سأخون وطني 6

محمد الماغوط

اللوحة المسمارية

صوت: ألو … مقهى النخبة، هنا نيويورك. أريد أيوب العربي.
 أيوب: هو الذي يتكلم.
 الصوت: أنا الدكتور جافييه بيريز دي كويلار. الم تعرفني؟
 أيوب: مع الأسف.
 الصوت: ولو، أنا الأمين العام الجديد للأمم المتحدة. ما هذا؟ تكاد تنتهي مدة ولايتي ولم تعرفني أو تحفظ اسمي؟
 أيوب: بسيطة يا سيدي، فنصف الوزراء الذين يتحدثون باسمي وبيدهم لقمتي ومصيري لا أعرف أسماءهم، وبعضهم لا أسمع به إلا عند تشكيل الوزارة. على كل حال، أهلاً وسهلا، أية خدمة؟
 الصوت: تعرف أن الاستعدادت بذكرى الإعلان عن حقوق الإنسان قد بدأت.
 أيوب: أي انسان! الإنسان الآلي؟
 الصوت: لا. لا. الإنسان العادي الذي من لحم ودم ومشاعر. الإنسان الذي يزرع لنأكل، ويغزل لنلبس ويموت لنحيا.
 أيوب: وما علاقتي أنا بهذا الموضوع؟
 الصوت: إن الأمم المتحدة معنية هذا العام بإقامة احتفالها السنوي بهذه المناسبة في إحدى دول العالم الثالث.
 أيوب: ألم تجدوا سوى دول العالم الثالث مكانا للاحتفال بحقوق الإنسان؟
 الصوت: لا. لأن هذه الحقوق في تلك البلاد وخلافاً للتقارير ما زالت موضع شك. ولهذا وجّهت الدعوة إلى كبار الكتاب والفنانين والتكنوقراطيين للمساهمة في هذا الاحتفال ليأتي فيلماً وثائقياً وشهادة حية أقف من خلالها على واقع هذا الإنسان وطموحاته، وعلى العوامل التي تجعل وتيرة نموه أقل بكثير من طاقاته وإمكاناته. وأريدك أن تشرف عليه شخصياً من حيث استقبال المدعوين وملاطفتهم، وترتيب أماكن جلوسهم، ومراجعة كلماتهم. انني أعتمد كثيراً على خبرتك وحكمتك في نجاح هذا الاحتفال.
 أيوب: ولكنني تركت الأدب والسياسة منذ زمن بعيد.
 الصوت: هذا ليس موضوعاً سياسياً أو أدبياً، إنه موضوع إنساني . هل تخليت عن إنسانيتك أيضاً؟
 أيوب: لا. ولكنك فاجأتني بمهمة خطيرة ليس عندي أي استعداد نفسي أو معنوي للاضطلاع بها. ليس عندي حتى الثياب اللائقة لأظهر بها في هذه المناسبة.
 الصوت: سترتدي ثياب الأمم المتحدة.
 أيوب: حسناً . وزمان ومكان الاحتفال؟
 الصوت: كل هذه المعلومات ستصلك برقياً في حينه.
 أيوب: والتعويضات!
 الصوت: ستكون مغرية وبعملة البلد المضيف.
 أيوب: لا أنا يساري ولا أقبض إلا بالدولار.
 الصوت: وكيف صرت يسارياً بين ليلة وضحاها؟
 أيوب: كما صار الأستاذ محمد حسنين هيكل. هل هو أحسن من غيره؟
 الصوت: جهّز نفسك للسفر فوراً.
 * * * *
 أيوب: وما أن وصلت إلى مكان الاحتفال حتى هرع كبير الموظفين المكلّف بمرافقتي للاطلاع على كافة الاجراءات المتخذة، يشرح لي الآمال المعلّقة على هذا الاحتفال وسط بحر من الوفود والصحفيين والمصورين والمراسلين الذين تقاطروا من جميع أرجاء آسيا وافريقيا وأمريكا اللاتينية: هذا يعبيء غليونه، وذلك يشعل سيجاره، والذي يراجع كلمته، والذي يختصر منها، أو يضيف عليها، وضحكات من هنا وتعليقات من هناك. وما أن بلغت القاعة المخصصة للاحتفال حتى صرخت بمرافقي: ما هذه الفوضى؟ من سمح لهم بالجلوس بهذا الترتيب العشوائي؟
 المرافق: لقد اختار كل وفد مكاناً وجلس فيه وليس عندي أية سلطة تحول دون ذلك.
 أيوب: أما أنا فعندي مثل هذه السلطة. ثم من هؤلاء الذين يجلسون في الصف الأول ويلفون ساقاً على ساق بكل هذه العظمة؟
 المرافق: وفود من الدول العربية.
