عظيم وبأنّ الآخرين يسعون لإيذائه والحطّ من عظمته. ويدافع عن قناعته هذه حتى عندما تواجهه بكلّ البراهين التي تثبت عدم صحّة تلك القناعة.
عدم الثقة بالآخرين يدفع المريض لتركيز كلّ حواسه على تصرفات الناس من حوله وتفسير كل حركة لهم بطريقة تخدم قناعاته. يبني من الحبة الصغيرة جبلا كبيرا كأن يدّعي عندما يرى شخصا يلوح يده عن بعد بأنّ هذا الشخص يشير اليه ويتكلم للآخرين عنه، وقد يذهب أبعد من ذلك فيدّعي أنه يخطط لقتله.
هذه الأوهام التي يعيشها المصاب بالبارانويا تجعل منه شخصا شكّاكا عنيدا غاضبا عدوانيّا وناقما على الآخرين.
تؤكّد معظم الدراسات في الطبّ النفسي وعلم النفس على أن العوامل التي تلعب دورا في الإمراضيّة هي عوامل نفسيّة واجتماعية تتعلق بنشأة المريض والطريقة التي تربّى عليها، أكثر مما هي أسباب بيولوجيّة تتعلق بجسده من الناحيّة التشريحيّة والكيمائيّة والوظيفيّة.
الطب النفسي يتناول هذا الإضطراب كحالة فرديّة ولم يسبق أن تناولها كحالة عامة قد تصيب جماعة بشريّة بكاملها. رغم أنّه من المؤكّد في هذا الحقل من حقول الطبّ بأن هناك بعض الإضطرابات النفسيّة التي تكثر في جماعة أو فئة أو مجتمع نظرا لوفرة العوامل المسببة للإضطراب في تلك الجماعة أو الفئة أو المجتمع.
هذا من ناحية، ومن ناحيّة أخرى هناك حالة مثبتة علميّا وهو مايطلق عليها الأوهام المشتركة أي
Shared Psychosis.
بمعنى أنّه عندما يعيش شخص ما سليم مع شخص آخر مصاب بأوهام نفسيّة لفترة زمنيّة ما، وبمعزل عن المصادر الأخرى التي تقوم بتزويد معلومات تنفي هذه الأوهام، يقوم الشخص السليم بتبنّي أوهام الشخص المريض ويصبح مريضا مثله. يلجأ الطبيب أو المرشد النفسي المشرف على علاج هذه الحالة إلى عزل الشخص السليم أصلا عن الشخص المريض. بعد فترة قصيرة من العزل يرجع الشخص السليم إلى وضعه السليم ويتخلى عن الأوهام النفسيّة التي تبناها خلال تواجده مع الشخص المريض.
بناء على تلك الحقيقتين الآنفتين الذكر واللتين هما:
أولا: عندما تكثر العوامل المسببة للإضطرابات النفسيّة في جماعة ما نجد ازديادا في حدوث هذا النوع من الإضطرابات لدى تلك الجماعة.
ثانيا: عندما تغيب المصادر المعلوماتيّة الصحيحة والموثوقة عن جماعة ما، تنتشر الأفكار الوهميّة بالعدوى، من الموهوم إلى السليم، بين أبناء تلك الجماعة.
استنادا إلى تلك الحقيقتين العلميّتين، وبعد دراسة قمت به شخصيا تناولت الطريقة التي يتعايش بها المسلمون عموما والعرب خصوصا مع العالم المحيط بهم والطريقة التي يتراءى لهم بها هذا العالم، وصلت إلى قناعة، سأسعى مستقبليا لوثقها علميّا، قناعة أكّدت لي أن المسلمين مصابون بحالة من البارانويا أطلق عليها: البارانويا الإسلاميّة أو الجماعيّة
National Paranoia .
************
عبر تاريخ طويل كانت، ولم تزل، المصادر الإسلاميّة هي المصادر الفكريّة والتربويّة الوحيدة التي اعتمد عليها الناس في البلاد الإسلاميّة والعربيّة لتنشئة الإنسان المسلم.
رفضت تلك المصادر السماح لأيّ مصدر آخر بأن يحلّ محلّها أو حتّى بأن ينافسها! فظلّ الإنسان المسلم رهينة تلك المصادر، عاجزا عن تبني الحقائق العلميّة التي تنفي صحّة الكثير من الأوهام التي ساهمت تلك المصادر في تكريسها. وانتقل الوهم في تلك المجتمعات حتى صار وباءا شمل المريض والسليم، المتعلّم والجاهل على حدّ سواء!
