أنهيت مقالي السابق تحت نفس العنوان بالتساؤل: “هل إن الثورات العربية يمكن أن تضع مجتمعاتنا في مأمن من عودة أي نوع من الاستبداد، خاصة الاستبداد الديني، حتى لو وصل الإسلاميون عن طريق الانتخابات إلى السلطة؟”
ولا يخلو مقال الكاتب منصف المرزوقي من مواقف تتعرض لهذه الإشكالية وإن بتردد وتخبط مؤسفين. فهو نفسه يطرح سؤالا هاما تحت عنوان: ((كيف يمكن منع المستبدين باسم الدين من التمكن من الدولة ومصادرتها لمصالحهم الخاصة وتكليف المجتمع ما يكلفه كل نظام استبدادي من آلام عبثية؟)).
ويجيب: ((الردّ التجريبي الخصوصي (اللائكية الفرنسية): بفصل الدين عن الدولة. تُرجِم بمنع البابا والأحبار من التدخل في السياسة الفرنسية عبر أحزاب ومؤسسات دينية ومنع تمويل نشاطها من المال العمومي وخاصة الاستئثار بالتعليم العام لقطع دابر كل تأثير على عقول وقلوب الأجيال المتتالية)).
ثم يسأل ((ما الحلّ الخصوصي عربيا بما أنه لا بابا نمنعه من التدخل في شؤون الدولة ولا كنيسة إسلامية نستطيع عزلها ولا مجال لمنع تدريس التربية الإسلامية في مناهجنا وهي جزء من تراثنا الثقافي وهويتنا… علما وأننا نحن أيضا نواجه الإشكالية العامة. والاستبداد باسم الدين قوام تاريخنا والعمود الفقري لأكثر من دولة عربية إسلامية ناهيك عن خطر تجدده والموجة الإسلامية تكتسح مجتمعاتنا)).
المرزوقي هنا يعطي لنفسه حقا منعه عن العلمانيين وهو يتهم المستبدين باسم الإسلام كإمكانية حقيقية، وليس مجرد تهمة كما رأينا في المقال السابق. لكنه، ويا للمفارقة! يتبنى نفس خطاب الإسلاميين عندما يقدمون حججهم للناس على رفضهم للعلمانية التي لها مبررها في الغرب بسبب وجود البابا والكنيسة وليس في الشرق ما يقابل هذه المؤسسة الدينية القوية. لنقرأ ما كتبه القرضاوي بهذا الصدد:
((والعلمانية عندهم، لم تَمْحُ سلطة الدين ورجاله، وإنما فصلت بين السلطتين: الروحية والزمنية، وتركت لكل منهما مجالها ونفوذها وحرية تحركها، وقد بقيت هناك سلطة الكنيسة، تمارس نشاطها بما تملك من مال ورجال وسلطان… أما نحن، فليس لنا سلطة دينية مستقلة مقتدرة، فالعلمانية ـ عندنا ـ تعني تصفية الوجود الإسلامي، بحيث لا يبقى له قدرة ولا سلطان ولا حرية، ما لم يكن خادما للسلطة السياسية القائمة)).
القرضاوي يقول هذا وكأن الدين الإسلامي لم يكن دائما خادما للسلطة السياسية، وفي أحسن الأحوال كان شريكا رسميا يتقاسم معها السلطة، عندما تتخلى له عن جزء من نفوذها على العامة، ليقوم بوازع القرآن ما تعجز السلطة عن القيام به بوازع السلطان. والقرضاوي يقول هذا لكي لا يطالب بفصل الدين عن الدولة عن طريق دعوة الدولة إلى رفع يدها عن الدين والتدخل في توجيهه في كل صغيرة وكبيرة ابتداء من الإشراف على رؤية هلال رمضان إلى إلزام أئمة الجمعة بخطب تأتيهم من الهيئات الإدارية المشرفة أو على الأقل توجيههم إلى ما يجب أن يقولوه وما لا يجب.
ثم ما الفرق بين القرضاوي وبابا روما، ألا يرأس مؤسسات إسلامية لها من النفوذ ومن المال لا يحسدها عليها البابا. ولقد سبق لي في المقال السابق الإشارة إلى وجود مؤسسات إسلامية كثيرة في بلداننا لا تقل نفوذا عن الفاتيكان، من بينها أداة الدولة المسخرة لخدمة الدين بل الدين المذهبي.
