بعد الاشتباك الدموي المروِّع الذي شهدته فرنسا أخيرا، بين التطرف المتزمت في الدين، والغلو المتزمت في الحرية، أود أن أقدم صورة لصحافة الهزل الساخرة والناقدة. صورة عربية تختلف تماما عن صورة «شارلي إيبدو» الفرنسية الأسبوعية.
اعتبرت «المضحك المبكي» الحرية مسؤولية. فمارست السخرية بوعي وطني. وانضباط ذاتي. انتقدت الطائفية. فعطلتها مرارا سلطة الانتداب والاحتلال. ثم ضاقت بها دولة الاستقلال. فحجبها عن الصدور النظام الطائفي منذ 49 عاما.
ورث بشار نظاما فقيرا. فلم يملك أدنى اعتبار للحرية. والديمقراطية. ولحياة مواطنيه. وفي يوم مجزرة «شارلي إيبدو»، كان طيران بشار يقتل بحممه وبراميله المتفجرة أطفال باص المدرسة الذي يقلهم إلى منازل آبائهم في إدلب.
صدرت «المضحك المبكي» في يوم حار من أيام عام 1929، وكانت على غلافها صورة كاريكاتيرية لرئيس الحكومة الشيخ تاج الدين الحسني، بعمامته. وجبته. ووجهه الطفولي. أقرأ في العدد الأول. الافتتاحية قصيرة. تصف الشيخ تاج بأنه «قصير القامة. مكرش قليلا». السخرية ناعمة قد تحرج. لكن لا تجرح.
رجل دين يعمل في السياسة؟ كان الشيخ تاج ديمقراطيا. يقبل نقد صحيفة ساخرة. يؤمن بأن رجل الدين الذي يعمل في السياسة لا تحميه القداسة. أين سماحة الشيخ تاج من عصبية حسن نصر الله. ورعونة يوسف زُعَيِّن رئيس حكومة البعث (1966)؟!
كم تأخرت وتخلفت الديمقراطية عندنا! فقد هدد الأول محطة التلفزيون التي داعبته بالقصف والنسف. آمن بأنه محمي بـ«معصومية» الفقيه. وأودع الثاني سمير كحالة رئيس تحرير «المضحك المبكي» السجن. فقد طالب حكومة الأطباء الثلاثة بتأمين الدواء للشعب.
لكن لماذا صدرت «المضحك المبكي»؟ يجيب مؤسسها ورئيس تحريرها حبيب كحالة منذ العدد الأول: «لأن الهزل يزيل الهم. ويشرح الصدر. ويسهل الهضم». كان حبيب يكتب دعاباته. ويحرر مجلته، وهو في سريره. ثم يرتدي طربوشه. وبزته الأنيقة. ويطوق عنقه بعقدة «البابيون». ثم يذهب إلى النادي، ليسهر مع الساسة الذين داعبهم. أو يستقبلهم في منزله. فهم يعرفونه منذ أن أصدر «سوريا الجديدة» صحيفته السياسية اليومية في عام 1918 في عهد الدولة الفيصلية المستقلة.
كان أبي يقرأ «المضحك المبكي». بل كان صديقا لأبي درويش «الرجل الكاريكاتير» في المجلة، بعصاه القصيرة. وطربوشه الأطول قليلا من عصاه. ودعاباته اللاذعة. والدعابة السورية لاذعة. تقرص. وتلسع. والدعابة المصرية توقعك على قفاك من الضحك.
لا صحافة ساخرة بلا كاريكاتير. كان هناك 5 رسامي كاريكاتير في «شارلي إيبدو». قتل الإرهاب 4 منهم. ونجا الخامس ليرسم غلاف العدد الجديد. فأثار العالم الإسلامي مجددا على الصحيفة. كان مصطفى أمين في الأربعينات الكاتب الساخر والمخبر الصحافي الأول في مصر. كان في التاسعة والعشرين عندما أصدر أسبوعية «أخبار اليوم». وامتلكت الجرأة الرسام الكبير رخّا، فرافق قلم الصحافي الكبير، في محاولة هدم شعبية مصطفى النحاس زعيم «الوفد»، بالسخرية منه.
كانت «المضحك المبكي» جهدا فرديا مضنيا للحبيب. وكان هو أيضا رسام شخصيات الدعابات السياسية. ويتولى رسامون أصدقاء رسم أبي درويش والغلاف. ثم عثر رئيس التحرير على الرسام اللبناني خليل الأشقر. فتولى رسم الغلاف 8 سنوات، قبل أن يعود إلى لبنان، ليتولى رسم كاريكاتير «الشبكة» و«الأنوار» عقودا كثيرة.
