رسائل علمانية
هل حياة الإنسان أسعد من حياة الحيوان؟
ربما؛ ولكن ما السر في هذه السعادة؟
وهل يستطيع أحد أن ينكر أن حياة الإنسان مليئة بالمشكلات النفسية والإجتماعية التي لا يعرفها الحيوان؟
فما السر في وجود هذه المشكلات؟
علينا بداية أن نعرف الفرق الأساسي بين الإنسان والحيوان ألا وهو قدرة عقل الإنسان على إستخدام الرمز.
تلك القدرة التي مكنته من صنع الثقافة؛ والثقافة هي كل ما صنعه الإنسان ولم يكن موجود في الطبيعة؛ سواء أشياء مادية كالملابس والسيارات أو أشياء معنوية كالفن والأفكار واللغة والدين.
إن قدرة الإنسان على صنع الثقافة هي التي مكنته من هذه السعادة؛ وهي التي أصابته بتلك المشكلات.
لقد صنع الإنسان الثقافة لتحسين حياته فما الذي جعلها أحياناً معوقاً لهذه الحياة؟
الإجابة في غاية البساطة ولكن حل هذه المشكلة هو الذي يحتاج كثيراً من الجهد.
الثقافة تتوارث عبر الأجيال وبسبب طبيعة الإنسان الدينية نجده يعطي صبغة مقدسة لبعض الموروثات الثقافية وخاصةً إذا جائت من شخص ذو مكانة إجتماعية أو دينية؛ ولما كان الإنسان بطبيعته يميل إلى الإستسهال؛ ونظراً إلى أن مراجعة الموروثات الثقافية للتأكد من أنها لازالت مفيدة بالرغم من تغير الزمان والمكان الذي نشأت فيه تحتاج جهد كبير؛ وجدنا أن معظم الناس مثلهم كمثل الحمير يحملون أثقالاً من الموروثات الثقافية دون تفكير فيما كانت لازالت مفيدة لهم أم أنها أصبحت تعوق حياتهم وتسبب لهم المشكلات؛ فالموروث الثقافي الذي كان مفيداً في الماضي ربما يصبح ضاراً في الحاضر نظراً لتغير الزمان والمكان.
ويجب أن ننتبه أيضاً إلى أن الموروثات الثقافية أحياناً تعطي مكاسب مادية وإجتماعية لبعض الأفراد كرجال الدين مثلاً وهذا يجعلهم يدافعون بقوة عن هذه الموروثات الثقافية حتى وإن صارت معوقة لحياة الناس.
هذا بالإضافة إلى أن الأنماط الثقافية الجديدة ربما تحتاج إلى مهارات ربما لا يقدر عليها البعض مما يضطرهم إلى نبذها و التمسك بالنمط الثقافي القديم بل ومحاولة فرضه على الآخرين لإبراز تفوقهم في القدرة على ممارسة هذا النمط القديم ومداراة عجزهم عن إستيعاب النمط الجديد الذي قد يكون أفيد كثيراً من النمط القديم.
إن هذا التثبيت الثقافي أي التثبيت على أنماط ثقافية لم يعد لها ما يبررها يحدث حتى في أبسط الموروثات الثقافية كإرتداء الجلباب وختان الإناث؛ فما بالك والموروثات الثقافية ذات الصبغة المقدسة كالأديان مثلاً؛ ولازال الكثير من الرجال في بلدنا يرتدون الجلباب رغم أنه قد يعوق الحركة؛ وهذا لا يعني أنني ضد إرتداء الجلباب فكل إنسان حر يرتدي ما يريد ولكن ما أريد قوله نستطيع أن نفهمه لو عرفنا أنه إلى عهد غير بعيد كان إرتداء البنطلون والقميص في إحدى القرى المصرية يعد عيباً.
إن هذا التثبيت الثقافي يشبه التثبيت الوجداني لدى المريض نفسياً ولا يمكننا أن ننظر إلى حالات التثبيت هذه إلا على أنها حالات مرضية؛ وعندما تمتلئ ثقافة مجتمع ما بحالات التثبيت المرضية لا يمكنا أن ننظر لهذا المجتمع إلا على أنه مجتمع مريض وما أكثر تلك الحالات في مجتمعنا؛ والإعتراف بالمرض هو أولى خطوات العلاج فهل آن لنا أن نعترف؟ إن هذا لا يعني أن نقوم بالتخلي عن ثقافتنا؛ فنحن نعالج الجسد المريض ولا نقوم بالتخلي عن الجسد كله؛ بل أنه مما يدعو إلى الحسرة أننا نفقد كثيراً من موروثاتنا الثقافية العظيمة بسبب هذا الكم الهائل من الموروثات الثقافية ذات الصبغة المقدسة والتي لم يعد لها ما يبررها؛ فننشغل بالحفاظ عليها ووسط هذا الإنشغال نفقد كثيراً من الموروثات الثقافية الهامة والتي هي أولى بالحفاظ عليها.
