بقلم مالك العثامنة/
هناك كثير من الأتراك في أوروبا، كثير إلى حد أنهم يشكلون مجتمعات “أقلية” متكاملة تنسج بذكاء علاقاتها مع محيطها الأوروبي باندماج متفوق، وتحافظ على خصوصيتها ضمن أحياء سكنية معروفة أنها الأغلبية فيها.
قبل أشهر، كنت الراكب الذي شاء قدره أن يكون سائق التاكسي الذي يقله تركيا من إسطنبول، وهو رجل خمسيني أنيق بشكل لافت ويتحدث الإنجليزية بلكنة مكسورة ويتقن الهولندية كأهلها ومحب للحياة كما جاء في سياق حديثنا الطويل في المشوار الأطول على الطريق.
الرجل بعد أن تعارفنا والتقط أني صحفي “عربي” مهاجر إلى أوروبا، سألني سؤاله الذي توقعته فورا “ما رأيك في أردوغان؟”.
لا يمكن للعربي الواقع تحت متلازمة “أردوغان” أن يرى فيه رئيسا علمانيا لدولة علمانية
حاولت بكل دبلوماسية أن أشرح “رأيي” الشخصي عن الرئيس التركي، محاولا “بخبث” أن أتلمس مواقف الرجل كي أخفف حدتي لو زادت، فنحن في النهاية على الطريق والعلاقة قائمة على أساس أني مجرد راكب تحت قيادته.
مراوغتي الدبلوماسية لم تنجح، فقد قاطعني الرجل ليحدثني عن نفسه أولا، بأنه مهاجر إلى بلجيكا منذ كان في العشرين من عمره (هذه ثلاثة عقود هجرة على الأقل)، وأنه أيضا ليس إسلاميا بل ليس ملتزما بالدين أساسا والإيمان بالنسبة له قضية شخصية بين الإنسان والرب! وأضاف أنه شريك في مرقص ليلي في المنطقة المجاورة وهو نفسه مدرب رقص لاتيني!
تلك كانت مقدمة ذكية منه للدخول في أسباب دعمه للرئيس التركي رجب طيب أردوغان، وهي أسباب كثيرة ذكرها الرجل لا علاقة بين أي منها بالدين الإسلامي، ولم يذكر الرجل إشارة واحدة لأردوغان كزعيم ديني!
مجمل الأسباب التي ذكرها سائق التاكسي الخمسيني كانت اقتصادية، فأردوغان في المحصلة حسب قوله، جعله يشعر بالفخر بقوميته التركية بعد أن كان يشعر بالخجل منها.. هكذا قال الرجل وأنا أستمع وأنقل الآن بإنصاف.
المعنى: رفع أردوغان منسوب الشعور بالقومية التركية، وهي ذات القومية التي أسقطت الخلافة العثمانية، ولكن مع كل ذلك، يرى فيه عرب الخبز الحافي والحشيش الديني والقمر الذي يرون فيه خليفة الإسلام المنتظر ومجدد أمجاد الباب العالي الذي كان العرب يحلمون بالوقوف على أعتابه متوسلين!
لا يمكن للعربي الواقع تحت متلازمة “أردوغان” أن يرى فيه رئيسا علمانيا لدولة علمانية، حتى لو خرجت قناة مثل العربية بمقابلة مع أردوغان نفسه ليؤكد أنه مع العلمانية وأن تركيا دولة علمانية.
في 2010، ألغى أردوغان زيارة إلى الأرجنتين لأن السلطات هناك منعت عرض تمثال لمؤسس الجمهورية العلمانية أتاتورك بضغط من جاليات أرمنية.
أردوغان، سياسي ذكي، يلتقط الإشارات وكأي سياسي محترف يلعب على تلك الأوتار بالكلمات، فهو يتحدث مشيدا بمؤسس الجمهورية في ذكرى وفاته، لكنه يلقي كلمات لا معنى حقيقيا لها عن حدود تركيا “العاطفية”.. تلك لعبة ذكية تشبه حقنة مورفين يحتاجها المدمنون على الإنشاء العاطفي.
ــــ
في صيف عام 2008، كنت مستشارا إعلاميا في الحكومة الأردنية وكنت محظوظا “ربما” في أن أشارك أول مرة بزيارة من تلك الزيارات الرسمية ضمن وفد حكومي رسمي، وأشهد لأول مرة ما كنت، مثل غيري، أسمعه في نشرات الأخبار “الرسمية” في عبارة: وتباحث الجانبان سبل التعاون المشترك!
رفع أردوغان منسوب الشعور بالقومية التركية، وهي ذات القومية التي أسقطت الخلافة العثمانية
في الحقيقة، لم نتباحث مع الأتراك يومها أي سبل للتعاون المشترك في اجتماعنا مع أحد أقوى وزراء أردوغان في حزبه العدالة والتنمية، وزير التجارة الدولي حينها كورشاد توزمان، بل كنا كوفد أردني يترأسه وزير عامل في الحكومة آنذاك، نتلقى تقريعا شديد اللهجة خلف الأبواب المغلقة من الحكومة التركية على “تعطيلنا” اتفاقية التجارة الحرة مع تركيا! الوزير “الأردوغاني” بامتياز، كان حاسما في حديثه معنا عن العلاقات التي يجب أن تكون مع دمشق وأن أنقرة ترى دمشق حليفا مهما لنا ولهم! مشيرا إلى علاقات تركيا المتينة مع إسرائيل والتي ستضيف ـ حسب حججه ـ قيمة مضافة إلى اتفاقيتنا الحرة مع أنقرة (الاتفاقية، على ما سمعت، ألغتها حكومة هاني الملقي الراحلة!).
عدت من تلك الزيارة أحمل كثيرا من التداعيات عنها، وكان أولها أن أنقرة تمارس فن الممكن إلى أقصى حدود التماس مع اللاممكن لتحقيق مصالحها، ومصالحها فقط، وهذا جيد.. بل جيد جدا للأتراك، والأتراك فقط.
موجز القول ومختصره؛
في الانتخابات التركية الأخيرة، والتي فاز بها أردوغان بنسبة مقبولة، وبكل وسائل فن الممكن المتاحة له كرئيس، كان كثير من العرب المحصورين بين الخليج ما غيره إلى المحيط إياه، يرون فيه “مهديهم المنتظر” ضمن عقدة خيبة متوالية لا تنقطع.
انتخب الأتراك رئيسهم “بصلاحيات رئاسية واسعة” ضمن منظومة دستور علماني بحت، ولا يزال الواهمون يحتفلون بالخلافة التي يتوهمونها في سياسي تركي محترف التقط الإشارة، وعزف عليها ما يشاء.
شبكة الشرق الأوسط للإرسال