استهوت السياسة الكتّاب الصحافيين. فغدا حبيب كحالة ومصطفى أمين نائبين في برلمانات الأربعينات. وخرجا من التجربة الأولى وهما يلعنان السياسة. وينتقدان فساد الحياة النيابية. وعندما أخرج السادات مصطفى من سجن عبد الناصر في السبعينات، لم يسمح له بالعودة إلى التدريس في الجامعة الأميركية قائلا: «يكفينا مصطفى أمين واحد». وعندما مات السادات، راح مصطفى يحضر جلسات المجالس النيابية في عهد مبارك، ليجلد حضرات أعضاء مجلس الشعب بدعاباته الصحافية الساخرة.
حبيب كحالة صحافي ساخر وكاتب جاد. خرج من مجلس النواب، ليؤلف كتابا (مذكرات نائب) عن أسرار الحياة النيابية والسياسية. وذهب في غضبه ومرارته، إلى حد التشكيك في قيمة الديمقراطية، مركزا على العامل الثقافي في تهيئة العرب للقبول بالمبدأ الديمقراطي. لا أريد أن أطيل في مجال نقد التجربة النيابية. أخشى أن تقضي ذرائع حبيب كحالة القوية على مستقبل الحياة النيابية، بعدما أصبحت مجالس الشعب والنواب مكاتب لبصم سياسات الأنظمة وقرارات الحكومات.
توفي حبيب كحالة غمًا وهمًا، في ذروة أزمة مجلته مع «البعث» الطائفي الذي اغتال مائة سنة من تاريخ السخرية في الصحافة السورية. المضحك أن كتّاب السخرية تكاثروا. المبكي أن الصحافة العربية تدَّعي الرصانة، لتخفي السخرية عن قلم الرقابة.
ورث محمد الماغوط أسلوب مصطفى أمين الساخر. لم يلجأ الساخران الكبيران إلى مزج الفصحى بالعامية، كما فعل السعدني وأحمد رجب. رسم أدونيس الماغوط شاعرا. فأبى الماغوط أن يموت إلا كأشهر كاتب عربي ساخر.
أنجب حبيب كحالة أسرة صحافية. ذهب نجله الأكبر جورج إلى باريس مراسلا لـ«المضحك المبكي». عندما احتجبت الصحيفة للمرة الأولى، انتقل جورج إلى الدبلوماسية. فسرحه حسني الزعيم! فتبنته الأمم المتحدة كبيرا لمترجميها العرب. توفي جورج منذ سنوات قليلة عن 87 عاما، تاركا نجله (جورج الثالث) رجل القانون أحد كبار المحامين اليوم في الولايات المتحدة.
ورث النجل الثاني سمير متاعب «المضحك المبكي» عندما تصدر. وعندما تحتجب. طور سمير تحرير الدعابات الساخرة بالكاريكاتير. توقعتُ له في الستينات أن يصبح رسام المستقبل في الصحافة العربية الساخرة. فسجنه يوسف زعين (1966).
خرج رئيس تحرير «المضحك المبكي» المحتجبة من سجن «البعث» ليعمل في المحاماة. عندما أضرب محامو سوريا مطالبين بتطبيق قوانين الحرية، وإلغاء الأحكام العرفية كان سمير رئيس تحرير مجلة نقابة المحامين (1980). لم يرتكب حافظ غلطة العمر، كما فعل ابنه بشار الذي استخدم السيف في موضع الغدر. ظل حافظ يعد السوريين بالديمقراطية إلى أن تمكن من تأميم النقابة. واعتقال المحامين المعتصمين.
نجا سمير. فهاجر إلى فرنسا. حاولت أن أقنع رئيس تحرير الصحيفة الساخرة المحتجبة بأن يصدرها من باريس عاصمة الحرية في العالم. آه. نحن الصحافيين السوريين كزملائنا المصريين. لا نملك جرأة
زملاء حملوا معهم صحفهم في طائراتهم، لإصدارها من العاصمتين «العربيتين» لندن وباريس.
