من كتاب: حقوق العصر.. تحقيقات في جريمة ازدراء العقل و معاداة الإنسان.

brainshitingأسعدني كثيرا اكتشاف هذا الموقع.. و أسعدني أيضا اكتشاف أسماء كتاب أفاضل افتقدتهم منذ مدة. هذه فقرات من كتاب جديد صدر لي في مطابع امازون أقدمها للقارئ للحوار و الإثراء مع الشكر مقدما. كما أنني وضعت نسخة إلكترونية منه بمنصة
Payhip.    https://payhip.com/b/CMeU

[ حول أحداث العواصم الأوربية الأخيرة لسنتنا 2016، جرى في كثير من مناقشاتنا لهول الأعمال الإرهابية الفظيعة، محاولة تمييع الأسباب العقائدية في أسباب اجتماعية. مع أن نفس الأسباب الاجتماعية موجودة في كل العالم و لم تنتج هكذا إرهابا. و هذا النوع من التمييع أصبح الموضة المفضلة لدينا في كل تبريراتنا للجرم السادي و القاتل الموجود في صلب عقائدنا الدينية.
و للتاريخ، فإن ما يقال اليوم عن كون الإرهاب يَنْظَمُ إليه شباب غير أسوياء و ليس لهم أي تكوين ديني، و لا يعترفون بالقانون أساسا، و كونهم جاؤوا من أوساط المخدرات و الجريمة، ينطبق تماما على ما كان يقال في التكون الأول لجماعة المسلمين.. و هذا بالضبط ما نأخذه على أكابر قريش الذين استهانوا بخطر عقيدة التوحيد، و اكتفوا فقط بنقد الوضع الاجتماعي للمنخرطين في الدين الجديد.
فلنكن واضحين و إن قليلا.. و لنربط إما الدين بالمنكر في المجتمع، أيا كان ذلك المجتمع.. أو نربط الإرهاب بدين المجتمع، أيا كان ذلك الدين، حتى لو كان لادينية… أما أن نبقى في التعويم المقصود و المريح لكل الأطراف، فهذا و إن ساعد على الهروب إلى الأمام، إلا انه لا يغير مكان الجرف من أمامنا.
و سواء كان مصدر تلك العمليات الإرهابية، تنظيمات دينية تقليدية ( أتباع ديانات التوحيد العبرانية) أو تنظيمات دينية حديثة ( امتداد الفكر الديني التوحيدي في الفاشيات و الدكتاتوريات و الأنظمة الشمولية و أخيرا في بؤر النظام العالمي التوحيدي الجديد)..، و سواء كانت الخلفية الإيديولوجية للفاعلين و المدبرين على سواء هو توحيد العبيد أو توحيد السوق، فان المنطلق و الغاية شيء واحد لا يخرج عن الأصل الديني الأول:
قتل ما يميز الإنسان في الإنسان.. تحديد سقف حريته و إبداعه بتحري توحيد الناس و رصهم كالنعاج في زاوية من علف غذائي و فكري على الوصفة، و بدون ضمان أيضا.
و حسب أوضاع العلاقات بين الشعوب، فان الوقت قد حان الآن للتمييز بوضوح، و الاختيار الصريح الجريء، بين حماية حياتنا من هوياتنا، أو حماية هوياتنا من حياتنا.
ما نسميه اليوم هوية، هو أثر حضاري يطبع مجتمعا ما في مسيرة الحياة.. مجرد أثر و علامة، يدل على منعطف محدد في تاريخ جماعة.. إذا أوقفنا عليه شكلا واجب الدوام، و أسبلنا عليه صبغة القانون الطبيعي، فإننا نكون قد أوقفنا مسيرة الحياة بنا، و دخلنا رواق الموت الحضاري، بكل ما يعنيه هذا من شغب و ضجيج و تعطيل و قطع طريق و غزو مبارك في حق من أراد الحياة.
ستصير بهذا قوانيننا افتراضية في أصولها مستنبطة من منظومة الهوية مكتملة التصور سلفا، بدلا من أن تكون مستنبطة من مبادئ إنسانية جامعة، تؤطرها و توجهها في مستجدات التطور الطبيعي مسارا حثيثا غير متوقف عند أمة أو حضارة أو جغرافيا، و من يدري، عند كوكبنا العجوز…
