ج 1/ قراءة في كتاب أعظم عرض على وجه الأرض د.ريتشارد داوكنز

رعد الحافظ

رعد الحافظ

مقدمة :
كلّما أقرأ كتاباً حديثاً أو أعيد قراءة كتاب سابق لأشهرعالِم بايولوجي مُعاصِر هو (د.ريتشارد داوكنز) بالطبع ,إلّا وينتابني شعور بتأنيب الضمير تجاه القرّاء الكرام ,إذا لم أقم بتلخيص و عرض ذلك الكتاب مهما إستغرق من وقت وجهد !
السبب واضح عندي لا جدال فيه :أهميّة كتب داوكنز لفتح العقول والبدء بالتفكير بالطريقة العِلمية على أقل تقدير .ناهيك عن طريقة كتابته المُحبّبة الغريبة تقريباً ,أقصد الطريقة العلميّة الأدبية الرومانسيّة !
كتاب اليوم هو :
The Greatest Show on The Earth
أو أعظم عرض على وجه الأرض !
ترجمة الأستاذ المصري : لؤي عشري
سنة التأليف : 2009
يضم هذا الكتاب الرائع 13 فصل ,مع مقدمة للمؤلف ومُلحق بالوثائق والصور الملونة ,أوصي بتنزيل الكتاب لرؤيتها بالتفصيل ,فهي تبدو كسجل أو أرشيف مصوّر للطبيعة والأحياء ,تساعد كثيراً في فهم الحقيقة العلميّة المركزية الأولى في البايولوجي وباقي العلوم ذات الصلة كالوراثة والجينات وما شابه .أقصد بالطبع حقيقة التطوّر والإنتقاء الطبيعي للكائنات الحيّة !
في هذا الجزء الأول سأعرفكم فقط بهذا الكتاب وبقصد المؤلف منه !
***
ص 6 / الفصل الأوّل ـ أهي مجرد نظرية ؟
(مؤلف الكتاب د. ريتشارد داوكنز هنا يوضح صعوبة مُهمة مُعلّم تلاميذ لا يوّدون التفكير بالطريقة العلميّة) ,يقول :
تخيّل أنّكَ كنت اُستاذاً للتأريخ الروماني واللغة اللاتينيّة !
توّاقاً لنشرِ حَماسكَ للعالَم القديم وأشعار أوفيد الرثائيّة وقصائد هوراك الغنائيّة .والتنظيم القوي للنحو اللاتيني كما يظهر في خُطَب الفيلسوف الروماني سيسيرو .والتفاصيل الإستراتيجيّة للحروب القرطاجيّة .
ورئاسة يوليوس قيصر ,والتجاوزات الشهوانيّة لآخر الأباطرة …
تلك ستكون مهمة ضخمة تستغرقُ أمداً وتركيزاً وتفانيّاً .علاوةً على ذلك تجد أنّ وقتكَ الثمين يضيعُ بإستمرار ,وإنتباه فصلكَ ملهي بزمرة نابحة من الجَهلة الذين بدعمٍ سياسي (وخاصةً دعم مالي) يسعونَ بلا توّقف مُحاولين إقناع غير المَحظوظين أنّ شعب الرومان لم يوجد قط !
أنّه لم تكن هناك إمبراطورية رومانية أصلاً !
أنّ العالَم كلّه جاء الى الوجود فقط فيما وراء ذاكرة الأحياء !
وأنّ اللغات كالإسبانية والإيطاليّة والفرنسية والبرتغالية والإنكليزية وغيرها ,كلّ هذه اللغات الأوربية ولهجاتها التأسيسيّة قد إنبثقت عفويّاً ومنفصلة الى الوجود ,ولا تدين لأيّ سلفٍ كاللغة اللاتينية !
وبدلاً من تكريسِ كامل إنتباهكَ الى المُهمّة النبيلة كأستاذ كلاسيكيّات ومُعلّم ,ستُجبَر على تحويل وقتكَ وطاقتك للدفاع المُتقهقر عن مسألة كون الرومان قد وجدوا من الأساس !
هذا دفاع ضدّ عرضٍ للتحيّز الجاهل ,سيجعلكَ تبكي إنْ لم تكن مشغولاً جداً بمكافحته !
الآن بدل المثال الإفتراضي (لأستاذ اللاتينيّة) الذي يبدو صعب التصديق تخيّل أنّك أستاذ للتأريخ الحديث ,وأنّ محاضراتك عن أوربا في القرن العشرين تُقاطع بإستمرار من جماعات قويّة سياسيّاً مُنظمّة جيداً ,مدعومة بقوة ,مِن مُنكري الهلوكوست (المحرقة النازيّة لليهود) !
بخلاف مُنكري الرومان الإفتراضيين ,فمنكري الهولوكوست موجودين فعلاً .لهم صوت قوي وقد يُصدّقون ظاهرياً .خبراء في التظاهر بالتثقف مدعومين برئيس واحد على الأقل من الدول القوية .يضمّووّن من بينهم على الأقل أسقفاً من الكنيسة الكاثوليكية الرومانيّة !
