يوميات صحفي … سائق تاكسي 4

يوميات صحفي … سائق تاكسي 4

محمد الرديني

بعبع المخابرات

ذات يوم…

تناقلت الصحف العربية والاجنبية ذات يوم خبر فصل 137 صحفيا عراقيا من نقابة الصحفيين العراقيين واعتبرتهم الحكومة العراقية السابقة التي اصدرت هذا القرار اما مأجورين او مرتزقة او مرتدين  ولان العراق كان ساحة اخبار لكل صحف العالم آنذاك فقد نشرت بعض الصحف العالمية هذا الخبر مع اسماء الصحفيين الذين شملهم هذا القرار وكان كاتب هذه السطور من ضمن هذه القائمة.
ولاني اعرف كما يعرف غيري ان هذا القرار يعني بالدرجة الاولى ان هؤلاء الصحفيين غير مرغوب فيهم وبالتالي فانه يعني –  اي هذا القرار-  ان اغتيال هذه الاسماء  غير المشروط بزمن محدد هو امروارد ايضا.
ليس هذا هو الخبر بل التفاصيل بعد التالية هي الخبر نفسه
وكان من الطبيعي ان يتخذ الواحد منا احتياطاته، لانه يعرف تماما ان القتل عند هؤلاء مثل  شربة ماء، كما تقول امي، ولهذا سارعت للاتصال بعمدة مديتنا “اوكلاند” وهي المدينة التجارية لنيوزيلندا حيث  حدد لي موعدا شرحت له فيه الوضع بالتفصيل.
وعدني العمدة خيرا، وطمأنني الى ان بلدا مثل نيوزيلندا لايمكن ان تبالي بهذه التهديدات.
لم تمض عشرة ايام حتى جاءتني رسالتين احدهما  من وزير الخارجية والثانية من عمدة المدينة
جاء في رسالة العمدة مايلي:
“لقد احلنا مخاوفك الى السيد وزير الخارجية الذي اكد انك  ستكون  في  مأمن من كل الادعاءات التي  نشرت في الصحف، كما خاطبنا الجهة المختصة التي لايخامرها شك في انك تعيش في بلد آمن ونؤكد لك ان الجهات ذات العلاقة قد اخذت الموضوع في غاية الجدية”
اما وزير الخارجية فقد ذكر في رسالته مايلي :
 “لقد  اهتممت  بموضوع رسالتك ونحن يهمنا جدا ان يعيش جميع النيوزيلنديين آمنين في بلدهم ، لقد اوعزت الى الجهات الامنية لتقوم بمسؤلياتها المفروضة في هذا الخصوص، ارجو ان تكون مطمئنا الى اجرائتنا”
اكرر ان هذا ايضا ليس لب الموضوع، فبعد وصول الرسالتين باقل من اسبوع رن هاتف البيت وسمعت صوتا من الجانب الآخر يقول:
” انا جوناثان كيفن من المخابرات النيوزيلندية ارجو اذا لم يكن لديك مانع ان تحدد لي موعدا لاقابلك بشأن رسالتك الى مستر موريس  وليمسون عمدة منطقكتم”.
وحددت له موعدا رغم ان الامر بدا لي غير مهضوم او بمعنى ادق غير مقبول لدخول طرف مكروه لايتمتع بحسن سيرة وسلوك في وطننا العربي على الخط.
جاء الضيف – غير المرغوب فيه – حسب الموعد وكانت الساعة آنذاك الثانية من بعد الظهر  تحدثنا طويلا، ولم يكن هذا هو  الخبر نفسه ايضا.
الخبرهو ان هذا الشخص كان في غاية الدماثة طيلة ساعة من الحديث، وفجأة قطع الحديث ليسألني عن موعد وصول الاولاد من المدرسة فقلت له انهم عادة يأتون بعد الساعة الثالثة بقليل رأيته ينهض قائلا:
 ” انها  الساعة الثالثة وخمس دقائق الان، لاشك ان الاولاد سيأتون في اي لحظة وعلي ان انصرف على ان ازورك في يوم اخر>
لم افهم ماقاله بالضبط وحين وجد الحيرة على وجهي قال ببطء ملحوظ:
”   حين  يروني اولادك هنا سيسألونك عني وسيمطروك بوابل من الاسئلة لااول لها ولا اخر حين يعرفون من انا، ولااريدك ان تتعرض لهذا الموقف كما لااريد ان يشعر الاولاد بالقلق لهذا  ليس من المستحب ان يروني هنا سأتصل بك لنحدد موعدا اخر.
غادر الرجل المخابراتي البيت وتركني شبه مذهول غير مصدق ما جرى ساءلت نفسي : هل حقا يعني هذا الرجل ما يقول ام انه يلعب احدى لعبهم المعروفة.  بصراحة لم اعثر على الجواب حتى الان لاني ببساطة لا اثق بكلام السلطة فلدي كما لدى كل افراد شعبي تراثا سيء الصيت عن هؤلاء الرجال
حين كنت اسمع القصص والحكايات التي تروى عن رجال المخابرات في بلادنا العربية اشعر اني محظوظ جدا فلم يتسن لي ان التقي بواحد منهم بعد ان تركت بلدي منذ اكثرمن ثلاثين عاما، ولكن المؤسف حقا اني وجدت نماذج مستنسخة منهم في بلاد الغربة  نماذج مريضة بداء الهلوسة المخابراتية او بمعنى ادق مرض الشيزوفرينيا الاستخباراتي او لنقل انهم خلقوا اما ليخافوا من تلك الهلوسة او انهم يحبون بشكل مطلق ان يكونوا  نسخة طبق الاصل من هؤلاء كما ان هناك انواعا من البشر خلقوا ليتوهموا انهم بشر من طراز خاص ، والخاص الذي اعنيه ليس امتيازا لهم ولاعبقرية وانما هو اشبه بذاك الذي يريد من الاخرين ان ينظروا اليه بعين العطف مهما كانت الاسباب ، انهم يستمدون وجودوهم الانساني من الضعف بكل ما تحمله هذه الكلمة من معنى ، بايجازانهم يريدون ان يحس الاخرين بضعفهم حتى يستدروا عطفهم.
