رجل عادي

قصة قصيرة: محمد الرديني

انا رجل عادي… عادي الى حد ان اسمي يشابه مئات من اسماء الرجال في هذه المدينة وطولي يمكن قياسه على مئات رجال آخرين حتى اني لا احتاج الى ذكر قياسي الى اي صاحب محلات للملابس فهو يعرف تماما قياس قمصاني وسراويلي من اول نظرة فاحصة الى كتلتي الجسدية.

انا رجل عادي حتى في المأكل، فانا آكل مثل كل الناس بل اني اتناول وجبة طعام تعرفها كل الناس ايضا ولاحاجة لي لان اقول لكم ان الذي يقدم قائمة الطعام في المطعم الذي ارتاده منذ سنوات يعرف تماما ماذا اريد ولا يحتاج الا الى ايماءة من رأسه وهي التي يتقنها هؤلاء الناس الذين يعرفون طلبات الزبائن.

لست اريد ان اثقل عليكم لاني رجل عادي، والرجل العادي مثلي يشبه نسمة الصيف التي تمر سريعا من امام الاخرين. ولكن صادف ذات يوم ان هذه النسمة – اقصد انا- تباطأت في سيرها ولاتدهشوا من ذلك فهناك استثناءات لا احد يمكن تفسيرها.

كنت اتناول طعامي في المطعم الذي ذكرته لكم سابقا، لم يكن مزدحما في تلك الظهيرة على غير العادة وما كدت انهي طعامي حتى حانت مني نظرة من غير قصد الى الزاوية البعيدة من جهة يسار المطعم حيث ضوء الشمس كان يتغلغل الى سطح طاولة رمادية اللون.

قبل ان استرسل اود ان اقول لكم او بالحقيقة انقل لكم مايقوله علماء النفس عن تلك الغريزة الانسانية التي تتيح لانسان ما في لحظة معينة احساسا بان هناك من يراقبه او ينظر اليه بالحاح. رفعت رأسي ونظرت الى المائدة السابحة في ضوء الظهيرة لاجد امرأة تبتسم … نعم تبتسم، تنظر الي وتبتسم، وخلال الثوان التي مرت كنت اقنع نفسي بانها تبتسم لاحدهم يجلس خلفي لاني على يقين من لا احد ابتسم لي في حياتي عدا امي. وحتى امي انقطعت عن هذه العادة حين اصبحت ولدا يركض في الشوارع مع اولاد الحارة.

لا اخفيكم اني ارتبكت وفي مرات عدة كنت احدق في مائدة الطعام امامي كسبا للوقت عل ذلك يمنحني فرصة لايجاد مخرج من هذه الورطة.. اقول ورطة لاني فعلا لم اعتد على ان اكون في مرمى نظر اي انسان وخصوصا من الجنس الاخرولاني لم اجد اي تفسير لذلك فقد انسقت وراء احساس جميل اشعرني لاول مرة باني شيء ما في هذا العالم وان هناك من يتعقبني بنظراته.. انه احساس جميل فعلا ان تحس بامرأة ما تتابعك بنظراتها وقد تكون معجبة بك، هكذا ومن اول مرة وبدون سبب.

لعلكم تعرفون كيف تتصرفون في مثل هذه الامور كأن يسرع احدكم الى حيث هذه المرأة ويقدم نفسه ثم يبدأ يتحدث عن الجو الممطر او المشمش وزحمة المرور الخانقة وارتفاع الاسعار ثم يمر النادل من امامه صدفة ليناديه ويطلب عصير فاكهة ثم يسألها بود عن رغبتها بتناول شي ما ثم يتناول قائمة الطعام من على المنضدة متأففا ويقول ان الطعام هنا لاطعم له ومن الضروري ان يبحث المرء عن مطعم اسيوي يقدم الاكلات البحرية.