السبب في رأيي ليس حرص رجال الدين على سلامة دينهم، بل حرصهم على تقاسم النفوذ مع الحكام عبر استغلال رصيدهم الديني ونفوذهم على العامة. في الجزائر كانت جمعية العلماء المسلمين قبل الاستقلال تطالب بفصل الدين عن الدولة، لأن فرنسا كانت تتدخل في الشؤون الدينية؛ تراقب الحركة الوطنية بما فيها رجال الدين الإصلاحيين وتضيّق الخناق على الصحف والمدارس الحرة وخطب المساجد، بل إن ابن باديس رائد الإصلاح الديني كان من المؤيدين لكمال أتاتورك في فصله الدين عن الدولة وإلغاء الخلافة وتجريد شيوخ الإسلام من نفوذهم. الآن جمعية العلماء المسلمين تقف ضد العلمانية وضد فصل الدين عن الدولة ومع إدراج الشريعة مصدرا رئيسيا للتشريع. لماذا؟ هل للمسألة علاقة بالدين؟ يعني هل فصل الدين عن الدولة بما يعنيه من رفع الدولة وصايتها على المؤسسات الدينية وإلزام هذه الأخيرة بعدم التدخل في شؤون الدولة والحياة السياسية والحزبية واحترام الحريات سوف يضعف الدين في قلوب الناس؟ كيف إذن واصل الناس طوال قرون التمسك بهذه الدين حتى في فترات غياب الدولة تماما وفي فترات الاستعمار (النصراني).
يجيب المروزقي بعد هذا التردد: ((أليس الحل بكل بساطة الديمقراطية التي فيها كل الضمانات ضد الاستبداد بالدين ناهيك عن الاستبداد بالدولة، للأسف هي مشلولة تجاه الاستبداد بالمال)).
وبما أن من أهم الأسس الديمقراطية تساوي الفرص بين جميع الفرقاء، فأنا لا أفهم كيف أن مفكرا (علمانيا) ديمقراطيا يكتب: ((ولا مجال لمنع تدريس التربية الإسلامية في مناهجنا وهي جزء من تراثنا الثقافي وهويتنا…)). فهل اطلع المرزوقي فعلا على مناهج التربية الدينية في مدارسنا حتى يتبنى هذه الفكرة الخطيرة على نزاهة الممارسة الديمقراطية؟ ألا يدرك أنه من غير العدل بين الأحزاب والشخصيات المتنافسة سياسيا أن تستفيد الأحزاب الإسلامية من دعاية مجانية لبرامجها في المؤسسات التربوية تبلغ حد تكفير الخصوم بوصفهم أعداء للإسلام إذا وقفوا ضد تطبيق الشريعة الإسلامية التي توصف بأن حلولها ربانية تسمو على كل فكر وضعي؟ فعن أية ديمقراطية يتحدث المرزوقي؟
ثم ينسى حكمه السابق (((علما وأننا نحن أيضا نواجه الإشكالية العامة والاستبداد باسم الدين قوام تاريخنا والعمود الفقري لأكثر من دولة عربية إسلامية ناهيك عن خطر تجدده والموجة الإسلامية تكتسح مجتمعاتنا))، فماذا يعني الاستبداد باسم الدين إذا لم يَعْنِ محاربة الديمقراطية باسم الشورى ورفض التداول على السلطة لأن “البيعة مرة واحدة” في الفقه الإسلامي ومحاربة القوانين الوضعية العلمانية باسم أسبقية الشريعة ومحاربة الحريات باسم الأخلاق الإسلامية التي تسمو على ما سواها؟ ويكتب ((أضف لهذا أنه لا معنى فيها (الديمقراطية) لفصل الدين عن الدولة، هذا البعبع النظري الذي يجعل الشرر يتطاير من عيون الإسلاميين. فداخل النظام الديمقراطي يمكن لأي حزب ولو كان دينيا –انظر التاريخ الطويل في إيطاليا للمسيحيين الديمقراطيين- أن يستلم السلطة وأن يمارسها طالما احترم قواعد وأسس الديمقراطية التي أوصلته إليها. كما يمكن لحزب غير ديني أن يمارس السلطة بنفس الشروط لكن لا دينيته هذه لا تمنعه من احترام مشاعر وطقوس المتدينين ومواصلة الإنفاق على مؤسساتهم. أليست أغلب الديمقراطيات الغربية في تواصل مع دين الأغلبية ولم تسقط فريسة استبداد الدينيين؟)).