التربيّة المستقاة من المصادر الإسلاميّة أقنعت الفرد المسلم بأنّه يتميّز عن الآخرين بعظمته.
لم يكن الإحساس بالعظمة الذي ابتُلي به المسلم إلاّ وهما، لا أساس له، وهما عزله عن العالم المحيط به ومنعه من أن يرى أخطائه ويعترف بها وبالتالي يسعى لتصحيحها.
الإحساس بالعظمة، الذي استقاه المسلم من عقيدته وانتقل بالعدوى من جيل إلى جيل، بنى له برجا عاجيا وهميّا عزله فكريّا وزمانيّا عن العالم كلّه.
والقرآن، كأهمّ تلك المصادر، مليء وتكاد لاتخلو صفحة فيه من العمل على تكريس ذلك الوهم.
لقد أشرنا مسبقا على أنّ المصاب بالبارانويا يصرّ على أوهامه رغم كلّ البراهين الواقعيّة والعلميّة التي تؤكّد عدم صحّتها.
“كنتم خير أمّة أخرجت للناس تأمرون بالمعروف وتنهون عن المنكر وتؤمنون بالله..”
توهّم المسلم بأنّه خير عباد الله أعماه عن رؤية الواقع على حقيقته، وأقعده عن العمل على تغيير هذا الواقع الذي يتعارض مع انسانيّته وكرامته.
لقد سلّم بوهمه، واعتبره حقيقة إلهيّة ليس مطلوبا منه أن يثبت صحّتها.
عندما يميّز الإنسان نفسه عن الآخرين بالتفضيل، دون وجود براهين تثبت صحّة هذا التفضيل، يصل مع الزمن إلى نقطة يصبح عندها عاجزا عن رؤية أخطائه وعن الإعتراف بفضائل الآخرين .
عندما يعجز الإنسان عن رؤية أخطائه وعن الإعتراف بفضائل الأخرين تنقلب عنده المفاهيم فيصبح منكره معروفا ومعروف الآخرين منكرا.
ألم يقل له الله أنّه جاء إلى تلك الدنيا ليأمر بالمعروف؟!
إذا كلّ مايفعله معروفا!
لاحاجة لإثبات صحّة ذلك، وهل الحقائق الإلهيّة تحتاج إلى اثبات؟
كلّ الوقائع والدراسات، وحتى النظرات البسيطة التي لاتستند إلى تمحيص وتدقيق، تشير إلى أنّ الأمّة الإسلاميّة والعربيّة قد هبطت إلى الدرك الأسفل بين الأمم. والهبوط إلى مستوى ذلك الدرك لايتمّ في أيّ مجموعة بشرية إلاّ عندما يصبح المنكر معروفا والمعروف منكرا في أعراف تلك المجموعة. حتّى عندما يفعل المسلم منكرا لايستطيع أن يراه إلاّ معروفا، ولايستطيع أن يرى معروف الآخرين سوى منكرا.
أليس هو خيرهم؟!
هو مصرّ بأنّه خير عباد الله سواء كان واقعه منسجما مع هذا الإصرار أم متناقضا!
هذا الوهم الذي يتشبث به لايشجّعه على إعادة النظر في واقعه، وبالتالي لايرى ضرورة لتغييره.
هذا من جهة، ومن جهة أخرى عندما يميّز الإنسان نفسه عن غيره بالتفضيل يخلق نوعا من الهوّة بينه وبين هذا الغير. تلك الهوّة تمنعه من التواصل الإنساني مع الآخر وتزرع لديه الشكوك بمصداقيّّّة كلّ مايتعلق بهذا الآخر.
لايستطيع الإنسان أن يقيم علاقة سليمة مبنيّة على الإحترام المتبادل مع انسان آخر طالما يتوهّم بأنه أفضل منه وطالما يشكّ بمصداقيّة هذا الآخر!
إذاً جنون العظمة (أحد وأهم أعراض البارانويا) الذي ابتلي به المسلم ساهم عبر الزمن في تجميد واقعه. وفقدانه الثقة بالأخرين (عرض آخر من أعراض البارانويا) ساهم عبر الزمن في عجزه عن إقامة علاقة طبيعيّة مع هؤلاء الآخرين. فصار، وكنتيجة حتميّة لتلك الأوهام، رهينة واقع سيء عزله عن العالم المحيط به.