يدّعون أنّ الهلوكوست لم تحدث قط ,وأنّها عملية لُفّقَت من الصهاينة !
***
ص 7 / مُدرّسي العُلوم !
في الواقع إنّ حالة مُدرّسي العلوم ليست أقلَّ كآبة ممّا ورد أعلاه !
فهُم عندما يحاولون بأمانة شرح المبدأ الرئيس في علم الأحياء ,ليضعون عالَم الأحياء في سياقه التأريخي الذي يعني التطوّر.عندما يشرحون معنى الحياة نفسها ,فإنّهم يُضايقون ويُحبطون ,بل يُهددون بفقدِ وظائفهم !
كنّا سابقاً نظن أنّ هذه ظاهرة أمريكية تستحق السُخرية .لكن المعلمون في بريطانيا وأوربا عموماً اليوم يواجهون نفس المشكلة !
سبب ذلك (جزئياً) يعود للتأثير الامريكي .إنّما السبب الأهمّ هو الحضور الإسلامي المتنامي في الفصول الدراسيّة ,مُغري بالتعهّد الرسمي (بالتعددية الثقافيّة) وخشية الإعتقاد بأنّهم عنصريّون !
لكن عندما نسأل عن دور الدين في ذلك,يُقال لنا أنّ رجال الدين الأعلى مقاماً واللاهوتيين ليس لديهم مشكلة مع التطوّر البايولوجي !
بل أنّهم في حالات كثيرة قد ساندوا العُلماء بفاعلية في هذا الشأن !
في الواقع هذا صحيح نوعاً ما .فمن خلال تجربتي بالتعاون مع أسقف أوكسفورد عضو مجلس اللوردات حالياً (ريتشارد هاريس) في مناسبتين منفصلتين خلال عام 2004 ,كتبنا سوياً مقال في الساندي تايمز ,كانت كلماته الختاميّة كما يلي:
[في الزمن الحاضر لم يَعُد هناك شيء للجدل بشأن كون التطوّر حقيقة حتى من منظور ديني مسيحي ,و أنّه واحد من أعظم أعمال الله] !
الفقرة الأخيرة كتبها هاريس ,لكنّنا نتفق بصدد بقية مقالنا !
ومنذُ سنتين كتبنا (أنا والأسقف ريتشارد هاريس) رسالة الى رئيس الوزراء البريطاني (توني بلير) ,وقّع عليها الكثير من العلماء والأساقفة دون تحفظ .عبّرت تلك الرسالة عن قلقنا المشترك كعلماء ورجال دين حول طريقة تدريس نظرية التطوّر والإنتقاء الطبيعي في إحدى الكليّات البريطانية ,التي تميل لموقف الإيمان من القصة التوراتية !
لقد طالبنا بإحترام إطروحات العِلم بطريقة واضحة في مثل تلك الكليّات!
***
ص 8 / موقف رجال الدين مقارنة مع أتباعهم من العامة !
إنّ رئيس أساقفة كانتر بيري ليس لديه مشاكل مع التطوّر .ولا حتى بابا الفاتيكان .ولا القساوسة المُثقفين وأساتذة اللاهوت !في الواقع هذا الكتاب يتناول الأدّلة اليقينيّة على أنّ التطوّر
Evolution
حقيقة علمية .لا أقصد منه أن يكون ضدّ الفكر الديني ,فقد فعلتُ ذلك سابقاً !
هناك كثرة من الأساقفة واللاهوتيين (المُثقفين) الذين أصغوا الى بعض الأدّلة عن حقيقة التطوّر ,فأقلعوا عن الصراع ضد تلك الحقيقة !
الجميع تقريباً (عدا غير المُطلعين علميّاً على نحوٍ تعيس) مُضطّرين لقبول حقيقة التطوّر !
ربّما يعتقدون أنّ الله كانت له يد في بدءِ عمليّة التطوّر ,ثمّ تركَ تلك العملية تسير وفق الحاجة و حسب القوانين الفيزيائية .
بمعنى أدار عجلة عملية التطوّر ,ثم تركها تأخذ مجراها الطبيعي !
(في الواقع هذا مَخرج جيّد لرجال الدين العقلاء ,كي لا يبدوا أنّهم طيلة الوقت في صراع واضح ضدّ العِلم / كاتب السطور) !
السؤال الآن :إذا كان رجال الدين يقبلون بحقيقة التطوّر فأين المشكلة إذاً؟
المشكلة تبرز بوضوح ,في أتباعِ رجال الدين !
فكما بيّنتُ في وثائق نهاية الكتاب فإنّ أكثر من 40% من الأمريكيين يُنكرون التطوّر ,ويعتقدون أنّنا (وباقي أشكال الحياة) قد تمّ خلقها من الربّ خلال العشرة آلاف سنة الأخيرة !
