جحا يتسكع في إيطاليا

إذا سافرت في صقلية بالقطار، والرحلة طويلة، والعربة درجة ثانية، وأكثرية الركاب نساء بثياب الحداد السود، والجلبة كثيرة، والأصوات مرتفعة حادة، والكلمات متواصلة، فسوف تنتبه، وقد طال الطريق، إلى أن النسوة يكثرن من استخدام كلمتين؛ «الفلوس» و«غيفوا»

(GIUFA).

أنت، طبعا، لا تتقصد الإصغاء. لكن الخيار ليس خيارك في الدرجة الثانية في القطار المتجه إلى روما. بعد قليل يتبين لك أن الفلوس هي الفلوس. «بيزات» يسميها الكويتيون من أيام العملة الذهبية الإسبانية. ولها رنّة واحدة وحديث واحد يختلف في الرقم ودرجات القطار. هذه فهمناها. لكن من هو «غيفوا» هذا الذي كلما ذكرت امرأة اسمه ضحكت بقية النساء وعلت أصواتهن.

كلما مضى القطار، متوقفا عند محطات مدن الجنوب، التي هي جميعا من الدرجة الثانية، خُيل إليك أنك تعرف هذا الاسم. وأخيرا تهتف مع أرخميدس: وجدتها. وجدتها. فالسنيور غيفوا ليس سوى صاحبنا جحا، الذي حمله المسلمون هو وحكاياته في القرنين التاسع والعاشر، وعندما غادروا، تركوه خلفهم، وتركوا للصقليين (قبل أن يصبحوا إيطاليين بزمن) أن يدمجوه في تراثهم الشعبي، وأن يرووا عنه الحكايات والخبريات، وكأنه ولد في هذا الجانب من المتوسط، وليس في الساحل العربي.

يقول روائي إيطالي (صقلي): «إن غيفوا يعيش في صقلية من العصور العربية»، ولا يزال بعد ألف عام يتسكع على الطرقات، دائم الشباب مثل جميع السذج، ومتأهبا لكل الحماقات. كما نسب العرب سواذج ونكات كثيرة إلى جحا، هكذا فعل الصقليون في جحاهم. في إحدى الحكايات يقال له: خذ بندقية واصطد رأسا أحمر. أي طيرا أحمر الرأس، لأنه أطيب الطيور. يأخذ جحا بندقية ويخرج إلى الصيد. وفي الغابة، يرى خلف الشجر رأسا أحمر فيطلق النار عليه. يحمل الطريدة سعيدا إلى المنزل، فتهتف أمه مذعورة: غيفوا، ماذا فعلت؟ لقد قتلت الكاردينال!

هذا جزاء تقيد غيفوا الدقيق بالأوامر. قيل له رأس أحمر، ولكن من دون شرح مفصل. لكن جحا ليس الأثر العربي الوحيد. في كتابها «الدور العربي في تاريخ آداب القرون الوسطى» تقول ماريا روزا مونيكال إن «العربية كانت لغة العلوم والإدارة أيضا. وكانت اللغة الأم للإمبراطور الروماني فريدريك الثاني ملك صقلية، حتى بعد مائتي عام على فقدان قوتهم السياسية هناك. لكن على الرغم من لغته، استمر فريدريك في اضطهاد المسلمين الباقين».

أثناء الحكم العربي كانت صقلية جزءا مما يعرف الآن سياسيا وثقافيا بتونس، التي تبعد عنها اليوم 90 ميلا. وقد خسر المسلمون صقلية نسخة عن خسارة الأندلس: خيانات وجشع واستعانة بالغريب على الأهل.

About سمير عطا الله

كاتب صحفي لبناني الشرق الاوسط
This entry was posted in الأدب والفن, كاريكاتور. Bookmark the permalink.

Leave a Reply

Your email address will not be published. Required fields are marked *

This site uses Akismet to reduce spam. Learn how your comment data is processed.