العرض الثالث والمهم الذي يتميّز به المصاب بالبارانويا هو أنه يصبح مع الزمن، وكنتيجة حتميّة لإصابته بالعرضين السابقين، يصبح جدليّا
(argumentative
يتبنى اسلوبا في النقاش لاتستطيع معه أن تتوصل إلى نتيجة!
خض في أيّ قضيّة مع مسلم واصغ جيدا إلى طريقته في الحوار. يجرّك، وبسهولة، مع الوقت إلى جدل عقيم لاطائل منه، فتجد نفسك وإياه في النهاية تتهاوشان على البيضة والفرخة ومن فيهما أنجب الآخر!
**********
كنت أتبادل أطراف الحديث مع أحد أقاربي في الوطن الأم عندما تطرّقنا إلى ذكر الحادثة التي تحطّمت خلالها طائرة مصريّة في الأجواء الأمريكيّة والتي ذهب ضحيّتها جميع ركّاب الطائرة.
انبرى قريبي وراح يقصّ عليّ بسرعة البرق حكاية تلك الطائرة وبطريقة تفصيليّة مثيرة للدهشة:
“لقد احتوت تلك الطائرة ثلاثين ضابطا مصريّا تلقوا تدريباتهم العسكريّة في أمريكا ونالوا خلال اقامتهم علوما عالية المستوى.
كان من المفروض أن يعودوا إلى مصر قبل اسبوعين على متن ثلاث طائرات. ولكن صدر أمر لايعرف أحد أسبابه اقتضى تأجيل سفرهم على أن يسافروا لاحقا على متن طائرة واحدة وكانت نهايتهم في تلك الرحلة المشؤومة”.
ويتابع قريبي بيقين لايترك لديه مجالا للشكّ:
لقد كان للموساد الصهيوني، وبالتخطيط مع الأمريكان، ضلعا كبيرا في تلك المؤامرة! لقد خسرت مصر خيرة أبنائها المدرّبين وذوي الكفاءات العسكريّة العالية.
أراقب الجديّة والإنفعال اللذين يتحدث بهما قريبي ثم أسأله: ولكن لماذا تستقبل أمريكا منذ البداية ضباطا مصريّين ولماذا تقبل بتدريبهم طالما تخاف على مصير اسرائيل منهم؟!!
ويردّ قريبي: هل تعرفين كم تتقاضى أمريكا من أموال من جرّاء تدريبهم؟!!
وأردّ باستغباء:
ولكن على علمي أنّ مصر هي ثاني دولة بعد اسرائيل من حيث حجم المساعدات الأمريكيّة التي تتلقاها، والإقتصاد المصري عمليّا يعيش على تلك المساعدة!
ويتهجّم وجهه: يسرقون الجمل ثم يتبرّعون باذنه!
ـ ولماذا لاتحرسون جمالكم؟!!
ـ إنّهم الحكّام العرب المتواطئون!
ـ هؤلاء الأشبال من هذا الأسد وهؤلاء الحكام من تلك الأمّة!
ـ إنّه الإستعمار الغربي الذي خرّب تلك الأمّة!
وأجد نفسي أتجادل مع أحمق حول البيضة والفرخة ومن منهما أنجب الآخر.
أحجمت عن مزيد من الحوار عملا بالمثل القائل: لاتجادل أحمقا. فالناس الذين يصغون اليكما لايميّزون من الأحمق بينكما!
حوار الأحمق غباء، ولكن أقصى حدود الغباء أن تترك أحمقا يسرح ويمرح دون أن تفضح جهله!
فالأوهام التي يكرّسها جهله، وخصوصا في مجتمع معزول عن كلّ مصادر المعلومات العلميّة، تنتقل بالعدوى ويصبح المجنون الحقيقي، حسب تعريف ذلك المجتمع، هو الذي يرفضها.
***********
محمد صديق خان، أحد الإرهابين الأربعة الذين قاموا بتفجيرات لندن، كان معلما في إحدى المدارس البريطانيّة وكان زوجا وأبا وشخصا يبدو للعيان طبيعيّا ولا يختلف عن أي رجل بريطاني آخر. لاأشكّ لحظة بأنّه كان يعي مقدار المعروف الذي قدّمه المجتمع البريطاني بقوانينه الإنسانية لوالديه عندما لجآ إليه هرباً من الظلم والفقر والقهر في وطنهما الأم باكستان. لكنّ التربية التي نشأ عليها صوّرت له هذا المعروف منكرا، وأوهمته بأن التصدّي لذلك المنكر معروفا!
