ستقولون معي في نهاية هذا المقال بأن المثل الأردني ليس صحيحاً –القائل-:(يا مسترخص اللحم عند مرقة العدس تندم) والموضوع بصراحة هو أن العدس كان لحماً للفقراء وطبخة ووجبة رخيصة وكان عسلاً للفقراء ودجاجا للفقراء ودواءً ينقذ الفقراء من حالات الإمساك الشديدة ومنقذا للفقراء من عُقدة الانتحار, وحافظ ردحاً طويلاً من الزمن على نوع الإنسان حين لم تكن تتوفر في الأغذية السعرات الحرارية اللازمة للإنسان وسلاحاً للفقراء يواجهون به سوء التغذية الصحية ويواجهون به لحم الأغنياء , وفعلاً كانت رائحة البيت الذي تنتشر به وجبة العدس تشبه رائحة اللحوم وكنتُ أظن وأنا راجعٌ إلى البيت من المدرسة بأن رائحة العدس رائحة لحمة وكنتُ أكشُ بوجهي حين أُفاجأ بأن تلك الرائحة ما هي إلا رائحة العدس أما اليوم فإن العدس لم يعد لحما للفقراء بل هو طعام للبرجوازين,لأنه غالي الثمن بدينار ونصف أردني للكيلو الواحد ولأول مرة في حياتي آكل وأنا أضحك أو وأنا أقلب ُ على ظهري من شدة الضحك حين علمت بأن وجبة العدس التي وضعتها زوجتي أمامي كانت قد كلفتها 3 ثلاثة دنانير أردني ذلك أن ثمن كيلو العدس بدينار ونصف أردني , فقلت لزوجتي في البداية متسائلاً : شو طابخه عدس على شان العدس رخيص؟ فقالت : شو رخيص الكيلو بدينار ونصف, فقلت وأنا فارطٌ من الضحك : يا سبحان الله زمان كانوا الناس يقولون بأن العدس لحم الفقراء,فضحكت أمي وهي متكئة على وسادتها قائلة في لهجةٍ كلها سخرية (الله يرحم أيام زمان)… والآن لحم الفقراء أصبح سعر الكيلو الواحد له بدينار ونصف أردني أي بما يعادل دولارين و100 سنت أمريكي , وقلت لزوجتي ابحثي عن أي طعام آخر في مطبخك يكون لحماً للفقراء, طبعاً قلتُ ذلك وأنا أضحك وأقلب على ظهري من الضحك ففتشت(الحُرمه) في كل أرجاء المنزل فلم تجد أرخص من العدس فضحكتُ وقلت لها (بل أرخص شيء هو الإنسان) وشربت أول ملعقة من (شوربة العدس) وصرت أضحك وأنا أتذكر أيام زمان حين كان الفقراء يتهكمون على (شوربة العدس) لأنها كانت رخيصة جدا وتذكرتُ طُرفة أردنية كانت وما زالت شائعة بين الجماهير العريضة حين جاء رجلٌ على مِقبرة ورأى رجلاً آخر يقوم بدفن ابنته وهي على قيد الحياة فسأله الرجل الآخر عن السبب فقال: ليس عندي لها أي طعام أو أي نوع حليب, فقال له الرجل الآخر: يا رجل أطعمها عدساً, فسمعته البنت التي يريد أباها دفنها حية فقالت له متسائلة في أسلوب بلاغي استنكاري: شو عدس؟ بدك ترجع تطعمني عدس؟ ما بديش ادملني أحسن لي… يلله ادمل ادمل.
تذكرت هذه الطُرفة وعرفت الآن لماذا توقف الأردنيون عن روايتها والسبب واضحٌ جداً وهو أن سعر كيلو العدس أغلى بكثير من سعر الأرز الأمريكي (التايجر )أو (الحصاد) الأصلي النخب الأول وكذلك سعر العدس اليوم يعادل سعر كيلو الدجاج الحي وما أضحكني مرة ثانية وثالثة ورابعة أكثر هو أني حين قمت بتقطيع الخبز لوضعه في (شوربة العدس) خطرت ببالي فكرة أنه لم يعد للفقراء أي لحم يسترخصونه , فأيام زمان كنا نصترخص العدس لطبخه, وكان الأردنيون يقولون مثلاً (يا مسترخص اللحم عند العدس تندم) واليوم لا نستطيع أن نندم لأن سعر العدس بسعر الدجاج ,لذلك أنا أطالب الحكومة الأردنية بأن توفر لنا لحماً رخيصا يكون مثله مثل العدس ..وتذكرتُ وأنا آكل بوجبة (شوربة العدس) كيف كنتُ وأنا طفل صغير أأكلُ وجبة العدس مع إحساسي بالإهانة, لأن الفقراء وحدهم من كان يأكلُ العدس وكنت كلما آتي إلى البيت من المدرسة وأشتم رائحة العدس كنتُ فعلاً أترفع عن أكله وأتظاهر أمام أمي وجدتي بأنني لست جائعا وكانت جدتي رحمها الله تقول (خله جعله لا أكل أصلا العدس عليه أكثير هذا الشكل) وكل أهل حارتنا كانوا يأكلون العدس وهم يشعرون بأنه البديل عن الدجاج وعن اللحوم الطازجة, ولم يكن أهل حارتنا مثقفون جدا في التغذية حين كانوا يطلقون على وجبة العدس (لحم الفقراء) فلم يكونوا يعرفوا بأن العدس غني جدا بفيتامين (ب1+ب2) عدى البروتين وقليل من الدهون ولكنهم كانوا يشعرون بأن العدس رخيص جدا وسهل الحصول عليه قياسا بالصعوبات الكثيرة التي تواجههم أثناء حصولهم على الدجاج ولحم العجل أو البقر أو الخروف , لذلك أطلقوا على العدس مصطلح (لحم الفقراء) واليوم العلماء في مجال التغذية يطلقون على العدس مصطلح (لحم الفقراء) ليس لأن سعر العدس رخيص ولكن لكونهم يعرفون بأن كل 100غرام من العدس تزود الجسم ب340 سعر حراري أي بزيادة 150 سعر حراري عن اللحمة.
و جاء في قصص التوراة بأن (عيسى ) شقيق (يعقوب) كان قد تنازل ليعقوب عن زعامة العائلة مقابل وجبة (عدس) يمنحها يعقوب لعيسى ونظرا لأن العدس كان متوفرا بكميات هائلة فإننا لم نكن نرغب به كما كان يرغب به شقيق يعقوب, ولكنه على الأقل أعطى البشرية مزيدا من الطاقة حتى بدأت الأغذية تتوفر وعلى رأسها اللحوم والدواجن والأبقار, وأنا شخصيا لم أكن وأنا صغير كثير الحُب لوجبة العدس ربما لأنها كانت متوفرة في منزلنا بشكل هائل جدا ويفوق تواجد العدس في مطبخنا أي نوعٍ آخر من البقوليات وكان جميع أهل حارتنا حين لا يجدون لحما أو حين يشتهون أكل اللحوم ولا يستطيعون شراءها كانوا على الفور يخرجون العدس ويطبخونه كتعويض عن اللحوم, واليوم لا يستطيع أي إنسان أو أي مواطن أردني أن يحصل على العدس بسهولة لذلك وجبة العدس اليوم هي طعام الأغنياء ولحم الأغنياء وعسل الأغنياء ودجاج الأغنياء, ولم يعد صحيحاً المثل القائل(يا مسترخص اللحم عند شوربة العدس تندم).