الشاعر نينوس آحو وصفه البعض بأنه ‘أسد بابل’ يقف على بوابة عشتار شامخاً صلباً متحدياً آلهة الموت يتطلع إلى آلهة الحياة، آلهة الآشوريين.
العرب: باسل العودات [نُشر في 2014/10/18، العدد: 9711، ص(14)]
الشاعر نينوس آحو أخراج الأغنية السريانية من جوقة تراتيل الكنيسة إلى النور
لم يفارق طيفه ذاكرة الآشوريين في سوريا على الرغم من رحيله، فهو، كان ومازال بالنسبة إليهم، سفيرا فوق العادة لقضيتهم، وممثلا جوالا، بالمكان والزمان، لهم في مختلف أنحاء العالم، وشاعرا دغدغ مشاعر كل آشوري في شرق المتوسط وسيبقى.
نينوس آحو، شاعر القضية الآشورية، الذي رحل مثل هذه الأيام قبل عام بعد صراع طويل مع مرض عضال في منفاه الاختياري في أميركا، وترك فراغاً معنوياً كبيراً في الساحة الآشورية، فحيثما كان يحل كانت تحل القضية الآشورية، يُحاضر ويلقي شعراً ويُبشّر بقيام الدولة الآشورية عام 2050.
الشاعر والسياسة
شاعر إشكالي، أديب رقيق وسياسي مشاكس، رفض الإكليروس تأبينه بسبب قرار يعود للقرن الماضي على الرغم من أن غالبية الآشوريين يصفونه بأنه “رسول القضية الآشورية”، ترك رحيله جرحاً معنوياً يوازي جرحهم الوطني السوري الذي يتعمق ويكبر مع استمرار سفك الدماء والحرب الطاحنة.
التاريخ الطويل للشاعر الآشوري الأبرز لم يشفع له لدى الإكليروس والمؤسسة الكنسية، فعلى الرغم من حزنهم عليه إلا أن كاهن كنيسة مار أفرام في القامشلي (شمال سوريا) رفض ـتحت ضغوط الأجهزة الأمنيةـ إلقاء كلمة تأبينية للراحل، بحجة وجود قرار عند الطائفة السريانية يعود لقرن مضى يمنع التأبين في الكنائس، ما دفع آشوريين وسريانا في المدينة للمطالبة بإقالة الكاهن وعزله دون أن يلقى استهجانهم أي صدى.
الشاعر الذي توفي عن عمر 68 سنة، ولد شمال شرق القامشلي السورية لأسرة فلاحية، وفي ريعان الشباب، دفعه عشقه للسياسة والنضال للعمل في صفوف المنظمة الآشورية الديمقراطية، وغادر سوريا إلى ألمانيا وتعرضت الطائرة التي يركبها لعملية اختطاف من قبل فلسطينيين، ومن ثمة غادر إلى الولايات المتحدة التي يتواجد فيها أكثر من نصف مليون مهاجر آشوري من سوريا والعراق، وأصبح عضواً فاعلاً في الاتحاد الآشوري العالمي، بعدها قرر العودة إلى سوريا للاستقرار على الرغم من تعرضه لكثير من المضيقات الأمنية على خلفية نشاطه السياسي المعارض للنظام.
“بالرغم من خيبة أمله بالأحزاب والتنظيمات والحركات الآشورية، ودعواته الدائمة لها للتوحد عبثا، إلا أن آحو لم يقطع الأمل بإعادة بناء برج بابل وبوابة عشتار وفتح أكاديمية نصيبين من جديد، وراهن على ولادة الآشوري الجديد الذي بشر به في قصيدة خاصة”
اسمه الجديد
في خطوة غير مألوفة، قرر الشاعر تغيير اسمه الأصلي، فهو في بطاقات الميلاد والهوية “عبدالمسيح”، ورغم عظمة معنى الاسم لدى المسيحيين إلا أن الشاعر قرر تبديله إلى “نينوس”، واتّهمه بعض السريان بأنه ضحية مفاهيم خاطئة كانت منتشرة بين السريان في أواسط الخمسينات من القرن العشرين تعبّر عن ضياع البعض بين الانتماء الطائفي الضيق وبين الانتماء العروبي الذي يعتقدون أنه يمحي الهوية السريانية.