– هل تحبين الاكلات البحرية؟

– بالطبع انها مفيدة وسهلة الهضم

– اني اعرف مطعما قريبا من هنا ويسعدني ان ادعوك اليه

– حسنا انه شيء رائع

ويختتم الحوارفي المطعم الاسيوي وبعد ان يرتشفان ما تبقى من قهوتهما يكون هو قد استعد لمناورته الاخيرة، يسترخي على كرسيه قبل ان يقول:

– كان القريدس رائعا ارجو ان يكون رأيك مشابها

– طبعا لقد استمتعت كثيرا بهذا العشاء الفاخر، شكرا لك لقد كنت غاية في الطيبة

– لاشكر على واجب. انت ايضا كنت مدهشة في قبولك الدعوة التي ينقصها قهوة برازيلية

– قهوة اخرى.

– طبعا فالمأكولات البحرية يجب ان تختتم بقهوة برازيلية

– يمكن ان نطلبها هنا

– انهم لايعرفونها لاسيما وانا خبير في صنعها فهل نكمل السهرة في بيتي مع القهوة البرازيلية

– لم لا ان ختامها سيكون رائعا على ما اظن

– سترين

ويركبان في اول تاكسي.

اما انا فما زلت انظر الى هذه المرأة من طرف عيني أني ببساطة لست على استعداد للقيام بهذه الخطوات كلها.

انه فعلا امر محير، ماذا لو تقدمت اليها لاقول لها ان الطعام لذيذ في هذا المطعم ويكون الامر رائعا لو اعرف مقهى يقدم القهوة البرازيلية، ثم ، ثم ، ثم. وماذا بعد ؟ نعم ساقول لها اني اعرف مكانا ليس بعيدا من هنا ربما يقدم ما نريد؟ وماذا لو انه لايقدم هذه القهوة اذن علي ان افكر في الخطوة التالية، اني لا اعرف اي مقهى في هذه المدينة ولم يحدث ان شربت القهوة البرازيلية، حتى اني لا اعرف لماذا سموها بهذا الاسم.

يبدو ان المرأة تستعد لمغادرة المطعم، علي اذن ان اسرع والا ستختفي بين الناس ولن اراها مرة اخرى وحتى لو رأيتها في الشارع العام فاني لست مستعدا لدعوتها الى اي مكان لانها ستصرخ في وجهي

– وماهي المناسبة؟

وحينها ليس بوسعي ان اقول ايضا انك كنت تنظرين الي في المطعم القريب وربما كنت معجبة وانا لست اقل اعجابا. حينها ستستدعي اول رجل شرطة يمر من هناك وتطلب منه ان يلقي القبض على هذا المجنون وربما ستلقي عليه محاضرة طويلة في اهمال الشرطة لواجبهم في تشديد الرقابة على تجوال المجانين في الشوارع العامة.

لا، لابد ان افكر بشيء عملي، صحيح اني قليل الخبرة في التعامل مع مثل هذه المواقف ، وصحيح اني رجل عادي ولكن يجب ان افكر في شيء ما يجعلني افهم هذه النظرات الاتية من سيدة على شيء كبير من الجمال.

لانظر اليها الان ربما ستشجعني هي على اتخاذ الخطوة الاولى… يا الهي اين هي لقد اختفت؟ لابد انها ذهبت الى الحمام وسترجع بعد لحظات، فالنساء عادة يستعملن حمامات المطاعم والنوادي الليلية اكثر من الرجال، هكذا سمعت من احد زملائي في العمل ذات يوم. لانتظر قليلا لعلها ارادت بهذا الغياب السريع ان تمنحني فرصة ان الملم شجاعتي واكون جاهزا عند قدومها. اتعرفون انه سيكون من اكثر الامور تسلية في حياتي فانا – كما تعرفون- لست من النوع الذي يواجه مثل هذه المغامرات كل يوم . انها مغامرات حقيقية لايمكن لمثلي ان يعيشها الا مرة واحدة في العمر. اني اتعجب من هؤلاء الذين يعيشون مثل هذه المغامرات كل يوم، كيف يمكنهم ان يمتلئوا بهذا الاحساس الجميل الذي احسه الان، ماعلينا، انهم اناس اكثر من عاديين لايفرقون بين المرأة التي تنظر اليهم والمرأة التي ينظرون اليها.