التعاليم التي استندت عليها تلك التربية كانت أكثر تواجدا، وبالتالي تأثيرا عليه، داخل حدود اسرته من تعاليم المجتمع الذي يحيط بتلك الإسرة. استطاعت تلك التعاليم أن تقيم جدار حديديّا أقوى بكثير من جدار برلين بين عالم محمّد الداخلي من جهة وبين العالم الخارجي من جهة أخرى.
لقد كان محمّد يتحرّك ضمن محيطه كزجاجة مليئة بالسمّ، محكّمة الإغلاق تتقاذفها الأمواج في لج ذلك المحيط غير قادرة على اختراقها وغسل سمومها.
اقتنع محمّد من نعومة أظفاره بأنّه أفضل من كلّ الناس الذي يشكّلون لحمة المجتمع الذي ولد فيه، ولقد خصّه الله بهذا التفضيل!
ولم تتوقف قناعاته عند ذلك الحدّ بل تجاوزته إلى الحد الذي آمن عنده بأنّ غيره يشكّل خطرا عليه وعلى عظمته، وإنّه بالقضاء على هذا الغير يتجنّب آذاه ويستعيد عظمته!
حالة البارانويا، التي سقط ضحيّتها محمّد والكثيرون من الشباب المسلم، تتبلور عادة من خلال العرضين الأساسيين اللذين يميّزان سيرها المرضي: ايمان المريض بعظمته والذي يبلغ حدّ الجنون، تليه قناعته باضطهاد الآخرين له الذي يبلغ أيضا حدّ الجنون. هذه الحالة المرضيّة كانت العامل الرئيسي وراء استفحال الإرهاب الإسلامي في العالم اليوم.
المسلمون عظيمون ومميّزون عن العالم كلّه، ولكن هذا العالم الذي هو أحطّ منهم بكثير يبدو الأقدر على الإساءة إليهم وعلى ظلمهم.
تلك هي الفلسفة التي تبنّوها كذريعة تبرر لهم ارهابهم اليوم!
***********
عندما كنت أواجه بسؤال الأطباء، كأرقى طبقة في المجتمع: هل أنتم سي آي أي؟ كنت أصاب بخيبة أمل فظيعة.
لا لشكّهم وريبتهم بل للأثر الذي يتركه خوف الإنسان الذي ينجم عن شكوكه وريبته على حياته ومواقفه!
عندما يعيش الإنسان حالة شكّ يرفض أن يرى إلاّ مايخدم شكوكه!
وعندما يسعى الإنسان لتفسير كلّ مايراه وفقا لأوهام ثابتة يفوّت على نفسه رؤية مايخدم مصلحته وتطوره.
تلك حقيقة انعكست تماما على واقع البحث الذي حاولت وزميلتي لاسلي القيام به. رغم تلبية الجهاز الإداري في المستشفيات التي زرناها لأغلب مطالبنا جاءت تلك التلبية آلية بطيئة، يشوبها الشكّ وخالية من أيّة مشاعر انسانيّة.
وافق الأطباء، وبناء على طلبنا، بالسماح لنا بتسجيل بعض مشاهدتهم لمرضاهم. لكن، وبصورة عامة، كان تجوابهم منوطا بالحذر والريبة ولم يسمح لنا ولهم بالتفاعل العفوي الذي كان سيساهم، لو تمّ على أفضل وجه، باغناء البحث وربمّا بتشجيعنا على بحوث لاحقة يشارك فيها أطباء سوريون، كما حدث أثناء القيام بنفس البحث في المكسيك.
************
أشرت سابقا على أنّ البحث كان قد شمل جانبين أحدهما يتعلّق بالطبيب والثاني بالمريض.
وبصراحة أقول: كان التعامل مع المرضى أسهل بكثير من التعامل مع الأطباء.
لم يفاجئني الأمر، فالتعامل مع انسان يعرف أنّه لايعرف أسهل من التعامل مع انسان يتوهّم بأنّه يعرف.
بحثنا اقتصر على المشافي الحكوميّة، ونظرا لتعاسة تلك المشافي، تجد أغلب مرضاها من طبقة فقيرة أميّة بصورة عامة.
مشكلة الأميّة بين المرضى عاقت إلى حدّ كبير مصداقيّة البحث فكنّا أحيانا نضطر إلى الطلب من أحد يعرف القراءة والكتابة كي يقوم بقراءة الأسئلة على المريض وكتابة أجوبته. ومع هذا، كان التعامل معهم أسهل، وأعطى تجاوبا أفضل.
