كل شيء أو كل فكر جديد تجد أن له مناصرون وله ومعارضون, له مؤيدون وله محاربون, وغالبا ما تكون هنالك فوائد اقتصادية من العارضة, مثل القصة الحالية عن جامع محمد علي بالقلعة, الذي بناه قبل 200 سنة على حسب ما يقول التاريخ, حين بنا المسجد, زوده بالصنابير لكي يتوضأ منها المسلمون للصلاة في المسجد, طبعا كانت الناس تتوضأ من خلال الطاسات والأباريق, وكانت هذه تجارة يستفيد منها بعض إتباع المذهب الحنبلي والمالكي والشافعي, وقلة قليلة من الحنفيين كانوا مستفيدين من هذه التجارة بماء الوضوء.
لذلك وقف الحنابلة معارضين واعتبروا هم والمالكية والشافعية الوضوء من الصنبور عبارة عن بدعة وكل بدعة ضلالة وكل ضلالة بالنار,وطالما أن الوضوء بالصنبور بدعة طالما أن الصلاة بدعة وباطلة.
والأمر لا يتعلق أيضا بمسجد محمد علي بالقلعة أو مسجد القلعة, فالموضوع أخطر من ذلك, لقد خاف المستفيدون من أن تتطور العملية وتنتقل من المساجد إلى البيوت, وهنالك فئة كبيرة مستفيدة من بيع الطاسات للوضوء في المنازل وإذا تم تزويد المنازل بالصنابير فسوف تتضرر الفئات المستفيدة من بيع الماء والطاسات, لذلك وقف الحنابلة وقفة شرسة هم والمالكية والشافعية وعارضوا بيع الصنابير وأبطلوا وأفسدوا الوضوء منها في المساجد وفي المنازل ما عدا الحنفية الذين أيدوا الوضوء من الصنبور واعتبروه تسهيل على المواطنين والمؤمنين الذين يقفوا بين يدي الله للصلاة.
ومنذ تلك اللحظة صار كل شخص يتوضأ من الصنبور يقال له (حنفي) وللصنبور الواحد مفرده(حنفية) نسبة إلى المذهب الحنفي الذي أيد الوضوء من الصنبور.
واليوم في مصر هنالك من يسميها باسمها وهو الصنبور, وهنالك من يسميها باسمها المذهبي أي(الحنفية) وتجمعها الناس ب حنفيات-الحنفيات, ولكن في عموم أرجاء الأردن وسوريا ولبنان والخليج لا يوجد لها أسمان بل أسمٌ واحد وهو الحنفية, والسبب أن صراعات المذاهب الدينية كانت بعيدة كل البعد عن هذه المنطقة وكان الفكر المذهبي الحنفي هو الأوسع انتشارا من المذاهب الأخرى, لذلك غلبت عليها التسمية بالحنفية وجمعها حنفيات, وأنا كشاهد عيان لم أسمع أهلي يقولون عن الحنفية أسما آخر كالصنبور مثلا, ومنذ ولادتي وأنا أسمعهم يقولون الحنفية.
ويقال لا هذا ولا ذاك بل كان أسمها (البزبوز) أي:البوز-الفم- ويقال الكلمة قبطية وليس للأحناف علاقة بالموضوع فليس من المعقول أن يقف الشافعية والمالكية والحنابلة معارضين لسبب اقتصادي وأن لا يكون للأحناف أيضا تجارة بالطاسات والغضارات للاغتسال والوضوء, واللفظ القبطي لها هو (حونفا).
وآخرون بالغوا بأصل التسمية وأرجعوها إلي العصر العباسي الثاني علما أنه لم تكن أيام العباسيين شبكة سحب ماء صحي، وأما الباقون فنسبوها إلي »محمد علي« باشا. وفي الحقيقة والواقع يرجع الموضوع إلي سنة 1884م, حين عَمَمَّت سلطات الاحتلال الإنجليزي لمصر منشورها ( رقم 68 لسنة 1884) والقاضي بتغيير آلية الوضوء بالمساجد بالصنابير بدل الطاسات وأن تكون متصلة بشبكة مياه الشرب الصحية, فاغتاظ السقاؤون في شوارع القاهرة وكانوا كثروفي الحقيقة كانت مشكلة لهم ولعوائلهم حيث كانوا ينفقون على عوائلهم من مهنة السقاية وكان هنالك تجار للطاسات ومبيضون للنحاس التي كان يغتسل منها المواطن المصري في القاهرة فعمدوا إلى اللجوء للشيوخ بتحريم الوضوء من الطاسات ودفعوا لهم مقابل تحريم الوضوء من الصنابيرفأفتى الشيوخ بعدم جواز الوضوء من الصنابير إلا الأحناف أجازوها لِما رأوا أنها تخفف على الناس المشقة وخصوصا تزويد المراحيض بالصنابير….إلخ, وبالتالي نعود إلى المربع الأول وهو أن الأحناف كانوا أكثر مرونة من الشافعية والمالكية.
كل فكر جديد له معارضون وله حساد وله مبغضون, منهم من يراه تعارضا بينه وبين لقمة الخبز كالسقائين وتجار الطاسات ومبيضي النحاس, وتجار النحاس الذي تصنع منه الطاسات, وخصوصا أن مصر لم يكن فيها تلك الفترة مصانع لصناعة الصنابير بل كانت تستورده, لذلك بريطانيا والدول الصناعية هي المستفيد الأول من هذه التجارة, وحتى اليوم تجارة الصنابير الأصلية نجلبها من إيطاليا وإسبانيا, وهم المستفيدون جدا.