إن ما ينبغي علينا فعله هو أن نقوم بغربلة كل الموروثات الثقافية لنأخذ منها ما يفيدنا ونتخلى عن ما يضرنا؛ ولكننا لا نستطيع أن نفعل ذلك إلا إذا مسحنا الصبغة المقدسة عن كل ما هو ثقافي؛ فكل ما صنعه الإنسان لا يمكن أن يكون مقدساً؛ وإذا كان لابد لنا أن نقدس شئ فلنقدس ما صنعه الله وليس ما صنعه البشر.
لقد كان المصريون القدماء يقدسون نهر النيل وهذا منطقي فنهر النيل من صنع الله؛ أما نحن فنهينه بإلقاء القاذورات والصرف الصحي؛ ومن العجيب أننا نقدس الكعبة؛ أليست الكعبة من صنع البشر؟
إن هذه الغربلة يمكن لكل فرد ومن حقه أن يقوم بها على حده؛ كل على حسب عقله؛ ولكن من المؤكد أنه سيصبح معادياً للمجتمع وللثقافة السائدة التي قد يمارسها بين الناس لأنه لا يستطيع أن يتحدى المجتمع ولكنه بينه وبين نفسه لا يمتثل إليها؛ ووزارة الثقافة هي المؤسسة التي ينبغي أن تقوم بهذه الغربلة إذا كان الهدف هو المجتمع؛ ولكن طبقاً لمبدأ الحتمية التاريخية فإن تقاعس الأنظمة الحاكمة وعجزها لن يمنع الثورة على تلك الموروثات الثقافية إذا إشتد عناء الناس بها؛ حتى الأديان التي نقدسها الآن هي في جوهرها ثورات على أديان سابقة أي على موروثات ثقافية مقدسة لم تعد مقبولة بالنسبة لمن قاموا بهذه الثورات؛ فثاروا عليها وجاءوا بمنظومة ثقافية جديدة ونظراً لطبيعة الإنسان الدينية لم يكن في مقدور إنسان ذلك العصر أن يتخلى عن أفكاره الغيبية فكان يعتقد أن ما يرد إلى عقله من أفكار هو بفعل قوى غيبية أو وحي من السماء قد أوعز إليه بهذه الأفكار فظن أنه نبي مرسل من السماء وهذا يتماشى مع طبيعة الناس الذين كان يطرح عليهم رسالته فمنحت تلك الثقافة الجديدة نفس القداسة التي كانت ممنوحة للدين القديم و أصبحت دين جديد لا يجوز نقده أو مراجعته رغم مرور أكثر من ألف عام لنقع في نفس المشكلة من جديد؛ ألسنا الآن في حاجة إلى مثل هذه الثورة؟
إن هذا التوضيح يفسر المعضلة التي حيرت كثيراً من المفكرين وهي كيف يكون الدين ثورة في جوهره وكيف يكون في نفس الوقت أكبر عائق للثورة؛ إنه ثورة على دين سابق وعلى أصنام سابقة ولكنه بمرور الزمن يتحول إلى أصنام تماماً كالأصنام السابقة حتى أننا نستطيع الآن أن نوجه لرجال الدين الإسلامي نفس الخطاب الذي وجهه القرآن لكفار قريش عندما قالوا : هذا ما ألفينا عليه آباءنا فكان الرد : أولو كان آباءهم لا يعقلون؟ صم بكم عم كالأنعام لا يفهمون.
ألسنا الآن في حاجة إلى مثل هذه الثورة؟
إن الثورة قادمة فهذه حتمية تاريخية؛ ولن يستطيع أحد أن يوقف هذا الزحف الذي آراه غير بعيد؛ فالإنسان لم يصنع الثقافة لمجرد الطرف بل فرضتها الضرورة؛ وإنتشار العلمانية لم يأتي مصادفة بل دفعت إليه الضرورة؛ فالضرورة هي المحرك للتطور و التطور حتمي؛ صحيح أن المجتمعات تتقدم و تتخلف ولكن التقدم هو الأسبق في حركة التاريخ تحتمه الضرورة و التخلف مرحلي وإن طال و إلا لما كان هناك تطور أصلاً؛ والعلمانية حتمية تاريخية لأن التفكير الخرافي والديني لم يعد قادر على حل هذه المشكلات التي تتفاقم في هذا العالم و العودة إلى التدين بعد سقوط الشيوعية رد فعل طبيعي للفشل ولكنه مرحلي وإنتشار التطرف الإسلامي في الدول الإسلامية ظاهرة تاريخية جاءت كرد فعل للصدمة الثقافية التي أحدثها الإستعمار في هذه الدول وبالطبع تغذت أيضاً على أنظمة الحكم الفاسدة والظلم الإجتماعي؛ ولكنها أيضاً إلى زوال أمام حتمية التطور الثقافي و حتمية العلمانية التي ستفرضها الضرورة؛ فهل نحن مع حركة التاريخ أم إخترنا لأنفسنا أن نكون ذلك البغل الذي تسمنه الأحداث لتقوم بعد ذلك بذبحه في الوقت المناسب؟
محمد مصطفى