فالأصول من مجال الفلسفة و ليست من مجال الثقافة.. ما نسميه أصولا عندنا ينبثق عن نصوص و رسوم و أعراف.. و هذه ثقافة. الأصول الحقيقية مبادئ و ليست وصايا و تعليمات و قوانين.
نظلم الوصايا و نظلم أنفسنا بها إذا أخذت مكان المبادئ، لأننا سنقع في وثوقية عصبية نلزم بها الزمان و المكان، و ندخل في خلافات مقدسة مجانية مع الآخر.. و هذا ما تريده الفوضى النظامية التوحيدية الخلاقة الجديدة، كما أرادته فوضى التوحيد التاريخي من قبل.
و نظلم المبادئ إذا تعسفنا في حقها و أنزلناها منزلة وصايانا.. لأننا نجيز بسهولة حينها وقفية الأخلاق كما في التوحيد القديم، أو نسبية الأخلاق كما في التوحيد المعاصر، في حين أن الأخلاق مبادئ.. لا توقفها ثقافة و لا ينسبها سياق.. ما يخضع للثقافة و السياق هو اتجاهات السلوك و الاستحسان الاجتماعي، أي القيم و منظوماتها المتغيرة باستمرار.. لقد حصل ذلك الخلط فعلا في كل الوثوقيات المغلقة.. بدأ بتنظيمات توحيد العبيد، مرورا بأنظمتنا الشمولية في كل العالم.، إلى نظام توحيد السوق، قمة الإبداع الديني المتناسب مع عصرنا منذ أخناتون إلى اليوم.. مدعما -بطبيعة الحال- بالجيوب الباقية إلى يومنا من تحولات التاريخ التوحيدي ممثلة في التنظيمات الأصولية من كل الثقافات.. يخفي كل هذا، وجود الشكل الموضوعي لخلافات ظاهرة صراعية عنفية أحيانا بينه و بينها و بين بعضها البعض، إمعانا في تعمية أولي البصائر مما يسمى بالمسلمين المعتدلين.
هذا الانسجام على الغاية و الهدف بل و في التحريات أيضا لتنظيمات تبدو سطحيا متنافرة تختلف ثقافيا و تتباعد منشئا، يفسر بدقة ما يفوح عبيره..، من تنسيق خفي بينها – عن غير ترتيب أو قصد بالضرورة، و لكنه التاريخ في صيرورته مع منطق الرداءة و رجالها، تقاطعا مع الدناءة و قوة كيدها بأيامنا- على نسف العالم العربي ببضاعته، و تخريب أوربا بارتداداتها الوسيطية، وتلهية الصين بلعبة غزو الأسواق إلى حين.
أخي القارئ.. إذا كان لابد لنا من أن نستعمل كلمة هوية، فلنستعملها في نطاق سليم مرحليا: هويتنا الحقيقية هي الإنسان، و مشروعنا الحقيقي هو الحياة.
و عن هذا المشروع الحقيقي تنبثق القوانين.. تفصل و تشرع للحياة.. غير أن المحذور سالف الذكر، و هو رفع الوصايا إلى مصاف المبادئ، جعل الناس عندنا يشرعون للموت.]
من كتاب: (حقوق العصر.. تحقيقات في جريمة ازدراء العقل و معاداة الإنسان.) لأحمد تاوتي

About أحمد تاوتي

أحمد تاوتي كاتب جزائري عصامي التكوين، اشتغل بالثقافة و الإعلام و النشاط المدني. من موليد 1962، أدرك طرفا من الزمن الجميل.. ثم عارك الزمن الجليل.. و هو اليوم سابح خارج الأزمنة جميعا، دارسا مفكرا و متأملا في الزمن العليل...
This entry was posted in دراسات علمية, فلسفية, تاريخية. Bookmark the permalink.

Leave a Reply

Your email address will not be published. Required fields are marked *

This site uses Akismet to reduce spam. Learn how your comment data is processed.