الإتحاد الاماراتية
قبل سفر أردوغان إلى طهران بساعات، صرح ممثل خامنئي في الحرس الثوري بأن سياسة تركيا في سوريا خلال السنوات الأخيرة، كانت تعاوُناً صريحاً مع إسرائيل! وعلى غير العادة، ما أجاب الأتراك على هذا الاتهام. أما في العادة؛ فإن الحكومة التركية كانت توحي لبعض المعلقين بالإجابة. وهذا ما حدث قبل أسبوعين، عندما كان الموضوع «جنيف2»، وهل تشارك فيه إيران أو لا تشارك. فوقتها صرح الأتراك بأنهم مع مشاركة إيران. لكن مسؤولاً إيرانياً في الخارجية ذهب إلى أن تركيا منافقة، وإلا لما كانت سياستها في سوريا بهذا السوء. وعلى هذا الاتهام أجاب معلق تركي أنه لم يبق مع نظام الأسد غير إيران وإسرائيل، ولا بد أن لهما مصلحة مشتركة في ذلك!
ليس بالضروري أن يعني تصريح ممثل خامنئي شيئاً كثيراً. لكنه يشير إلى الملفات الخلافية المفتوحة بين إيران وتركيا. وهي تشمل الوضع في سوريا ومصالح الطرفين المتناقضة فيه. كما تشمل المصالح المتناقضة في الوضع الكردي، وفي الوضع العراقي. وتشمل أيضاً تدخل إيران في وضع العلويين بتركيا وبسوريا!
يستطيع أردوغان بالطبع أن يشير إلى مساعدة تركيا لإيران في الملف النووي ووساطتها للتسوية. كما يستطيع أن يقول لروحاني إن حكومته خالفت الحظر والحصار على إيران، وورّدت واستقبلت المحظورات من إيران، وحتى ابنه (أي ابن أردوغان) متورطٌ في التهريب إلى إيران ومنها. وهذا جزء مما يحاول فتح الله غولن -الذي يجامل الأميركيين وإسرائيل- توريطه فيه أمام القضاء! ويضيف الصحفيون الأتراك أن أردوغان أخذ معه سجلات الاتصالات والمعلومات عن تحريض الجنرال سليماني لحزب العمال الكردستاني القابع في جبل قنديل بالعراق، على نقض الاتفاق مع حكومة أردوغان الذي أُبرم قبل عام. وما اكتفى سليماني بذلك بل أَرسل كتائب من حزب العمال إلى سوريا للاستيلاء على المناطق الكردية العربية على الحدود التركية، وحرض أكراد الحدود على إقامة كيان مستقل. وما اكتفى سليماني بذلك بل دخل بين علويي سوريا وعلويي تركيا. وشاركت الاستخبارات الإيرانية في دعم أحزاب المعارضة، خاصة حزب الشعب الجمهوري، وهو حزب المعارضة الرئيسي، للانتفاض على حكومة أردوغان وزيادة متاعبه!
ويقدر الصحفيون الأتراك أن الإيرانيين سينكرون حصول شيء من ذلك، وسيتطرقون إلى علاقات أردوغان المتوترة مع المالكي، وإلى تعاون الحكومة التركية مع البارزاني لتصدير النفط من ميناء جيهان التركي، من دون إذن حكومة العراق. وسيشدّدون على ضرورة تعامل أردوغان مع الأسد بموضوعية؛ خاصة أن سقوط نظامه يخدم إسرائيل وينصر الإرهاب.
لقد كانت العلاقات التركية الإيرانية سمناً على عسل حتى عام 2011، عام اندلاع حركات التغيير العربية في كل مكان، خاصة في سوريا. ولأن أردوغان كان يراهن على الإسلام السياسي (الذي ينتمي إليه)، فقد تموضع سريعاً (بعد خيبة مؤقتة في ليبيا) في مصر وسوريا وتونس. وشعرت إيران بالقلق الشديد حتى قبل وصول الثورة إلى سوريا. وما اطمأنّت بعد بروز «الإخوان»، لأن تركيا كانت قد سبقتها إليهم. وقد حاول «الإخوان» المصريون إرضاء الإيرانيين بكل سبيل على أي حال. واشتد قلق الإيرانيين مع بدء الاضطراب في سوريا، لأن الأتراك سارعوا لإقامة المخيمات، واستقبلوا المعارضة بل استقدموها. وتواصل الإيرانيون معهم، فقالوا لهم إن الأسد لا بد أن يغيِّر، ولا بد من إشراك المعارضين ومن ضمنهم «الإخوان». ويومَها كان أردوغان لا يزال مطمئناً إلى تعاوُن الإيرانيين في الملف بل الملفين السوري والعراقي. وقد قال أمامي كلاماً معناه أنه زعيم السنّة، وخامنئي زعيم الشيعة في المنطقة، وسيسويان الأُمور فيما بينهما، وحتى نحن اللبنانيين علينا أن لا نقلق من إقصائنا وإحلال حكومة لـ«حزب الله» والأسد برئاسة ميقاتي محلنا! لكن الأمور تردَّت، واندفع الإيرانيون لاستنقاذ الأسد، واندفع أردوغان الشاعر بالخديعة في مواجهة الأسد بالتعاوُن مع دولة قطر، بعد أن تعذر عليه إثارة حماس السعوديين الذين ظلّوا شديدي الشكّ فيه لسوابقَ في الإخلاف بالوعود والعهود. وقد كان عام 2013 قاسياً على الأسد والإيرانيين والمالكي، وهو الذي اضطرهم وبمساعدة الروس إلى الانستار والتأجيل بمقررات جنيف1.
