أسباب إنفصام شخصية المُسلم / 6
مَنْ لم يُحرّكهُ الربيع وأزهارهِ , والعود وأوتارهِ
فاسدُ المزاجْ ….. ليس لهُ علاجْ !
( الإمام الغزالي )
*****
ثمّة فاصل قصير من العزف المُنفرد على العود , بعدهُ تطرق هذهِ الحكمة الجميلة أسماعنا , ولبضعة مرّات يومياً من إذاعة ال BBC
والذي لا يعرف عن الغزالي سوى إسمهُ , فحتماً سيظّن أنّهُ رجل دين مُتفتّح العقل , مُتصالح مع نفسهِ وحياتهِ والمباديء التي يؤمن بها .
لكن عودة خاطفة لتأريخ هذا الرجل سنجده مُجسداً حقيقياً لكل تناقضات الأمّة , وإنفصام شخصية رجل الدين عموماً والمُسلِم خصوصاً .
والسبب الرئيس معروف طبعاً ,لكن لا أحد يُفكّر بالإقتراب منه !
والغزالي بالذات قد مرّ بمرحلتين رئيستين متناقضتين في حياتهِ .
(وربّما عاد أواخر سنينهِ الى ما بدأ به دون أن يُعلن ذلك على الملأ )
الأولى / ولعه وميله الى الفلسفة والعقل والإجتهاد ( والمعتزلة ) في بداية أمرهِ .
الثانية / إنقلابهِ فجأةً ب 180 درجة وإعتناق المذهب الأشعري الذي يلغي دور العقل , ويفضّل النقل والتسليم للنصوص .. دون جدل .
مثلهُ في ذلك مثل / البيهقي والسيوطي والعسقلاني والقرطبي والسبكي والنووي ( وبالطبع هذا الأخير ليس صاحب السلاح النووي الإيراني ) .
يجدر بالذكر أنّ هذا الإنقلاب في فكر الغزالي ما كان ليحصل , لولا أنّهُ رأى حُلماً قلبَ حياتهِ رأساً على عقب !
وهذا مُختصر بسيط عن الرجل وسأعتبر هذهِ الورقة مكملّة ( ج 6 ) للموضوع الذي بدأتُ الكتابة عنه منتصف هذا العام ( أسباب إنفصام شخصية المُسلم ) .
علماً أنّ أغلب هذا المختصر منسوخ من مقالة للدكتور كامل النجار سأضع رابطها لاحقاً .
*****
أبو حامد الغزالي ( 1058 ــ 1111 م ) , وُلَدَ في طوس من أعمال خراسان .
تأثّرَ بداية نشأتهِ بالفلسفة ورجالها والعقل والمنطق وعلومهم .
لكن ذلك لم يدُم , فقد إنقلبَ على الفلسفة كلياً .
في سن ال 33 أصبح الغزالي مُعلماً بالمدرسة النظامية ببغداد .
كانت مهمته الدفاع عن المذاهب السنية في وجه المذاهب الشيعية .
وبعد إنقلابه على الفلسفة ,هاجمها والفلاسفة في كتابه (تهافت الفلاسفة) .
ثمّ أصابته حالة نفسيّة كادت تودي بحياته نتيجة تفاعلات ما يُمليه عليه عقله الفلسفي , وما ينطق به من عقله الأشعري .
وبسبب هذه الحالة النفسيّة المُزرية ,لم يتمكن من البلع أو الكلام لعدّة أسابيع .
وأخيراًهداهُ الله (كما يقول) إلى التصوف فساحَ في الأرض مع المتصوفين
وسكن في دمشق وفلسطين وفارس , قبل أن يرجعَ إلى بغداد !
وأخطر ما ذهبَ إليه الغزالي أنه نفى السببيّة .
وقال مثلاً : أنّه لا توجد علاقة أو سببية بين النار وحريق القطن الذي يوضع على النار .