الكاتب يتعمد التعتيم على الحقائق. فبالنسبة لـ ((التاريخ الطويل في إيطاليا للمسيحيين الديمقراطيين))، لا بد أن نذكر أن الديمقراطية المسيحية تدرجت في تطورها حتى تبنت الديمقراطية والعلمانية بعد أن حاربتهما طويلا فتحالفت مع الكنيسة ومع الفاشية ومع المافيا، وعارضت حقوق الإنسان باسم عدم المساس بالتعاليم المسيحية. أفلا يجب أن نعتبر بهذا التاريخ ونختصر علينا المسافات، خاصة ونحن نعاني من تأخر كبير، للحاق بهم والوصول بسرعة إلى الاستقرار الاجتماعي والسياسي الذي بلغوه بفضل العلمانية؟
لكن الكاتب يصر على هذا التخبط. لنقرأ: ((ما الفائدة إذن من هذه الزائدة الدودية المسماة علمانية؟ نعم لماذا المحافظة عندنا على مفهوم لا يضيف شيئا والخط الفاصل في الحرب على الاستبداد ليس بين الإسلاميين والعلمانيين وإنما بين الديمقراطيين أيا كانت خلفياتهم العقائدية وبين الاستبداديين أيا كانت الأقنعة الأيديولوجية التي يلبسون)).
فهل يمكن أن يكون الشخص ديمقراطيا إذا كانت خلفيته العقائدية والأيديولوجية غير ديمقراطية مثلما هو حال الإسلاميين جميعا يشتركون في ذلك مع الأحزاب القومية اليسارية التي استولت على الحكم واحتكرته عشرات السنين وتسببت في ركود عام لجميع مناحي الحياة في بلداننا؟
لكنه مباشرة بعد هذا الكلام يستدرك فيكتب: ((للصراحة، كانت النية مبيتة للدعوة إلى إهمال مفهوم العلمانية ليسقط بالتقادم، لكن متى اختفت المفاهيم بأمر من هذا أو ذاك؟ ثم أليس وجودها دليلا على ضرورتها في لحظة ما من التاريخ؟)).
فهل مجتمعاتنا يا سيدي تعيش هذه اللحظة من لحظات التاريخ أم تجاوزتها؟
ثم يقول: ((نحن نعايش انهيارا بطيئا للمستبدين. للإسراع برحيلهم إلى حيث هرّبوا أموالهم، يجب أن تتوحد كل قوى المعارضة)).
وبما أن المقال كتب قبل بداية اندلاع هذه الثورات العربية بحوالي ستة أشهر، فلا بد أن نشير هنا أن هروب الاستبداديين لم يتم كما تصوره الكاتب، فلا هم سقطوا على يد تحالف المعارضة ولا هم ذهبوا حيث أودعوا أموالهم، وليس على الكاتب ألا يصيب فلا أحد توقع هذه الثورات ومآلاتها. لكن تصنيف الإسلاميين ضمن قوى المعارضة ليس إلا شكليا. لأن مضمون معارضة القوى الديمقراطية يختلف حد التناقض عن مضمون معارضة القوى الإسلامية، بل إن المضايقات والملاحقات والتهديدات التي تعاني منها قوى المعارضة الديمقراطية والعلمانية لا تأتيها فقط من الأنظمة الحاكمة بل أيضا من الإسلاميين.
والكاتب لا يجهل هذا، ومع ذلك يقول: ((لكن أكبر عنصر في هذه المعارضة هو الإسلامي، جزء منه جزء من الداء وجزء منه جزء من الدواء. فداخل التيار هناك طرف معاد بكل وضوح للديمقراطية ويستعد لجولة استبدادية أخرى قناعها الإسلام ستشكل الفشل الرابع لنظامنا السياسي بعد فشل الاستبداديين باسم الوطنية والقومية والاشتراكية. مثلما هناك طرف قبل مبدئيا بالديمقراطية ويمكن أن يساهم في نواة صلبة لقوة تاريخية تبني النظام الديمقراطي في إطار احترام ثوابت الهوية وقيم الأمة ومقدساتها)).
