في اجتماع رؤساء الأركان في جيوش التحالف العسكري الإسلامي بالرياض وعددهم تسعةٌ وثلاثون، يمثلون 39 دولة مشاركة، جرى اتخاذ مقررات توزعت على أربعة محاور هكذا بالترتيب: الجانب الفكري، والجانب الإعلامي، والجانب الأمني، والجانب العسكري. ولأنّ المقصود من التحالف أمران: مكافحة التطرف والإرهاب الذي يهدّد أمن الدول والمجتمعات، وصون الأمن والاستقرار في دول التحالف؛ فإنّ الجوانب الأمنية والعسكرية كانت الأبرز بالطبع. أما الاهتمام بالجانب الإعلامي، فالغاية من إبرازه التصدي لاستخدام الإرهابيين لوسائل الاتصال، والتي تستهدف الإرهاب وزعزعة الاستقرار من جهة، وتجنيد شبان جدد للالتحاق بالإرهابيين في أماكن وجودهم وسيطرتهم، أو توجيههم للقيام بعمليات كما حصل ويحصل في أماكن متفرقة من العالم أبرزها في المدة الأخيرة أوروبا وأفريقيا. ولذا وفيما يتصل بالإعلام يكون هناك جانبان: الرد المجدي والقامع والمقنع، وطرح خطاب بديل لتثبيت الهمم والعزائم، ونشر تربية أخرى فاعلة تُخرجُ من أفخاخ وإغراءات تلك الفِرَق الإجرامية.
ذكر المجتمعون الجانب الفكري، ولم يقولوا الجانب الديني، وهو المقصود. ذلك أنّ العالم العربي والعالم الإسلامي، يشهدان ثورانًا في التفكير الديني، والسلوك العنيف والانقسامي باسم الدين. وهو الأمر الذي دفع ويدفع باتجاه التطرف والعنف، ويُضْعِفُ التماسَك والسكينة في المجتمعات، بحيث تتصدع المناعة، ويظهر ما يُشبه الفِرَق الدينية الانقسامية في العصور الوسطى الإسلامية.
لماذا حدث الثوران في ديننا؟ حدث لثلاثة أسباب: ضغوط الاستعمار والحداثة ومتغيرات نظام العيش في العالم المعاصر – وردّة الفعل المتمثلة في اجتراح فقهٍ جديدٍ للدين بعد أن تغيَّرت رؤى العيش وترتيباته والسياسات الدولية في زمن الحرب الباردة وما بعدها.
ولكي ندرك معنى التنافر أو عدم التطابق بين الفقهين، والذي حدث نتيجة الاستعمار وتغيير نظام العيش، أنّ الفقهاء ردّوا على ذلك بحلٍ تقليدي، هو أنّ الدار لم تعد دار إسلام، ولذلك يكون على المسلمين القيام بالجهاد، فإذا عجزوا فعليهم بالهجرة أو ترك الديار، لأنه لا ولاية لغير المسلم على المسلم (!). حدث هذا في الهند والجزائر وأواسط آسيا والقوقاز والبلقان والسودان.. وأخيرًا ليبيا عام 1911. وقد بقي هذا الشرخ عميقًا في وعي المسلمين، إلى حدّ أنهم في الهند ما بقوا مع غاندي في «المؤتمر» باستثناء قلّة، وما صدّقوا بفلسفة اللاعنف والمقاومة المدنية، وانتهى الأمر وبسبب هذا الوعي الفصامي إلى الانقسام عن الهند في دولة باكستان، التي عادت فانقسمت إلى دولتين!
أما السبب الثاني لهذا العنف والثوران، فيتمثّل في تصدع التقليد العقدي والمذهبي تحت وطأة الاستعمار والحداثة، وحركات الإصلاح والتأصيل السلفي. وقد سعت اتجاهات الأصولية والإصلاح لإنتاج أو استحداث فقه جديد للدين لمواجهة المتغيرات بالتشدد، وصَون الهوية من التغريب، ومغادرة التقليد العاجز. وبالتدريج وعلى وقْع فشل الدولة الوطنية والحرب الباردة، ظهرت الصحويات والسمتيات الدينية، التي عرفت مثلها سائر الأديان ما عدا الكاثوليكية. وبعد أواسط الستينات صارت الصحويات أحزابًا ذات مشاريع سياسية، استنادًا إلى فقهٍ جديدٍ للدين، غيَّر الثوابت، وتنكّر لأعراف الجماعة والمجتمعات. صارت الشريعة نظامًا كاملاً للعيش في الدين والدولة، وصارت ضرورية التطبيق بالحُسنى أو بالقوة. وفي الحالتين، ومع تبلور «حتمية الحلّ الإسلامي» مطلع السبعينات، صار ضروريًا الوصول للدولة الإسلامية التي تطبق الشريعة، إمّا بالجهاد أو بالدعوة السلمية والتغلغُل في أحشاء الكيانات القائمة. صارت الشريعة غير الدين، وصار الجهاد ممكنَ الاستعمال بالداخل. وصار واضحًا للعيان بعد نجاح الثورة الإسلامية في إيران، أنه لا بد أن يحصل أمرٌ مُشابهٌ في الجانب السني.