لأنّ الله هو الذي جعل النار تلمس القطن ويغير لون القطن إلى الأسود
ثم يجعله رماداً بواسطة الملائكة أو بدون واسطة .
وبإمكان الله أن يفعل غير ذلك ويجعل النار تمس القطن دون أن تحرقه ! ثم ما هو الدليل على أن النار هي التي تحرق الأشياء ؟
الفلاسفة ( حسب رأيهِ ) لا يملكون أيّ دليل على ذلك غير ملاحظة تغيير لون القطن عندما تمسّه النار .
ولكن الملاحظات تُبرهن فقط ,على توأمة الأشياء مع بعضها البعض ولا تُثبت السببية . فليس هناك أي سبب غير الله !
( و لا أدري بماذا كان سيُجيب عن قضية تأجير الأرحام في السعودية هذهِ الأيّام ؟ )
ويقول كذلك ما معناه: الربط بين ما يعتقد البعض أنه السبب , وبين ما يعتقدون أنه النتيجة / ليس ضرورياً في رأينا .
فليس هناك أي علاقة بين إطفاء الظمأ وشرب الماء .
أو بين الشعور بالشبع وأكل الطعام .
أو بين شروق الشمس وسطوع الضياء .
أو بين قطع الرأس والموت !
العلاقة الظاهرة بين هذه الأشياء ناتجة عن إرادة الله المُسبقة التي خلقت هذه الأشياء مُلتصقة ببعضها .
لكن هذا لا يعني أنّه لا يمكن فصلها عن بعض .
فبإمكان الله أن يخلق في الإنسان الشعور بالشبع دون أن يأكل طعاماً .
أو يستمر الإنسان في الحياة بعد أن يُقطع رأسه !
ويستمر الغزالي فيقول :
إنّه ليس من الضروري أن يُخلق الحصان من الحيوان المنوي .
ولا الشجرة من الحبة ( أو البذرة ) .
إذ يُمكن أن يُخلق الحصان والشجرة من لا شيء !
*****
ولأنّ العقل يُحفّزنا إلى أن نسأل ونكتشف الأشياء غير الملموسة .
إعتبره (( الغزالي )) عدو الإسلام الأول .
لأنّ الإسلام ( حسب رأيهِ ) يطلب من المسلم الرضوخ الكامل والإمتثال لأوامر الله بدون أي تفكير في الأسباب .
وبسبب شهرة الغزالي وتعاليم الأشعرية إنتشر الجمود الفكري في البلاد الإسلاميّة حتى وَصَلَ إلى الأندلس .
فالمُفكّر الظاهري ( أحمد بن حزم ) يرفض القياس لأنه يعتمد على العقل .
يقول :
“لا شيء خيّر في ذاته ولكن الله جعلهُ خيراَ، ولا شيء شرٌ في ذاته لكن الله جعله شراً. فالعمل الذي نعتبره خيّراً قد يصبح شراً إذا أراد الله له ذلك، والعكس صحيح.”
ويقول :
“فإذا أخبرنا الله تعالى بأنه سوف يعاقبنا بأفعال غيرنا، أو بسبب طاعتنا له، فإن ذلك يصبح عدلاً من الله وعلينا القبول به.”
بينما / فخر الدين الرازي (ت 1209) وهو من أتباع المدرسة الأشعرية أيضاً ,يقول :
“إنه من المقبول في معتقدنا أن الله تعالى يمكنه أن يُدخل المُذنبين إلى الجنة والمُحسنين إلى النار ,لأنّ صاحب القرار هو وحده ولا يستطيع أحد أن يمنعه.”
***
والسبب في أن الغزالي والظاهري والرازي والأشعرية عموماً قد رفضوا فكرة السببيّة , هو شعورهم التالي :
لو كانت المُسببات تؤدي إلى النتائج المعروفة حتماً , يُصبح فعل الله ناتجاً عن ضرورة وليس عن إرادة حُرّة يمكنها تغيير النتيجة !