فهل يوجد فعلا طرف إسلامي ((قبل مبدئيا بالديمقراطية ويمكن أن يساهم في نواة صلبة لقوة تاريخية تبني النظام الديمقراطي)) لو لم يتنازل الديمقراطيون عن أهم أسس الديمقراطية كما فعل المرزوقي عندما وافق على عبارة كهذه ((في إطار احترام ثوابت الهوية وقيم الأمة ومقدساتها)). هذا ما سأتناوله في مقال لاحق حول فكر وموقف راشد الغنوشي الذي يجري تصنيفه خطأ ضمن (الدواء) و(الاعتدال)، لكن المرزوقي قدم لنا في هذه الفقرة السابقة ما نسميه في الجزائر ((مسمار جحا)، يلعب عليه الإسلاميون ويسقط في حبائله (الديمقراطيون) أمثاله. الإسلاميون فعلا يسعدهم كثيرا أن تكون الديمقراطية ((في إطار احترام ثوابت الهوية وقيم الأمة ومقدساتها)). وهي عبارة شديدة المطاطية والزئبقية وأنا أعتبرها تنازلا خطيرا إن لم يكن مجرما للإسلاميين كونها حصان طروادة وخديعة يمررون من خلالها ويعرقلون كل مشروع حضاري. ألا نراهم يستغلون حتى النخاع المادة الثانية من الدستور التي نجدها في كل الدساتير العربية ((الإسلام دين الدولة))؟
راشد الغنوشي نفسه شريك المرزوقي في هذه الديمقراطية العرجاء، يقول سنفعّل هذه المادة. كيف؟ الراجح أنه لن يتم هذا التفعيل إلا على جثة الديمقراطية طبعا وفي أحسن الأحوال تعطيل أي إصلاح ديمقراطي يفتح الأبواب واسعة لممارسة الحريات والمواطنة كاملة غير منقوصة. والغنوشي معه حق عندما لا يرى فرقا بين شعارهم (الإسلام هو الحل) وبين (الإسلام دين الدولة).
ما يحير أكثر أن يقول الكاتب في النهاية كلاما صحيحا ومغلوطا في آن واحد يجعلني أندهش من هذه القدرة على جمع المتناقضات: ((ثمة إذن تحديان: الأول مواجهة الجزء الاستبدادي من الإسلاميين وهم خطر داهم قد يعيدنا لوضع نتحسّر فيه على “طيبة” من عرفنا (يقصد الحكام المستبدين). في مواجهته يجب أن تكون العلمانية النواة الصلبة لخيار لا حياد عنه وهو أن مصدر السلطة الشعب لا إرادة إلهية مزعومة لا يعرفها إلا فقهاء يخلطون بين مصالحهم ومصالح الدين (المطلق الوهمي))). ويقول: ((التحدي الثاني بناء الجبهة التاريخية مع الإسلاميين الديمقراطيين. المشكلة أن الديمقراطية بالنسبة لبعضهم مرحلة تكتيكية. يتصورونها انتخابات شعبوية تحملهم للسلطة وبعدها باسم إرادة القوائم الانتخابية التي يتصورون أنها إرادة الشعب، يمكنهم سن ما يشاؤون من القوانين)).
أليس قبول الإسلاميين كشركاء (ديمقراطيين) إذن مغامرة غير محمودة العواقب؟ وهل يصح أن نقول إسلاميين ديمقراطيين على وزن مسيحيين ديمقراطيين، هل يمكن أن يكون المرء إسلاميا وديمقراطيا في نفس الوقت إذا كان مفهوم إسلامي (وليس مسلما) يعني من يتخذ الإسلام برنامجا سياسيا واجتماعيا وثقافيا ويعمل على أسلمة المجتمع والدولة والاقتصاد والثقافة؟.
فلو تناولنا هذا الموقف على مستوى لغوي فقط، فإن مصطلح (إسلاميين) لا يقابل مصطلح (مسيحيين) بل يجب أن يقابل هذا الأخير (مسلمين). لأن (إسلاميين)، والأصح (إسلامويين) أو (أصوليين)، مصطلح دخيل في مفهومه الجديد على اللغة العربية وفد إليها كترجمة لـ
(intégristes)
أو
(fondamentalistes))
، وهي هنا لا تقابل “مسيحيين”
(chrétiens)
. الإسلاموية تعبر عن مذهب يتخذ من الإسلام أيديولوجيا حكم، وهذا ما لا تتبناه أحزاب الديمقراطية المسيحية
démocratie chrétienne
خاصة حاليا بالنسبة للمسيحية، بعد أن أنجزت تحولها النهائي الديمقراطي العلماني، رغم علاقتها السابقة بالأصولية المسيحية fondamentalisme.