بعض المصادر السريانية تقول إنه كان يرفض الذل والعبودية بكل أشكالها حتى للآلهة، ولهذا غيّر اسمه، وأراد الانعتاق من هذه العبودية، فصديقه سليمان يوسف يروي روايته حول أسباب تبديل اسم الشاعر من عبدالمسيح إلى نينوس، وقال لـ”العرب”: “لقد قال لي الراحل أنا أرفض أن أكون عبداً لأحد حتى لو كان المسيح الذي هو بمثابة إله للمسيحيين، لهذا غيرت اسمي من عبدالمسيح إلى نينوس.. أهلي سموني (عبدالمسيح) ليعبروا عن حبهم للمسيح، وأنا قررت أن أبدله بنينوس لأقول للجميع أنا آشوري قبل أن أكون مسيحيا، ولائي هو لآشوريتي أولاً”.
مساهمات غنائية
أغنى الراحل الشاعر والأديب والناشط السياسي المكتبة الآشورية بالكثير من القصائد القومية والوطنية والشعبية والعاطفية، وربط بين أحلامه القومية الآشورية وتطلعاته الوطنية السورية، ورفض الاستبداد بكل أشكاله إن كان من قبل السلطة السياسية أم من السلطة الدينية، كان له الفضل في إخراج الأغنية السريانية من جوقة تراتيل الكنيسة إلى النور، نور الحياة، وركّز على حبيب موسى الفتى الشماس، وراهن على صوته في عرين الأغنية السريانية، إلى أن تُوّج موسى بعد تجربة طويلة ملكاً للأغنية السريانية في العالم.
“جزم آحو بأن سنة 2050 ستشهد قيام دولة آشورية، حسب معطيات تاريخية وسياسية يملكها، وقال إن العمل القومي سيتوج في النهاية بقيام الدول الآشورية، وحث الآشوريين على التوحد استعدادا لهذه النتيجة”
نبوءات
كان للشاعر نبوءات، لا أحد يعرف مصدرها ولا مستقرها، فقد جزم بأن سنة 2050 ستشهد قيام دولة آشورية، حسب معطيات تاريخية وسياسية يملكها، وقال إن العمل القومي سيتوج في النهاية بقيام الدول الآشورية، وحثّ الآشوريين على التوحد استعداداً لهذه النتيجة، وقد أثار كلامه عن قيام دولة آشورية بعد خمسة وثلاثين عاماً من الآن موجة من التساؤلات والحوارات تمحورت حول ماهية المعطيات وسبل تحقيق هدف كهذا، خاصة وأنه حلم مزمن لطالما أرق آشور أوباليط آخر الملوك الآشوريين بعد خروجه الأخير من نينوى إلى حران قبل أن يرحل.
وبالرغم كل خيبة أمله بالأحزاب والتنظيمات والحركات الآشورية، ودعواته الدائمة لها للتوحد عبثاً، إلا أنه لم يقطع الأمل في إعادة بناء برج بابل وبوابة عشتار وفتح أكاديمية نصيبين من جديد، وراهن على ولادة الآشوري الجديد الذي بشّر به في قصيدة خاصة.
استطاع نينوس التوفيق بين أحلامه القومية وارتباطه الوطني بسوريا، فرغم أنه غادر سوريا إلى الولايات المتحدة لكن الوطن لم يغادره، وبقي في فكره ومشاعره ووجدانه، ونظم العديد من القصائد التي تتغني بالوطن السوري ودعا الآشوريين للتمسك به وعدم الهجرة منه، وعاد خصيصاً من الولايات المتحدة إلى سوريا عام 1990 ليمضي بقية حياته في الداخل بين شعبه، لكن السرطان دفعه للعودة إلى أميركا للعلاج حتى توفي هناك.
وفي هذا السياق قال يوسف “ثمة خاصية لدى الآشوريين (السريان) هي أن اسم سوريا مأخوذ عنهم، أي أن سوريا تحمل هويتهم واسمهم وتحتضن تاريخهم، وهم لا يفصلون بين حقوقهم القومية والوطنية، وقضيتهم الآشورية هي جزء من قضيتهم الوطنية السورية العامة، ونينوس جسّد هذه القناعة خلال حياته”.