عندما كنّا نقدم نفسنا للمرضى كان المريض ينظر إلينا كأطباء قادمين من أمريكا ويحلم أن نلعب دورا في علاجه وتحسين طريقة معاملة الجهاز الإداري والطبيّ في المشفى له. ولم يكن يدفع كثيرا من انتباهه إلى كوننا قادمين من أمريكا، البلد الذي”يخطط لتدمير العرب والإسلام”. ولذلك كان صادقا وعفويّا أكثر بكثير من الأطباء ولم يكن تجاوبه مبنيّا على شكوكه ومخاوفه.
الحاجة الينا، وحسب ظنه، ساهمت في تبديد مخاوفه وشكوكه وتجاوزها.
بينما أدّى شكّ الأطباء في مصداقيّة بحثنا وريبتهم في الخلفيّة السياسة لذلك البحث إلى تحجيم تجاوبهم. ولذلك عندما تسعى لتنظيف مجتمع من أوهامه ووساويسه لن يعيقك حجم الأميّة في ذلك المجتمع بنفس الدرجة التي سيعيقك بها ذوو الشهادات العلميّة الذين يكرّسون، من حيث يدرون أو لايدرون، تلك الأوهام والوساويس!
الشهادات العلميّة التي نالها هؤلاء الأطباء، وغيرهم في حقول أخرى، لم تمحُ جهلهم ولكنها حجبته. فوقف هذا الجهل المحجوب حائلا بين العلم وبين الأغلبيّة الساحقة البسيطة وغير المتعلّمة والتي تثق بطبقة المتعلمين الجهلة وتعتبرها مصدر معلوماتها.
لقد بدا لي الأمر أسهل بكثير أن أقنع مريضا أميّا بضرورة التجاوب معنا لإجراء بحث علمي على أن أقنع طبيبا “يتبجّح بمعرفته بالسي آي اي ودورها التخريبي” للقيام بنفس الدور.
ولذلك كان لغطرسة وجهل الطبيب، وليس لأميّة المريض، الدور الأكبر في إعاقة البحث.
************
خلال النصف الثاني من القرن العشرين، هبّت عاصفة سياسية جديدة على الساحة العربيّة أعطت لمركب العرب الغارق دفشة أخرى سارعت به نحو القاع.
استطاعت الماركسيّة، ورغم عدائها السافر لفكرة الأديان، أن تجد لها قدما في أشد المجتمعات تديّنا وتعصبا. استطاعت أن تدخل من نقاط ضعف تلك المجتمعات!
الإسلام أوهم الإنسان المسلم أنّه عظيم وزرع لديه الشكّ والريبة بالآخرين الذين لايؤمنون بدينه.
وبالقرع على نفس الطبل استطاعت الماركسيّة أن تجد لها موقعا حتى في أشدّ المجتمعات الإسلاميّة انغلاقا.
تناغم العزف الماركسي على وتر كره أمريكا والإمبرياليّة مع العزف الإسلامي على وتر كره الغير!
صفق الماركسيّون لجنون العظمة عند المسلمين، وأوهموهم أن أمريكا تخاف من تلك العظمة وتسعى للقضاء عليها. وأطلقوا جملة من الشعارات التي ساهم تكرارها المقيت والطويل الأمد في تخدير العقل العربي والإسلامي إلى جانب أناشيده الدينيّة التي تناغمت معها وأدّت نفس الغرض.
كانت تلك الشعارات الماركسيّة المولد والإٍسلاميّة المنشأ تتناغم إلى درجة تضيع عندها الحدود.
كان يطلّ علينا في محطة الإذاعة شيخ أصولي ليتحفنا بخطبة جمعة يتناول فيها الحديث عن الإمبرياليّة الأمريكيّة وربيبتها الصهيونيّة ليأتي بعده خطيب ماركسي يرتدي برقعا بعثيا ـ والبعثيّون أولاد عم الماركسيّين وممثلوهم الشرعيّون ـ ويتحفنا بخطبة أخرى عن عظمتنا كخير أمّة أخرجت للناس!
هذا التناغم المصطنع بين عقيدتين متناحرتين في أصلهما أدى إلى حالة من التشويش العقلي والفوضى الفكريّة.