وبدأت حملة سليماني المضادة في مطالع عام 2013: أرسل قوات «حزب الله» إلى سوريا، وزادت أعداد الحرس الثوري بالبلاد، وجند آلافاً من الشيعة العراقيين، وسلّح مع نظام الأسد حزب الشعب الكردستاني من العراق وسوريا للاستيلاء على القرى الكردية على الحدود مع سوريا. وأيقظ في بعض الأوساط العلوية بتركيا الخوف من إسلامية أردوغان، ومن خطر الإسلاميين عليهم في سوريا. وردَّ الأتراك المحشورون بتوثيق التعاون مع البارزاني في مواجهة المالكي، وإيواء الهاشمي الهارب من المالكي، واعتبار السنّة العرب والتركمان فئات مظلومة تستحق الدعم من تركيا والعرب. واستمر التردّي في العلاقات بين الدولتين بسبب تكاثُر ملفّات الصدام. ومع أن وزير الخارجية الإيراني ظريف زار تركيا مرتين بعد انتخاب روحاني، وذهب أحمد داوود أوغلو مرة إلى طهران؛ فإن العلاقات لم تتحسن، وإنما عبّر الطرفان عن آمال بإعادة الأمور إلى مجاريها في العهد الجديد. وبسبب التوتر وفقد الثقة؛ فإنه عندما بدأت المفاوضات السرية بين إيران وأميركا؛ فإن الإيرانيين فضلوا أن تكون في عُمان بدلاً من إسطنبول أو أنقرة.
وهدأت العلاقاتُ بعض الشيء في الأشهر الثلاثة الأخيرة، لأسباب عدة: تزعْزُع أنصار أردوغان من «الإخوان» في مصر وتونس، وتعاظم متاعبه الداخلية، والاشتباك مع الحكومة المصرية الجديدة ومع دول إقليمية أخرى مهمة، وكثرة متاعب أردوغان مع الأكراد في العراق وتركيا وسوريا بتحريض من إيران. ثم إن الإيرانيين أرادوا إظهار وجه جديد في عهد روحاني بعد الاتفاق النووي، خاصة مع تركيا التي لم تضايقهم أثناء الحصار رغم أن الحرس الثوري ضايقها. لذلك؛ فإن زيارة أردوغان إلى إيران تُعتبر تراجُعاً من جانبه عن سياسات المواجهة. وإيران من جهة أخرى محتاجة إلى من تتحدث معه من المنطقة بعد إقصائها عن جنيف2. والانفصالية الكردية خطر على الاثنين. والفشل الإيراني والتركي مع العرب مشترك، ولا بد من حل في العراق وسوريا ولبنان، ولا بد من مقاربة تصالحية مشتركة مع العرب، تحتاج إلى طرف ثالث، لأن الإيرانيين والأتراك على حد سواء لا يستطيعون الحديث مباشرة بعد إساءاتهم وتدخلاتهم ضد العرب في السنوات الماضية!
هناك ملف واحد يمكن لأردوغان أن يتفق عليه بسرعة مع الإيرانيين، هو ملف الاستيراد والتصدير والتبادل التجاري. ومع تراجع قسوة الحصار على إيران، يمكن فتح القديم، واستكشاف آفاق جديدة. أما الملفات الأخرى فكلها تحتاج إلى «انسحابات» من الطرفين، ومن سوريا والعراق، والملف الكردي. فهذه القضايا كلها «مناطق نفوذ» اقتحمها الطرفان في العقد الأخير، وتقع كلها في المشرق العربي أرضاً وسيادة. وقد كانوا قبل عام 2010 يتشاورون في التقاسُم، ثم قامت الثورة السورية فاضطرب على إيران وتركيا كل شيء. فهل يعيدان تنظيم العلاقة بالانسحاب المتبادل، أم تظل أَوهام التقاسُم على حساب العرب سائدة في علاقاتهما؟!