“دفعه عشقه للسياسة والنضال للعمل في صفوف المنظمة الآشورية الديمقراطية، فغادر سوريا إلى ألمانيا ثم إلى الولايات المتحدة التي يتواجد فيها أكثر من نصف مليون مهاجر آشوري من سوريا والعراق”
آشوريون على طريق آحو
وحقيقة، يوجد في الساحة الآشورية العديد من الشعراء القوميين، وهم ليسوا أقل من الراحل إبداعاً في الشعر والأدب السرياني، أمثال الشاعر آدام دانيال هومه، ابن بلدة “تل تمر”، الآشورية على ضفاف نهر الخابور، والأديب صبري يوسف ابن مدينة المالكية السورية، وإسحاق قومي ابن مدينة الحسكة، أما فيما يخص وصف أحدهم أو غير هذه الأسماء بخليفة الشاعر نينوس فهذا متروك لحكم الآشوريين السريان أنفسهم ورأيهم.
نينوس سُمي بشاعر القضية الآشورية ليس بسبب شعره وقصائده القومية فحسب وإنما بالنظر لأسفاره وتنقلاته الكثيرة، فهو لم يكن فقط شاعر القضية الآشورية بل كان سفيرها المتجول داخل سوريا وفي مختلف دول العالم، وحيثما يحل تحل معه القضية الآشورية، عنها يحاضر ويلقي شعراً.
يقول عنه الآشوريون إنه آخر عشّاق الفكر القومي الخلاق، وآخر الباحثين عن جلجامش وعن عشبة الخلاص، مات وعيناه على الأمّة، مات وهو ينفخ نفخة غضب في وجه اعوجاجات هذا الزمان.
وصفه البعض بأنه “أسد بابل” يقف على بوابة عشتار شامخاً صلباً متحدياً آلهة الموت يتطلع إلى آلهة الحياة، آلهة الآشوريين، وهي كثيرة “آشور ومردوخ وعشتار وأنانا”، أملاً بالخلود الذي بحث عنه “جلجامش” وكاد يناله لو لا غدر “آلهة الموت” في غفلة خطفت منه سر الخلود.
من شعر نينوس آحو
من قلب النار
من عمق الأعماق
من تحت الصخر ومن جـَــلّ الجبل
من كلمات غيومك أيتها السماء
الآشوري الجديد قد وُلد
من ثقل آلاف السنين
من الجوع والعطش والعَوَز
من أكاذيب التاريخ
من تجـّـار القضية والأمة
قد تخلـّـص اليوم
لناكري الحقوق
لظالمي كل الأمم
الذين سلامهم رصاص وقنابل
لديه المزيد
وإن سألته من أين أنت ومن أية طائفة
سيجيبك بصدق
لا تياري ولا تخومي
لا من السهل ولا من الجبل
لا يعقوبي ولا كلداني ولا نسطوري ولا معمداني
ويقول لك بصوت عالي
أنا آشوري
لا يهمّه كيف يعيش وماذا يلبس وأين يموت
فبعده سيأتي رجالٌ يتسلحون ويقولون الحقيقة
قلبه بيده وكتابه معه
يدور ويعظ
بوجود آشور وكيان آشور
بالقوة بالدم وباسم آشور يقول
أنا ولدت قبل أن تولد الأرض والشمس
أنا وُجدت قبل الزمان
لا موت لي ولا مساء
أنا نجم آشور المضيء
في سماء ما بين النهرين
أنا الإله آشور
أتحكم بدورة الأجيال
أنا مصباح ينير شعوب العالم
هل صحيح أنني غير موجود اليوم؟
وأنني أتلاشى شيئا فشيئاً؟
لا وألف لا
آشور تبقى والزمان يصمت
آشور تبقى والبرج يعلو
آشور تبقى والتاريخ يسجد
آشور تبقى ولا تسقط.
نزكي لكم قراءة: ملحمة كلكامش واثرها في الثقافة الاغريقية