ولعلكم تسألون :لماذا هذا الإختلاف في الإعتقاد حول حقيقة التطوّر بين رجال الدين (المُثقفين) ..وأتباعهم ؟
الجواب :لأنّ رجال الدين (عن قصد) لا يُعلنون فهمهم ذلك لأتباعهم ولا يحاولون مجادلتهم في التفاصيل ليصلوا الى فهمٍ مشترك !
بل هم طيلة الوقت يناورون وأقصى مايفعلوه هو قولهم عن تفسير بعض الآيات المستحيلة علميّاً في الكتب المُقدّسة أنّها ذات تأويل رمزي صرف
كحديثهم عن قصة آدم وحواء (الذين لم يوجدا قطّ) !
ولو تمّ تحدّيهم علناً عن سبب إستخدامهم تلك القصة رغم علمهم بعدم حقيقتها؟ سيقولون أنّهم يحتاجونها لتوضيح (الخطيئة الأصلية للبشر) وأن لا أحد من الأتباع سيكون غبيّاً الى درجة بحيث يأخذ كلامهم حرفيّاً !
لكن السؤال المهم هنا : أيعرف أتباعهم ذلك ؟
كيف يُفترَض بالشخص الجالس على مقصورة كنيسة أو واقف على سجادة صلاة أن يعرف أيّ جزء من الكتاب المقدّس يجب أن يؤخذ حرفيّاً وأيّها رمزيّاً ؟؟؟
أمِنَ السهولة على الأتباع (خصوصاً البُسطاء في التعليم) أن يخمّنوا ؟
في الواقع الجواب بجلاء في أغلب الحالات هو : كلا !
لو أراد رجال الدين الإخلاص في عملهم ,فليحرصوا على عدم اللعب بالديناميت ,فإساءة الفهم من أغلب الأتباع واردة جداً !
والكتاب المقدّس نفسه يقول لهم ذلك :
[لتجعل كلمتك نعم هي نعم ..وكلمتك كلا هي كلا ! متى 37:5 ]
وكي لا تقعوا في الإدانة عليكم مكافحة سوء الفهم المُنتشر بإفراط لدى العامة ,وتقديم مساعدة فعّالة ومتحمّسة للعلماء ومدرّسي العلوم !
ولكَم سيكون لطيفاً لو قمتم (كأساقفة ولاهوتيين ورجال دين مثقفين) بجهدٍ أكبر قليلاً في مكافحة اللاعقلانيّة المُضادة للعِلم المنتشرة بين أتباعكم !
***
ص 9 / التطوّر والهولوكوست !
التطوّر حقيقة عِلميّة فوق التشكك المنطقي ,فوق الشكّ التَقَوي ,فوق كلّ أنواع الشكّ .والأدّلة على التطوّر هي على أقلّ تقدير بنفس قوّة الأدّلة على الهولوكوست ,متساوية مع شهود العيان على الهولوكوست !
إنّها لحقيقة عِلميّة واضحة كالشمس أنّنا أقارب وراثيّاً للشمبانزي !
وأقارب أبعد نوعاً ما لباقي أنواع القرود !
وأقارب أكثر بُعداً لآكلي النمل وأبقار البحر !
وأقارب أكثر بُعداُ من ذلك للموز واللفت ..إستمّر في القائمة كما تشاء !
لم يكن الناس قديماً يعلمون أنّها حقيقة عِلميّة لأنّها ليست ذاتيّة الدليل .
بعبارة اخرى حقيقة عِلمية دون الأدّلة العِلمية المُعاصرة !
نعم كان هناك زمن إعتقد فيه معظم الناس أنّ التطوّر ليس حقيقة عِلميّة !
لكن في زماننا هذا وبسبب الفيض الهائل من الأدّلة العِلميّة المؤيّدة للتطوّر ,فإنّنا نعلم بما لايدع مجالاً للشك أنّ التطوّر حقيقة عِلمية .وهذا الكتاب سوف يبرهن عليها !
لا يوجد عالِم مُحترم يُجادِل بشأنها ,ولا حتى قاريء مُنصِف بعدما يُغلِق هذا الكتاب سيشّك بشأنها .وقد تسألون لماذا إذاً يتحدّث البعض عن “حقيقة” التطوّر ومازالوا يسمونها “نظرية” ؟
بحيث تعطي إنطباع زائف لمُعتقدي الخلق الذكي مُنكري التأريخ الذين يحسبون أنّ كلمة نظرية هي تنازل ,مُعطيةً إيّاهم شعوراً بالنصر !
فما هي النظرية ؟ وما هي الحقيقة ؟
(إنتهى الجزء الأوّل / والإجابة في الجزء اللاحق) !
****
الخلاصة :
عندما أصدر ستيفن هوكنغ (بالتشارك مع ليوناردو ملودينو) كتابهم الفيزيائي للعامة /التصميم العظيم
The Grand Design