روى لي صديق تونسي مرّة في سياق حديثه عن تلك الفوضى التي عمّت يوما المجتمع التونسي، فقال: كنا طلابا في أول صف للمرحلة الإعداديّة، عندما دخل علينا المدرس في حصّة التربيّة الوطنية وكان معروفا بميوله الشيوعيّة وأمطرنا بوابل من شعارات لينين وكارل ماركس ثم غادر الصف ليبدأ بعدها درس التربيّة الدينيّة.
مشط الشيخ لحيته غير المشذّبة بأصابع يديه، صلّى على الرسول وسلم ثم راح يمطرنا بخطبة عن عظمة الإسلام والمسلمين ويؤكد كلامه بين الحين والأخر بأحاديث الرسول وصحابته.
اختلط الأمر على أحد الطلاب المساكين، فرفع يده كي يطرح سؤالا: ياحضرة الأستاذ! الشافعي يقول كذا وكذا ولكنّ كارل ماركس عليه الصلاة والسلام يقول..
ولم يكد يلفظ كلمته الأخيرة حتّى انقض عليه الشيخ المهوس ومسكه كالفريسة من شعر رأسه ليلقيه خارج الصف!
**************
خرج علينا الإسلاميون بنظرية” التكفير”. أي كلمة يعبّر بها إنسان عن رأيه ويخرج بها عن حدود مفاهيمهم الضيّقة، كانوا يتّهمونه بالكفر!
وخرج علينا الماركسيّون بنظرية “المؤامرة”. أية كلمة يعّبر بها إنسان عن رأيه ويخرج بها عن حدود مصالحهم، كانوا يتهمونه بالتآمر مع الإمبرياليّة الأمريكية وربيبتها الصهيونيّة!
صار الإتهام بالكفر والتآمر نصلان لسيف واحد!
لعب الخوف والتخويف من هذا السيف دورا كبيرا في قمع الإنسان وتجريده من حرياته.
تصلني ردود كثيرة بالبريد الإلكتروني، يخلط مرسلوها في اتهاماتهم لي بين التكفير والمؤامرة. وخلاصة نظريتهم: “أنني متعاونة مع اليهود والإمبرياليين الأمريكيين ضد الإسلام”!.
القراءة المتأنية لتلك الردود تساعدني على التمييز بين الماركسي وبين المتطرف الديني رغم صعوبة الأمر في حقيقته.
الماركسي يبدأ ردّه بسخطه على أمريكا والعدو الصهيوني ويرش قليلا من البهار الإسلامي على طبخته.
بينما المتطرف الديني يبدأ ردّه بالصلاة والسلام على سيّد العرب والعجم، ثمّ يرش قليلا من البهار الماركسي على طبخته على شكل شتائم ينهال بها عليّ وعلى المتعاونين معي من الإمبرياليين والصهاينة.
***************
يحكى أن رئيس الوزراء البريطاني ويلسون تشرشل، المعروف بشخصيته الساخرة واللاذعة، كان يوما يمرّ من جانب مقبرة فرأى قبرا كتب عليه: هنا دفن الدبلوماسي الشريف الخلوق فلان الفلاني!
فالتفت تشرشيل إلى مرافقه وقال: أول مرّة في حياتي أسمع عن رجلين دفنا في قبر واحد!
ماركسي ومتطرف إسلامي ديني يقاتلان في خندق واحد؟!!
تلك هي المهزلة!
مهزلة تظهر اليوم واضحة بتسابق الحركات الماركسية على دعم الإرهابيين الإسلاميين في العراق وتسميتهم بـ “المقاومة الوطنية”.
اتّبع الماركسيّون في تعاملهم مع الأصوليين الإسلامين سياسة: عدو عدوي صديقي! فوجدوا أنفسهم بعد سقوط الإتحاد السوفياتي وحدوث مجزرة الحادي عشر من أيلول وجها لوجه مع هؤلاء الأصوليين في نفس الخندق، مدّ كارل ماركس يده لأسامة بن لادن مصافحا تحت تأثير الصدمة!
هذا النشاز امتد بتأثيره ليشمل كلّ جوانب الحياة.
**********
لم يعد حتّى الطبيب قادرا على التمييز بين رامسفيلد كوزير دفاع أمريكي وبين لاسيلي كعالمة مختصة في علم النفس وتنوي القيام ببحث علمي لايعترف بالحدود السياسيّة ولا الدينيّة!
للأسف لقد ضيّقت أساليب التربية في بلادنا على إنسان تلك البلاد ساحة بصره، فلم يعد يرى الكون إلاّ بمنظار أضيق من فتحة انفه!