*********
الخلاصة
بسبب آراء المدرسة الأشعرية المُتبنيّة والمتشدّدة للنقل ,من دون العقل والمنطق والفلسفة والقياس والتفكير .أصبحنا نخشى السؤال عن أيّ شيء جديد .وإزداد تناقض وإنفصام شخصية المُسلم عموماً .
ولاحظوا إنفصام شخصية الغزالي نفسه في تفسيرهِ للحج مثلاً , يقول :
[ إنّ ما يقوم به الحاج من ركضٍ بين الصفا والمروة وبقية الطقوس .لا يقبلها العقل ولا يستسيغها .لكن القيام بها يُثبت عبودية الفرد لله ! ]
هكذا إضطر هذا الرجل الى إلغاء دور العقل . حتى أنّهُ حرّم الرياضيات كونها تعتمد على المنطق .
كذلك قام الغزالي بتكفير فلاسفة الإسلام المُتأثرين بالفلسفة اليونانية في ثلاث مسائل وبدّعَهم في 17 مسألة .
وألّف كتاباً مخصوصاً للرّد عليهم في هذه ( ال 20 مسألة ) , أسمّاه تهافت الفلاسفة .
هاجمَ فيه الفلاسفة بشكلٍ عام , والمسلمين منهم بشكلٍ خاص .
وعلى الأخصّ / إبن سينا والفارابي ,فقد هاجمهم هجوماً شديداً !
لذلك قيلَ عن الغزالي / أنّهُ قضى على الفلسفة العقلانية ( أو قتلها ) في العالم العربي منذ وقتهِ ولعدة قرون متواصلة .
الى أن جاء بعده (( إبن رشد )) ,وهو طبيب وفيلسوف وفقيه وقاضي وفلكي وفيزيائي شهير . فرّدَ على الغزالي في كتابين أساسيين هما :
1 / فصل المقال فيما بين الحكمة والشريعة من الاتصال .
2 / تهافت التهافت .
وشخصياً لا أعرف موقف ( علماء ) الدين / مع أيّ الرجلين هم اليوم ؟
أمّ أنّ التناقض الواضح بين أفكارهم لا أهميّة لهُ على عقول العامة ؟
***
على كلٍ , في أواخر حياته ( عاش 53 عام فقط ) عاد الغزالي الى مكان مولدهِ طوس فسكن فيها , وإتخذ جوار بيتهِ مدرسة للفقهاء , وخانقاه ( أيّ مكان للتعبّد الصوفي والعزلة ) .
وأظنّ أنّ المفردة المصرية ( الخانكة ) مأخوذة من الخانقاه .. والله أعلم !
****
رابط مقال د. كامل النجار الإسلام منظومة سياسية لا يمكن إصلاحها 1-2
تحياتي لكم
رعد الحافظ
26 نوفمبر 2013
بداية تحياتي لك ياعزيزي رعد الحافظ وتعقيبي ؟
١: بكل بساطة لإيلام الانسان المسلم ان وجد فيه مثل هذا التناقض الصارخ مادام مصدر وحيه وديدن عقله القران ، حيث نجد مثل هذا التناقض الواضح والصارخ في شخصية محمد نفسه تماماً كالغزالي حيث انقلب 180 درجة بدليل مافي القران من تناقض في الآيات خاصة بين الآيات المكية والمدنية ، ومثل هذا الفكر يستحيل ان يكون مصدره من الله الذي يناقض كلامه في ليلة وضحاها والملوك لا تفعلها ولو كان في الامر فناها ؟
٢: بعيدا عن التاريخ لنتأمل واقعنا نفسه حيث نجد مثل هذا التناقض الواضح والصارخ وضوح شمس الظهيرة خاصة بين الشيوخ ، حيث نجد في غالبيتهم مثل هذا الانقلاب في شخصيتهم وهو حسب هوى الحكام والملوك والسلاطين ، وطز في كل قيم الانسانية مادامت لا تخدم نوازعهم وشرورهم وتتفق مع جوهر الدين ؟