الذي يتناول حُججاً علميّة تدعم فكرة الإنفجار العظيم ,وكونه حدث فيزيائي بحت لا يحتاج (فكرة الإله) لتفسير نشأة الكون !
حدثت ردود فعل متباينة غالبيتها تتهّم المؤلفين بالإلحاد !
فأجاب يومها (هوكنغ) على تلك الإنتقادات بأنّهُ لا يمكن لأحد أن يُثبت عدم وجود الإله .إنّما في نفس الوقت ,العِلم لا يحتاج الى أيّ إله !
وعندما سئُلَ داوكنز عن رأيه بما جرى قال :
[لقد أخرجت الداروينيّة فكرة الإله من علم الأحياء ,بينما بقيت حالة الفيزياء أقلّ وضوحاً .أمّا الآن : فإنَّ هوكنغ يقود قتلاً رحيماً لفكرة الإله في الفيزياء] !
ما أريد قوله هنا ,أنّ العلوم تسير في دربها وطرقها البحثيّة المنطقيّة غير عابئة بخرافات سائدة لادليل عليها البتّه !
وتدريجيّاً كلّما إتسعت دائرة العلوم والبحوث ,وكلّما زاد عدد الناس الذين يقرأون ويفكرون بطريقة عِلميّة ,كلّما أصبح العالَم أكثر تطوّر وتقدّم ومعقولية ورفاهيّة .والدليل أنّ كلّ ماننعم به من وسائل الحضارة الحديثة
هو من إنتاج العِلم ..والعِلم وحده !
أكرر فكرتي الدائمة :
أنا لا أبغي إقناع الآخرين بترك إيمانهم بالله أو بأيّ شيء يعبدونه .إنّما اُقدّم شيئين على ذلك :
الأوّل / أن يفهموا مصدر عقائدهم وتأثير إتباعها على حياتهم !
الثاني / يطلّعوا على أقوال وتجارب وبحوث العُلماء ,لعلّهم يقتنعون !

***

تحياتي لكم
رعد الحافظ
29 مايو 2016

About رعد الحافظ

محاسب وكاتب عراقي ليبرالي من مواليد 1957 أعيش في السويد منذُ عام 2001 و عملتُ في مجالات مختلفة لي أكثر من 400 مقال عن أوضاع بلداننا البائسة أعرض وأناقش وأنقد فيها سلبياتنا الإجتماعية والنفسية والدينية والسياسية وكلّ أنواع السلبيات والتناقضات في شخصية العربي والمسلم في محاولة مخلصة للنهوض عبر مواجهة النفس , بدل الأوهام و الخيال .. وطمر الروؤس في الرمال !
This entry was posted in دراسات علمية, فلسفية, تاريخية. Bookmark the permalink.

Leave a Reply

Your email address will not be published. Required fields are marked *

This site uses Akismet to reduce spam. Learn how your comment data is processed.