وجاءت السياسات الدولية في الحرب الباردة وما بعدها، لتتسبَّب في إنجاز ما لم يستطع أهل العنف إنجازه في العالم السني. فقد جنَّد الأميركيون أهل الفقه الجديد هؤلاء في الحرب الدينية / الثقافية على الاتحاد السوفياتي. وأخذوهم إلى أفغانستان لمجاهدة الغُزاة السوفيات. وهنا دخل السلفيون الجدد على الخطّ منضمين على الساحة الأفغانية وغيرها إلى الحرب على الشيوعية، وبعدها على الاستكبار العالمي، وصولاً لـ«اـلقاعدة» وهجمات سبتمبر (أيلول) عام 2001.
ما حصل شيء من ذلك بسهولة. فقد استغرقت عمليات تحويل المفاهيم، واصطناع الفقه الجديد للدين عدة عقود. وقاومت الأنظمة ولم تستسلم إلى ما بعد العام 2011. وما دخلت التقليديات الدينية في المشهد الجديد، لأنها ما اعتادت سياسات العنف، ولا الصراع بين الدين والدولة. لكنّ تلك المؤسسات كانت قد ضعُفت بعد الصراع على التقليد الديني بالداخل لأكثر من مائة عام. ثم إنّ بعضًا من رجالات تلك المؤسسات ما استطاعوا مقاومة إغراء الإسلاميين بأسلمة الدولة وتطبيق الشريعة. مع أنّ هذا المنطق مغلوطٌ، لأن الشريعة هي الدين، والمسلمون يطبّقون دينهم في العبادات والأخلاق والمعاملات. ثم إنّ وضع الدين بأيدي الجماعات المتطرفة بحجة تطبيقه من خلال الدولة، يُحدث صراعًا على السلطة لا ينتهي بين الإسلاميين أنفسهم، فضلاً عن الفئات الاجتماعية والسياسية الأخرى. ولهذه الأسباب كلّها بدا الإسلام فريدًا من نوعه لدى السنة والشيعة، من حيث إن القول بالدولة الدينية صار غلاّبًا. والواقع أنّ الأصوليات ثارت في كل الأديان، وبخاصة الإنجيليات واليهوديات والبوذيات والهندوسيات. بيد أن الدول القوية الشرعية في أميركا وآسيا استطاعت استيعابها وتطويعها. والقوة هنا ليست بقوة العسكر والبوليس، بل بقوة الشرعية ووقوف غالبية المجتمعات معها، وهو أمرٌ لم يتوافر للدول العربية والإسلامية ذات الأنظمة الأمنية والعسكرية.
إنّ هذه العملية التي وصفناها بإيجاز، أفضتْ إلى انفجارٍ وانشقاقات في ديننا تبلورت معالمها بعد الغزو الأميركي للعراق عام 2003، ولا تزال الانفجارات تتولى وتجتلب إلى جحيمها آلافًا من الشبان في الديار الإسلامية، وديار الاغتراب. فما العملُ الآن؟
إنّ المهمة الأولى التي تحدث عنها رؤساء أركان الحرب العرب والمسلمين في اجتماعهم من ضمن التحالف الإسلامي هي المهمة الفكرية. وهي تستهدفُ، كما سبق القول، استعادة السكينة في الدين وفي المجتمعات. والمهمة صعبةٌ لكنها غير مستحيلة. وصعوبتها متأتية من تداخُل العوامل الفكرية والإعلامية والاقتصادية/ الاجتماعية، والدولية. إنما في الجانب الفكري/ الديني؛ فإنه لا بد من التصدي لعمليات تحويل المفاهيم مثل الشريعة والجهاد والجماعة والدولة، ووظائف الدين في المجتمعات، ووظائف الدولة. هناك تداخُلٌ في تجربتنا التاريخية بين الدين والدولة، لكنهما ليسا واحدًا. فمهمة الدولة إدارة الشأن العام، أما الدين فهو اعتقاد الأفراد وعباداتهم وأخلاقهم، وتأثيرات ذلك كلّه على حياتهم الخاصة والعامة. إنّ هذه المهمة التصحيحية والتحريرية، إذا صحَّ التعبير، هي واجب المؤسسات الدينية، التي ينبغي أن تنهض من طريق النقد الذاتي، ومراجعة تجربتها الحديثة، والاتجاه لفتوى أخرى، وتعليم ديني آخَر، وإحياء لثوابت الدين في حرمة الدم والسكن والكرامة، وفي استعادة أخلاق التماسك والوداعة والثقة بين الناس، والتربية المختلفة. وهذه ليست مواعظ، بل إنها واجبُ أهل الدين من أجل «حفظه على ثوابته المستقرة وأعرافه الجامعة». ولن تستطيع الهيئات الدينيةُ (عدد العاملين في مختلف مجالاتها يصل إلى 3 ملايين في الدول العربية الكبرى فقط: السعودية ومصر والمغرب!). هل تستطيع المؤسسات الدينية القيام بذلك في المدى المتوسط؟ إنه اختبار عظيمٌ لأجل الدين، قبل أن يكون اختبارا لأهل الدولة، الذين يكون عليهم بدورهم استعادة الرشد إلى إدارات الشأن العام، لإسقاط أوهام ضرورة الدولة الدينية التي تقودها الجماعات العنيفة.
* نقلا عن “الشرق الأوسط”