ولان مثل هؤلاء البشر مؤهلون للاستكانة وليس لشيء اخر، فانهم يرون في كل شيء من حولهم  اشارة الى الرقابة والمراقبة ومادار في فلكهما اذ تجدهم في سنين حياتهم الدراسية الاولى  – في الابتدائية مثلا  – يكرهون مراقب الصف لانه ببساطة جاسوس المدير الذي وضعه في هذا المنصب ، وفي الاعدادية يكرهون الطلاب الاذكياء لانهم قريبون من الاساتذة وفي هذه الحالة فانهم مستعدون – اي الطلاب الاذكياء – ان ينقلوا اسرار الطلاب الخاصة ومايتناقلوه ضد الاساتذة من شؤون خاصة التي تتعلق – ربما-  بمشاكلهم الجنسية او غيره.ا
وفي الجامعة يبدأ التحزب الاهوج اوما يسمى بالشللية بعد ان تتلاقى مشارب الخوف مع بعضها عندهم  : فهذا الشاب سخيف لانه يركض وراء البنات وذاك منطو على نفسه ليقولوا عنه انه   عبقري ، اما ذاك الذي يحمل حقيبة  السمسونايت  فانه يتأهب ليكون معيدا بالجامعة  ثم ذاك وذاك وهذا …. الخ.
وبعد التخرج تبدأ مرحلة التآمر الوظيفي – هذا اذا اكمل احدهم الخدمة العسكرية الالزامية في المدة المحددة ، وهو مستحيل  – فالكل يريد ان ينهش الكل من اجل الكرسي، والكل يشعر بانه احق بمنصب المدير مهما جر ذلك المنصب له من متاعب  لماذا ؟ لانهم لايشعرون بوجودهم الا اذا جلسوا على كرسي الامر والنهي حتى ولو كان الذين يؤمرونه فراشا مغلوب على امره او موظفا من الدرجة الرابعة بعد العشرين، وحتى لو قدم هذا الكرسي لهم بالوكالة.
ولكنهم يكتشفون بعد زمن ان هذا الكرسي فتح عليهم عيون البعبع، فالفراش الذي يقدم لهم الشاي الصباحي  يعرف الكثير من خباياهم كما ان موظف الشؤون الذاتية يعرف سيرة حياتهم الوظيفية من الملف  البني اما القلم السري  * فهو قسم لايعلم مايدور بداخله الا قادة   الفصائل  والراسخون في كتابة التقارير الاستخباراتية ثم هؤلاء الذين يطلق عليهم اسم   انصارالنظام.
ولاتسأل عن حياتهم الزوجية ، فهم يعودون من العمل منهكي الاعصاب شاردي الذهن يمدون بوزهم ثلاثة امتارالى الامام ، نظراتهم تنتقل من البؤبؤ الى البؤبؤ كما ينتقل  رقاص ساعة الحائط  وتعتقد الزوجة المسكينة ان هذا الزوج يفني زهرة شبابه في الوظيفة، وما عداها فالكل يعرف ان زهرة هذا الشاب قد فنيت في امور اخرى ليست منها هذه الوظيفة بالتأكيد.
ويتفنن هؤلاء في رسم التعابير المحزنة على وجوههم فهم، كما قلنا، يريدون العطف ولاشيء غيره
ولهم بعد ذلك مواهب اخرى فهم يتفننون في ضرب طوق العزلة حولهم، ونادرا ماتجدهم يمدون ايديهم لصداقات جديدة فهم مثلا لاينادون على بعضهم باسمائهم المجردة وانما هم دائما اما ” ابو فلان” او” ابو علان ” ولست اجد تعبيرا ادق من تعبير القاص العراقي عبد الستار ناصر حبن نعتهم   بالخرفان  ولكن بآذان طويلة ولحية ذات اهداب قصيرة  انهم كذلك حقا ، حتى لحاهم تبدو مثل مزرعة “ابو داوود “*: الحشيش والبرسيم والكرفس والفاصوليا في مكان واحد.
والغريب في الامر تراهم يتراكضون في ايام الجمع الى المساجد لاداء فريضة الصلاة حتى اذا انتهت عادوا من حيث اتوا : عيون زائغة تراقب الاخرين باذان طويلة تلتهم همس الاخرين والمقربين، وسيقانهم النحيلة ترتجف مثل بوز الارنب راكضة نحو الظل تحتمي به ضد النور.
واذا اجبرت احدهم على الحديث فانه يكتفي بالقول وبصوت هامس لايكاد يسمع:
” ان الجو ممطر هذا اليوم”
وتضحك حين تسمعه يقول ذلك ، تضحك حد الجنون فانت تعرف ان ذلك الوقت الذي همس فيه ابو فلان هذا كان في عز الصيف ، وتسأل نفسك بعد ذلك :  اذا كان رب العزة قد خلق الانسان في احسن تقويم فلماذا يصر هذا المخلوق لأن يكون في اسوأ تقويم ؟
1 * القلم السري ادارة موجودة في الوزارات الجكومية ولها فروع في العديد من الدوائر الرسمية في الدول العربية والتي قد يتغير اسمها من مكان لاخر وهي ترتبط مباشرة بمدير الدائرة ومهمتها كتابة التقارير السرية عن خصوصيات وعموميات العاملين الذين لاتناشهم الترقية الا بامر من مدير هذا القلم الذي عادة مايكون سمينا اصلع الراس له شعيرات في وسط الرأس  فقط ويلبس البدلة السوداء حتى في حر تموز اللاهب.
2 * ابو داوود شخصية حقيقية كان يعيش في جنوب العراق ، مات دون ان يحقق حلمه في ان يكون فلاحا ناجحا