قول الكاتب الآنف الذكر يجعلنا نحكم على العملية الديمقراطية مع الإسلاميين على أنها مغامرة محفوفة بكل المخاطر. هل الديمقراطيون مجبرون على الدخول في هذه المخاطرة أو المقامرة؟ ويمكن أن نعالج المسألة بشكل آخر: من يتحمل المسؤولية لو وصل الإسلاميون إلى السلطة وراحوا يلاحقون الديمقراطيين ويضيقون على الحريات ويلجئون النخب العلمية والفنية والسياسية التي لا ترضى العيش في مناخهم إلى المنافي في أحسن الأحوال، وهذا حصل في الجزائر وتسبب في نزيف مؤلم، وفي أسوئها إلزامهم صمت القبور أو إلزامهم القبور الحقيقية خاصة أولئك الذين يتحلون بقدر محترم من الشجاعة ويترجمون معارضتهم في مواقف صريحة قولا وفعلا وتعبيرا؟ هناك من يقول دع الشعوب تجرب حتى تتعلم وتتعرف على أعدائها الحقيقيين. لكن من يقول هذا في نظري مخطئ لو أنه قبل الإسلاميين كشركاء موثوق فيهم ولم ينبه الناس إلى خطرهم، وأوهم الناخبين أن الديمقراطية هي الانتخابات فقط.
لماذا لا يكون الموقف السليم هو رفض الدخول في أي تحالفات معهم وانتخابات ما لم تتوفر ضمانات كافية يشهد عليها الشعب والعالم والسلطة المشرفة على الانتخابات أو الجيش. هذه الضمانات يجب أن تنص عليها بنود دستورية واضحة لا مجال فيها لأي منفذ للإسلاميين مثل الإسلام دين الدولة ومثل الشريعة الإسلامية مصدر التشريع ومثلما يقول المرزوفي هنا ((في إطار احترام ثوابت الهوية وقيم الأمة ومقدساتها)). ويقول البرادعي شيئا من هذا القبيل في:
ثم يزداد تخبط الكاتب ((في مواجهة هؤلاء الديمقراطيين التكتيكيين يجب على الديمقراطيين فقط أن يذكروا دوما أن الديمقراطية كل لا يتجزأ، وأن الأغلبية البرلمانية لا تعطي الحق في المس بالثوابت الديمقراطية. وداخل هذه الصلابة العامة، يجب أن تكون العلمانية الجزء النشط المنتبه الحذر من الفكر الديمقراطي لرفض أي مساومة في كل برنامج معارضة أو حكم حول المساواة التامة أمام القانون بين المسلم وغير المسلم، بين المؤمن وغير المؤمن، حول تحييد المساجد في المعارك السياسية، أو حول تقدم الأحزاب مكشوفة الوجه على برامج سياسية لا على ادعاء تمثيلها لله)).
الكاتب هنا يعود إلى تبني علمانية قوية كان قد انتقد غيره على تبنيها. ومع ذلك يبقى خطابه مشوب بنقاط مظلمة كثيرة. فهل يكفي القول (يجب على الديمقراطيين فقط أن يذكروا دوما أن الديمقراطية كل لا يتجزأ، وأن الأغلبية البرلمانية لا تعطي الحق في المس بالثوابت الديمقراطية)؟ لنفرض أنهم ظلوا يذكّرون في أدبياتهم وتدخلاتهم طوال الحملة الانتخابية بهذه الثوابت مثل (رفض أي مساومة في كل برنامج معارضة أو حكم حول المساواة التامة أمام القانون بين المسلم وغير المسلم، بين المؤمن وغير المؤمن، حول تحييد المساجد في المعارك السياسية، أو حول تقدم الأحزاب مكشوفة الوجه على برامج سياسية لا على ادعاء تمثيلها لله) ولكن الإسلاميين غير مجبرين بالالتزام بها، ولماذا يلتزمون مادام الديمقراطيون من السذاجة بحيث دخلوا معهم في حملة انتخابية قبل إبرام أي عقد اجتماعي وسياسي دقيق يدوّن في شكل مواد دستورية تنعكس في قوانين الأحزاب والانتخابات، ويمنع أي حزب إسلاموي من الاعتماد وبالتالي من المشاركة إذا لم يوقع على هذا العقد.
