حين نزل الإمام الشافعي عاصمةَ الخلافة العباسية بغداد, أحب تلامذة أبي حنيفة النعمان أن يلتقوا به لِما سمعوا عنه من علمٍ في الأدب والفقه , وأحب الإمام الشافعي مقابلتهم والحديث معهم, وقد جرى الحديث في بداية الأمر على أتم وجه إلى أن قال الشافعي لهم: أنا أختلف معكم في بعض الأمور وأختلف معكم في بعض الأمور الأخرى, فردوا عليه: دعنا من الاتفاق ولنبدأ بالاختلاف , قال أنتم تأخذون بالرأي وبالقياس , ثم تقولون: يجوز للمؤمن أن يكون مؤمنا دون أن يفعل أو يعمل الأعمال الصالحة, قالوا: أجل, قال وما دليلكم؟قالوا لقوله تعالى في القرآن:
“إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَيَجْعَلُ لَهُمُ الرَّحْمَنُ وُدًّاِ” مريم 96,والآيات التي تتحدث في القرآن عن الذين آمنوا وعملوا الصالحات كثيرة جدا, فقال,وكيف تفسرونها, قالوا هنا: إن الذين آمنوا , عبارة عن جملة مستقلة بحد ذاتها, والذين عملوا الصالحات جملة أخرى, أي أن ال(و) أداة فصل جملة عن جملة وليست عطف جملة على جملة, فابتسم الإمام الشافعي وقال: أنتم بهذا جعلتم للكون أكثر من إله,قالوا وكيف!, قال لو صح قولكم لكان للكون أكثر من رب, لقوله تعالى: رب المشرقين ورب المغربين فبأي آلاء ربكما تكذبان..سورة: الرحمن.
هنالك من يفصل بين العمل والإيمان, فمن الناس من يروا أنه يجوز أن يعمل الإنسان أعمالا صالحة حتى وإن كان زنديقا أو كافرا أو ملحدا, وبصراحة أولئك الملاحدة الذين يعملون أعمالا خيرية لصالح البشرية كثر, يهتمون بالفقراء وبالمرضى وبالمحتاجين وبالضعفاء, وهنالك مؤمنون في الله جدا ولا يعملون أعمالا صالحة ولا يمكن أن تستفيد الناس من إيمانهم أي شيء على الإطلاق, بل على العكس نجد أغلبهم يسيئون الجوار ويؤذون الناس ولا أحد يسلم من شرهم, رغم أن وجوههم تشع بالإيمان, سواء أكانوا يهودا أو مسيحيين أو مسلمين, ليس شرطا أن يعمل المؤمن أعمالا صالحة ترضى الله وترضي الناس, ثم أن عمل الخير في جملته عملٌ معقد, فمثلا حين تفعل أنت الخير مع سين أو صاد من الناس من الممكن أن تكون انعكاسات هذا العمل على غيره شرا كبيرا ومؤذيا, أي أنك من الممكن أثناء تقديم عمل الخير لأحد الناس أن تؤذي بهذا العمل إنسانا آخر لا يحب أن تفعل الخير مع عدوه أو غريمه, وعلى فرض أن عمل الخير انعكاسه خيرا على كل الناس تبقى هنالك مسألة الإيمان مسألة معقدة جدا, فكثيرون هم المؤمنون الذين يفعلون الشر وكثيرون هم المؤمنون الذين لا يفعلون الخير للناس ويكنزون الذهب والفضة ولا ينفقونها على أعمال الخير, وكثيرون هم الضعفاء في إيمانهم الذين يفعلون الأعمال الخيرية ليلا ونهارا وسرا وعلانية ولا يكذبون ولا يغشون الناس لا في السياسة ولا في الاقتصاد, وهنالك أناس يعتلون المنابر في خُطب الجمعة ويزنون ليل نهار ويكذبون ويغشون الناس, وهنالك فئة قليلة مؤمنة إيمانا راسخا وتفعل الخير للناس ولا يكذبون ولا يسرقون ولا يغشون الناس, على عكس بعض المؤمنين الذين يعتبرون الغش شطارة وموهبة من عند الله.
مثل هذه المدرسة الفكرية بين الشافعية والحنفية يقابلها مدرسة فكرية أخرى تتمثل بين البروتستانت والكاثوليك , فالبروتستانت لا يقيمون أي أهمية كبرى للعبادات بل يفصلون بين الإيمان وبين العمل, ويرون بأن الأعمال الصالحة ليست شرطا للإيمان المطلق وليس لها علاقة بالطقوس الدينية كالعبادة وتوابعها, بينما الكاثوليك يرون بأن الإيمان من صلب العقيدة ولا يمكن للإنسان أن يعمل الأعمال الصالحة إلا إذا كان مؤمنا جدا ويمارس العبادات بشكلٍ كبير, وتلتقي هنا المدرسة الوسطية بنفس الرؤيا والمنهج بين الإسلام والمسيحية, فالرأي الثالث يقول: بأنه من الممكن أن يعمل الإنسان أعمالا صالحة ولكنها ليست خالصة لله وليست منطلقة من حب الله أو من العمل الإيماني, ربما تكون لتلك الأعمال دوافع أخرى غير الإنسانية, فمن الممكن أن تكون مرآة أو لمصلحة شخصية, وعلى كل حال سواء أكانت لله أو لمصلحة ذاتية فمن المهم أن تلك الأعمال تخدم الناس والضعفاء والبسطاء, في حين ترى المدرسة المادية وعلى رأسها: النشوء والارتقاء, بأن مساعدة الضعفاء والفقراء أصلا جريمة كبرى تساهم في زيادة نسبة الضعفاء, لأن الضعفاء على الأغلب ينجبون ضعفاء مثلهم, ويجب إبادة الجنس الضعيف على مبدأ النازية الهتلرية, لكن هذا لا يبدو صحيحا في جملته, فأساس الحضارة الرأسمالية ترتكز على وجود الفقراء ولو أبيد الفقراء فمن المحتمل أن يأكل الأغنياء بعضهم البعض في غضون سنين قليلة, وكما قال آينشتاين: إذا انقرض النحل فمن المحتمل أن ينقرض الإنسان بعده بأربع سنوات أو أكثر بقليل, وأنا من هنا أقول: إذا مات الفقراء فإن عجلة الإنتاج ستتوقف نهائيا, وهنا يجب علينا أن نعمل الأعمال الصالحة وأن نساعد الفقراء والضعفاء من أجل أن تستمر سمفونية الحياة, وليس شرطا أن يكون الإيمان موجودا لنعمل أعمالا صالحة: فإننا ما زلنا نتلقى المساعدات الإنسانية من أناسٍ دينهم أصلا مختلفٌ عن ديننا, وطريقة ذبحهم للمواشي تختلف عن طريقة ذبحنا لها, نتلقى مساعدات أيضا من أناس ملحدين وغير مؤمنين, ونتلقى مساعدات من أناسٍ لا يصومون ولا يصلون سواء أكانوا مسيحيين أم مسلمين.
فما رأيكم دام فضلكم؟.