هاقد مرت نصف ساعة وليس من المعقول ان تستغرق كل هذا الوقت في الحمام. لماذا لا اسأل هذا النادل، انه بالتأكيد يعرف من يدخل ويخرج من الحمامات؟ لا، انه سيظن بي الظنون بل سيحسبني في اقل تقدير من هؤلاء الذين….!.

اذن ماذا يتعين علي ان افعل؟ المطعم على وشك الاغلاق وهاهو النادل يتقدم نحوي فهو لم يعتد مني ان امكث الى هذه الساعة بل انه قال لي ذات مرة اني اسرع زبون في تناول الطعام ومغادرة المطعم.

– لقد حان موعد اغلاق المطعم سيدي وعذرا اذا طلبت منك المغادرة.

– لاعليك فاني اهم بالمغادرة الان ولكن قبل ذلك يجب ان اذهب للحمام فهل يمكنني ذلك؟

– بالتأكيد سيدي، خذ راحتك

لمحت ابتسامة خفيفة ترتسم على وجهه كانه يريد ان يقول شيئا معيبا.

– هل من خطأ في ذلك؟

– لا سيدي ولكن معذرة من القول انك حسن الحظ لانك رجل وليس امرأة

– لم افهم ماذا تقول؟

– لو كنت امرأة لطلبت منك ان تبحث عن حمام عام فحمام النساء عندنا اغلق بسبب الصيانة منذ يومين.

تواصل مع محمد الرديني فيسبوك

About محمد الرديني

في العام 1949 ولدت في البصرة وكنت الابن الثاني الذي تلاه 9 اولاد وبنات. بعد خمسة عشر سنة كانت ابنة الجيران السبب الاول في اقترافي اول خاطرة انشائية نشرتها في جريدة "البريد". اختفت ابنة الجيران ولكني مازلت اقترف الكتابة لحد الان. في العام 1969 صدرت لي بتعضيد من وزارة الاعلام العراقية مجموعة قصص تحت اسم "الشتاء يأتي جذلا"وكان علي ان اتولى توزيعها. في العام 1975 التحقت بالعمل الصحفي في مجلة "الف باء" وطيلة 5 سنوات كتبت عن كل قرى العراق تقريبا ، شمالا من "كلي علي بيك" الى السيبة احدى نواحي الفاو. في ذلك الوقت اعتقدت اني نجحت صحافيا لاني كتبت عن ناسي المعدومين وفشلت كاتبا لاني لم اكتب لنفسي شيئا. في العام 1980 التحقت بجريدة" الخليج" الاماراتية لاعمل محررا في الاخبار المحلية ثم محررا لصفحة الاطفال ومشرفا على بريد القراء ثم محررا اول في قسم التحقيقات. وخلال 20 سنة من عملي في هذه الجريدة عرفت ميدانيا كم هو مسحوق العربي حتى في وطنه وكم تمتهن كرامته كل يوم، ولكني تعلمت ايضا حرفة الصحافة وتمكنت منها الا اني لم اجد وقتا اكتب لذاتي. هاجرت الى نيوزيلندا في العام 1995 ومازلت اعيش هناك. الهجرة اطلعتني على حقائق مرعبة اولها اننا نحتاج الى عشرات السنين لكي نعيد ترتيب شخصيتنا بحيث يقبلنا الاخرون. الثانية ان المثقفين وكتاباتهم في واد والناس كلهم في واد اخر. الثالثة ان الانسان عندنا هو فارزة يمكن للكاتب ان يضعها بين السطور او لا. في السنوات الاخيرة تفرغت للكتابة الشخصية بعيدا عن الهم الصحفي، واحتفظ الان برواية مخطوطة ومجموعة قصصية ويوميات اسميتها "يوميات صحفي سائق تاكسي" ومجموعة قصص اطفال بأنتظار غودو عربي صاحب دار نشر يتولى معي طبع ماكتبت دون ان يمد يده طالبا مني العربون قبل الطبع. احلم في سنواتي المقبلة ان اتخصص في الكتابة للاطفال فهم الوحيدون الذين يقرأون.
This entry was posted in الأدب والفن. Bookmark the permalink.

Leave a Reply

Your email address will not be published. Required fields are marked *

This site uses Akismet to reduce spam. Learn how your comment data is processed.