ثم ما هي الثوابت الديمقراطية التي يجب الاتفاق حولها؟ هل دساتيرنا الحالية تتضمنها وتضمنها؟ كلا. فأهم ثابت في الديمقراطية وهي المساواة التامة بين المواطنين بغض النظر عن معتقدهم ومذهبهم وجنسهم لا نعثر عليه في دساتيرنا الحالية، لأن مجرد نص الدستور على أن الإسلام دين الدولة وأن الشريعة هي المصدر الرئيسي للتشريع وأن رئيس الدولة يجب أن يكون مسلما هو خرق فاضح لهذا الثابت. وسيكون من حق الإسلاميين أن يفعّلوا، كما قال الغنوشي، مادة (الإسلام دين الدولة وأن الشريعة هي المصدر الرئيسي للتشريع). ومن حقهم، فما جدوى هذه المادة في الدستور؟ هلى هي فقط بخور للتبرك؟
وأخيرا يقول: ((بديهي أنه إذا قبل الإسلاميون (الديمقراطيون) بهذه المواقف فإنهم يصبحون إسلاميين علمانيين. لم لا وأي عيب في هذا؟)). وهو خطأ أخير يرتكبه الكاتب، فالإسلاميون لا يصبحون بعد هذا التحول إسلاميين علمانيين، بل يتوقفون عن يكونوا إسلاميين وكفى ويمكن أن يكونوا مجرد مسلمين علمانيين والفارق بين المصطلحين كبير. فهل عندنا عينات من الأحزاب الإسلامية تسير في هذا الاتجاه؟ طبعا لا. ولماذا يفعلون وهم الأعلون ولماذا يتخلون عن إسلاميتهم وهي تدر عليهم هذه المكاسب؟
ألم ير الكاتب كيف أجبر (الإسلاميون) الأتراك على التعديل في مواقفهم عشرات السنين قبل أن يسمح لهم بالمشاركة؟ ألم تتعرض أحزابهم للحل عدة مرات حتى قبلوا نهائيا بالعلمانية وأحدثوا فرزا حقيقيا في صفوفهم، وهم لا يفوّتون أي فرصة لتأكيد التزامهم بالديمقراطية والعلمانية؟ ومع ذلك فالديمقراطية ليست مكسب لا يمكن الرجوع عنه حتى في أكثر البلدان عراقة في الديمقراطية لأن الماضي البغيض هي مثل الإسفنكس الذي يبعث من الرماد.
رفض الإسلاميين كشركاء (ديمقراطيين) هو الآخر يضعنا أماما خيار عويص. التهمة الأولى الموجهة للديمقراطيين العلمانيين هي أن هذا الموقف يخدم الاستبداد الجاثم على صدورنا منذ مئات السنين. رأيي أنه لا يجب أن نضع أنفسنا بين خيارين لا ثالث لهما إما الدولة القومية الاستبدادية أو الدولة الدينية. لأن الدولة الاستبدادية الجمهورية أو الملكية هي التي خلقت الخطر الأصولي من جهة كونها خنقت كل الحريات الكفيلة برفع مستوى الناس ولم تترك لهم غير ملاذ الدين، ولأنها تستغل البعبع الديني لتخويفنا حتى نرضى بها كأهون الشَرَّيْن. أما المطالبة بالسكوت عن الإسلاميين حتى الفراغ من هزيمة الأنظمة المستبدة فهو يشبه ما كانت ترفعه الثورات سابقا ((لا صوت يعلو فوق صوت الثورة)، وأدى إلى خنق أي نقد والحيلولة دون أية إمكانية لتصحيح الأخطاء في الوقت المناسب قبل أن تتعفن.
حاليا “قطعت جهيزة قول كل خطيب” كما يقول المثل العربي القديم. فالجماهير أخذت المبادرة، وطردت بعض المستبدين والبعض في الطريق، دون يعني ذلك أن الاستبداد قد سقط. وقد تفضي هذه الثورات إلى نتائج وخيمة في صالح الإسلاميين أو في صالح تقاسمهم الكعكة مع المستبدين السابقين، ولكن على الجماهير أن تتحمل مسؤوليتها فهي التي أوكت وهي التي نفخت. وعلى الديمقراطيين أن يشاركوا فيها ولكن عليهم ألا يتوقفوا عن دق نواقيس الخطر حول كل الاحتمالات الممكنة والمطالبة بالضمانات، ويرفضوا الدخول في أي تحالف مع الإسلاميين إلا تحت هذه الضمانات ويرفضوا المشاركة في أية انتخابات قد تفضي إلى استبداد أقبح.