 أيوب: وماذا جاؤوا يفعلون بهذه المناسبة؟ من وجّه اليهم الدعوة؟ ما من مؤتمر أو مهرجان في مناسبة حقوق الانسان، أو حقوق الملاحة، أو حتى حقوق الفقمة.. إلا وتراهم جاهزين بكلماتهم وتوصياتهم وبرقيات تأييدهم واستنكاراتهم. يا إلهي. هل ينامون بثيابهم في المطارات؟ أخرجهم حالا من القاعة كلها، بل حتى لو وجدت في هذا المبنى ولو “تواليت عربي” سأقدم استقالتي وأنسحب.
 المرافق: ألا يمكن أن نسمح لهم بالبقاء ولو كمراقبين؟
 أيوب: مراقبين على ماذا؟ على حقوق الإنسان؟ هل أنت أجدب؟ هل يؤتمن الثعلب على الدجاج؟ هيّا … ليغادروا المكان، ولتقف جميع الوفود في الزاوية ريثما أعيد ترتيب الجلوس حسب هذه اللائحة التي أعددتها بنفسي. فهناك أصول ومقامات يجب أن تراعى في مثل هذه الأحوال.
 المرافق: وهذه لائحة يا سيدي بأهم البحوث والموضوعات التي ستلقى في الاحتفال. هل أتلوها عليك؟
 أيوب: طبعاً، وبسرعة.
 المرافق: كلمة الافتتاحة سيلقيها الدكتور خوريا موريا من الأرجنتين عن الجذور التاريخية لحقوق الإنسان عند جان جاك روسو. ثم يعقب عليه الدكتور غوهو موهو من أفريقيا الوسطى بمقولة ديمومة الإنسان لهيغل.
 أيوب: عظيم ولكن أسرع.
 المرافق: ثم هناك التكنولوجيا ومستقبل الإنسان.
 الاسطورة وخيال الانسان.
 الميثولوجيا وطقوس الانسان.
 فولتير وروح الانسان.
 بيكاسو وضمير الانسان.
 بريجينسكي وجسد الانسان.
 شوبان وشفافية الانسان.
 ثم بيتهوفن وعظمة الانسان. والحركة الرابعة من السمفونية الثالثة وقدر الإنسان.
 ثم آسيا تنهض.
 أمريكا اللاتينية تتمخض.
 افريقيا تتحفز.
 أيوب: عظيم . عظيم . والآن، يجب أن يكون ترتيب الجلوس على الشكل التالي:
 في الصف الأول: يجلس الحدادون والنجارون والسباكون واالمقاولون والمهربون وأصحاب الملاهي والكباريهات.
 المرافق: سيدي. ما هذا؟
 أيوب: لا أريد مناقشة أو اعتراضا من أحد فهذا الترتيب نهائي. وجاء نتيجة دراسة ميدانية في معظم أرجاء العالم الثالث. ثم، لو لم أكن موضع ثقة سيادة الأمين العام للأمم المتحدة لما كلفني بهذه المهمة، وأرجو عدم مقاطعتي بعد الآن.
 يليهم في الصف الثاني: أصحاب البنوك وتجار العقارات والموبيليا والمفروشات.
 يليهم: السفراء والقناصل ورؤساء البعثات الأجنبية.
 يليهم: القضاة والأطباء والمحامون والمهندسون.
 يليهم: الطلاب والمدرسون والمقررون والمفتشون.
 يليهم: العمال والفلاحون والحراس والليليون.
 يليهم: الحمالون وماسحو الأحذية والباعة المتجولون.
 يليهم: النشالون والجانحون وأرباب السوابق.
 وأخيراً، يليهم: الكتاب والصحفيون وأرباب القلم.
 ثم: ليوضع في مقدمة الجميع بوط عسكري.
 واحتفلوا وناقشوا بعد ذلك حتى يورق الصوان

‎محمد الماغوط (مفكر حر )؟‎

About محمد الماغوط

محمد أحمد عيسى الماغوط (1934- 3 أبريل 2006) شاعر وأديب سوري، ولد في سلمية بمحافظة حماة عام 1934. تلقى تعليمه في سلمية ودمشق وكان فقره سبباً في تركه المدرسة في سن مبكرة، كانت سلمية ودمشق وبيروت المحطات الأساسية في حياة الماغوط وإبداعه، وعمل في الصحافة حيث كان من المؤسسين لجريدة تشرين كما عمل الماغوط رئيساً لتحرير مجلة الشرطة، احترف الفن السياسي وألف العديد من المسرحيات الناقدة التي لعبت دوراً كبيراً في تطوير المسرح السياسي في الوطن العربي، كما كتب الرواية والشعر وامتاز في القصيدة النثرية وله دواوين عديدة. توفي في دمشق في 3 أبريل 2006.
This entry was posted in الأدب والفن. Bookmark the permalink.

Leave a Reply

Your email address will not be published. Required fields are marked *

This site uses Akismet to reduce spam. Learn how your comment data is processed.