 

صورة طبق الاصل من رسالة وزير الخارجية *

 

صورة طبق الاصل من رسالة عمدة المدينة *

About محمد الرديني

في العام 1949 ولدت في البصرة وكنت الابن الثاني الذي تلاه 9 اولاد وبنات. بعد خمسة عشر سنة كانت ابنة الجيران السبب الاول في اقترافي اول خاطرة انشائية نشرتها في جريدة "البريد". اختفت ابنة الجيران ولكني مازلت اقترف الكتابة لحد الان. في العام 1969 صدرت لي بتعضيد من وزارة الاعلام العراقية مجموعة قصص تحت اسم "الشتاء يأتي جذلا"وكان علي ان اتولى توزيعها. في العام 1975 التحقت بالعمل الصحفي في مجلة "الف باء" وطيلة 5 سنوات كتبت عن كل قرى العراق تقريبا ، شمالا من "كلي علي بيك" الى السيبة احدى نواحي الفاو. في ذلك الوقت اعتقدت اني نجحت صحافيا لاني كتبت عن ناسي المعدومين وفشلت كاتبا لاني لم اكتب لنفسي شيئا. في العام 1980 التحقت بجريدة" الخليج" الاماراتية لاعمل محررا في الاخبار المحلية ثم محررا لصفحة الاطفال ومشرفا على بريد القراء ثم محررا اول في قسم التحقيقات. وخلال 20 سنة من عملي في هذه الجريدة عرفت ميدانيا كم هو مسحوق العربي حتى في وطنه وكم تمتهن كرامته كل يوم، ولكني تعلمت ايضا حرفة الصحافة وتمكنت منها الا اني لم اجد وقتا اكتب لذاتي. هاجرت الى نيوزيلندا في العام 1995 ومازلت اعيش هناك. الهجرة اطلعتني على حقائق مرعبة اولها اننا نحتاج الى عشرات السنين لكي نعيد ترتيب شخصيتنا بحيث يقبلنا الاخرون. الثانية ان المثقفين وكتاباتهم في واد والناس كلهم في واد اخر. الثالثة ان الانسان عندنا هو فارزة يمكن للكاتب ان يضعها بين السطور او لا. في السنوات الاخيرة تفرغت للكتابة الشخصية بعيدا عن الهم الصحفي، واحتفظ الان برواية مخطوطة ومجموعة قصصية ويوميات اسميتها "يوميات صحفي سائق تاكسي" ومجموعة قصص اطفال بأنتظار غودو عربي صاحب دار نشر يتولى معي طبع ماكتبت دون ان يمد يده طالبا مني العربون قبل الطبع. احلم في سنواتي المقبلة ان اتخصص في الكتابة للاطفال فهم الوحيدون الذين يقرأون.
This entry was posted in الأدب والفن. Bookmark the permalink.

Leave a Reply

Your email address will not be published. Required fields are marked *

This site uses Akismet to reduce spam. Learn how your comment data is processed.