العربي الجديد
كشف الحدث السوري، ويكشف ما يشهده العراق منذ شهرين، عن منطويات الواقع في المشرق العربي، التي أنتجها نظام سياسي، يستند إلى تكوينات ما قبل مجتمعية، تتمثل من خلال طوائف مغلقة ومتحجرة، حدثتها السلطات الحاكمة أمنياً، وشكلت منها أجهزة قمع كلية الصلاحيات، أمسكت بالدولة، من جهة، وأعادت إنتاج المجتمع، ليكون على صورتها ومثالها، من جهة مقابلة، وغدت نواة صلبة لنظام فئوي، تولت مراكز القرار فيه، فلا عجب إن أبدت مقاومة ضارية ضد ثورة الحرية، التي أطلقتها قطاعات واسعة من شعب سورية، والمطالب العادلة التي قدمتها قطاعات واسعة من العراقيين، الذين تعرضوا لمعاملة مجحفة وتمييزية، بعد الاحتلال الأميركي، وتسليم السلطة إلى موالين لإيران وأميركا، فاسدين وعديمي الكفاءة.
ومثلما رد النظام السوري على مطالب شعبه الإصلاحية بالعنف، بعد أن اتهمه، زوراً وبطلاناً، بالأصولية، ردت حكومة المالكي، من جانبها، بالعنف على مطلب المساواة في المعاملة والعدالة في توزيع الثروة، واتهمت من قدموه بالأصولية، واعتبرت قتلهم وتدمير قراهم ومدنهم “حرباً ضد الإرهاب”، على الرغم من تحذيرات متكررة، وجهها العراقيون إليها تقول: إنهم لن يبقوا ساكتين على البطش بهم. واليوم، يخوض النظامان، السوري والعراقي، حربين منظمتين ضد شعبيهما، ويعرض الأسد العون على المالكي، الذي كان قد أمده بعون ملموس، عسكري ومالي، مباشر وغير مباشر، طوال ثلاثة أعوام ونصف من الحرب ضد الشعب السوري. ولا غرابة، أيضاً، في أن يتحالف بشار الأسد مع نوري المالكي ضد ما يسميه الإرهاب، أي ضد رفض شعبي العراق وسورية إرهاب نظامي دمشق وبغداد. وللعلم، فإن الأسد يدعم المالكي لأن الأخير أسهم في إنقاذه، ومنع سقوطه نهاية عام 2012، حين أرسل مرتزقة عراقيين إلى سورية، لمشاركة حزب الله ومرتزقة إيران، في الدفاع عنه قبل ساعات قليلة من سقوطه، كما كشف حسن نصر الله في واحد من تصريحاته. أما كيف سيساعد الأسد نظام المالكي، الذي ينهار بسرعة، فهذا أمر يبقى سراً صعب الفهم، ما دام نظامه نفسه غارقاً حتى أذنيه، في الحرب ضد شعبه، وليس قادراً على مساعدة نفسه إلا بشق الأنفس، ناهيك عن مساعدة غيره.
يرد نظاما سورية والعراق بالطائفية على الحرية، وإذا كان صحيحاً أن من يقاتلهما تنظيمات أصولية، فهذا ليس شهادة، بل هو إدانة قاطعة لهما، إذ كيف لنظام ثوري /علماني/تقدمي/وحدوي، مقاوم، أن لا ينتج بعد خمسين عاماً من انفراده بالحكم وإدارة الشأن العام، غير الأصولية القاعدية، التي لم يكن لها أي وجود على الإطلاق، قبل استيلائه على السلطة في سورية؟ وما هذه التقدمية/العلمانية/ الوحدوية/ الثورية،التي لم تنتج غير نقيضها؟ وماذا يجب أن يكون حكمنا على نظامٍ انحدر بمجتمعه إلى دركٍ من التعصب والتزمت، جعل خياره الوحيد قاعديا وأصولياً؟ أخيراً، هل يستحق نظامٌ كهذا أن يستمر في السلطة، إن كانت الحرب الطائفية نتاجه الوحيد؟ وماذا يمكنه أن يفعل، بعد الآن، غير ما يفعله منذ ثلاثة أعوام ونصف العام، ردا على مطالبته بالإصلاح: إبادة مجتمعه، ومنعه من استعادة هويته الحقيقية مجتمع مواطنين لدولةٍ يتساوون أمامها في الحقوق والواجبات، ترفض التمييز بينهم، أو إنكار حقوقهم، أو إقصاءهم عن الشأن العام.
لا هدف لسياستي النظامين السوري والعراقي غير تحويل مطالب إصلاحية إلى حرب طائفيةٍ، ضحيتها الشعب المطالب بحريته وبالعدالة. وإذا كان الأصوليون يقاتلون النظامين لدوافع مذهبية وطائفية، فإن قتالهم هذا يضعهم خارج ثورة الحرية، ويجعل أنشطتهم جزءاً من حربٍ طائفيةٍ، يعاقب النظامان والإرهابيون، من خلالها، من طلبوا الحرية لجميع مواطنيهم بلا استثناء، بمن في ذلك المنتمون إلى أجهزة القمع السلطوية، والتنظيمات الأصولية.
ليست الأصولية جزءاً من ثورة الحرية، بل هي نقيضها، الذي يساعد النظامين في القضاء عليها. وقد آن الأوان لكي تنظم قوى الحرية نفسها، وتستعيد المبادرة لمجتمعٍ ثار من أجل العدالة والمساواة والكرامة الإنسانية وحكم القانون ودولة مواطنة معادية لأي شكل من أشكال العنف أو الاقتتال أو الصراع الطائفي أو الفئوي، ترى في الإنسان ذاتاً حرة تتعرف بحريتها، وليس بأي انتماء طائفي، أو فئوي أو طبقي … إلخ. وإذا كان النظامان الطائفيان في سورية والعراق قد نجحا في تغييب ثورة الحرية، فإن نجاحهما يلزم أنصارها باستعادة رهاناتها وجعلها البديل للطائفية ونظمها، التي لم تنتج غير الانحطاط المجتمعي والإنساني، السياسي والروحي، الذي يفرض علينا مواجهتها بكل تصميم، ومواجهة من يقاتلها باسم طائفيةٍ، لن تنتج بدورها غير المزيد من الموت والدمار والانحطاط.