اقتلع زبانية بشار حنجرة المغني الذي سخر منه. ثم حطموا أصابع رسام الكاريكاتير علي فرزت الذي ورث حلم سمير في صحافة عربية. حرة. ساخرة. ماذا يفعل سمير إذن في باريس؟ ما زال يتسلى منذ 30 سنة، بإثارة حزنه وحزني، برسم بيوت دمشق وأحيائها القديمة. وعندما يمل، يعكف على قراءة الرسائل التي ما زالت الصحيفة الشهيرة تتلقاها على الإنترنت.
وبعد، ماذا أقول عن «شارلي إيبدو» في المقارنة مع «المضحك المبكي»؟ أترك القول لزميلي سمير: «كانت (المضحك المبكي) في نقدها الساخر للغير أكثر سخرية. لكن لم توجه له إهانة. أو إساءة. كان أبي يمارس النقد للإصلاح. كان يعتقد أن للحرية حدودا. لا يجوز تجاوزها، وإهانة الغير ومس شعوره باسم الحرية. لكن لا أؤيد هؤلاء الرسامين سواء في الرسم، أو في النقد. فقد تجاوزوا حدود الحرية في جميع المجالات. نعم، فالحرية أولا وأخيرا مسؤولية».
نقلا عن الشرق الاوسط
-
بحث موقع مفكر حر
أحدث المقالات
الحزب الشيوعي لايختلف عن الاحزاب الدينية الفاشية .. الداخل مفقود والخارج مولود
Published by:مفكر حر** كيف بلع نظام الملالي ... الطعم ألإسرائيلي **
Published by:سرسبيندار السندي** كيف يسخر ويضحك صبيان محمد الجدد ... على عقول ألمسلمين **
Published by:سرسبيندار السنديالمسيح في فكر الإسلام والعقيدة المسيحية
Published by:صباح ابراهيممن يوميات إمرأة حلبجية
Published by:مفكر حراسطورة الإسراء والمعراج
Published by:صباح ابراهيمالفيلم الألماني " حمى الأسرة"
Published by:طلال عبدالله الخوري** جدلية وجود ألله … في ضوء علم الرياضيات **
Published by:سرسبيندار السنديفيلم ايطالي عام 1959 عن تدمر والملكة العربية زنوبيا … علامة المصارع
Published by:مفكر حر** أمة الكُورد بين ألإسلام … والتخلف والتعصب والاوهام **
Published by:سرسبيندار السنديالنظرة الفارسية الدونية للعرب المسلمين أصولها، أسبابها ونتائجها/10
Published by:علي الكاشأفكار شاردة من هنا وهناك/51
Published by:مفكر حرقراءة متأنية في ديوان (قصائد منزوعة السلاح) للشاعر نينوس نيراري
Published by:آدم دانيال هومه** كيف رتبت أل سي اي ايه … لقاء الصحفي تايكر ببوتين ولماذا ألان **
Published by:سرسبيندار السندي** هل سينجو ملالي إيران بفروة رؤوس … بعد مجزرة طوفان الاقصى وغزة والمنطقة**
Published by:سرسبيندار السنديالنظرة الفارسية الدونية للعرب المسلمين أصولها، أسبابها ونتائجها/8
Published by:علي الكاشأفاعي السوء وباعة الكذب في مهب الريح( 18-19 )
Published by:حسن محموديأفكار شاردة من هنا وهناك/49
Published by:مفكر حرالانتخاب
Published by:مفكر حر" الاشياء البائسة" Poor Things
Published by:طلال عبدالله الخوريالأدب النسوي ما بين الإبداع والاستغلال
Published by:اسعد عبد الله عبد عليأفكار شاردة من هنا وهناك/48
Published by:مفكر حرالرب يفضح الأنبياء الكذبة
Published by:صباح ابراهيمأخطار تهدد الحياة على الأرض
Published by:صباح ابراهيمكأس عسل
Published by:عصمت شاهين دو سكيسليلة الآلهة
Published by:آدم دانيال هومهأفاعي السوء وباعة الكذب في مهب الريح ( 16, 17)
Published by:حسن محمودي** محنة العقل في الاديان ومعضلة كتبها … بالدليل والبرهان **
Published by:سرسبيندار السندي** لماذا قصف نظام الملالي الارعن … مدينة أربيل ألان **
Published by:سرسبيندار السندياوبنهايمر
Published by:طلال عبدالله الخوري** مَن سيُحاسب قادة حماس … على جرائمهم بحق غزة وأهلها **
Published by:سرسبيندار السندياسرار #الموساد عن #العراق - ج 1
Published by:صباح ابراهيمالمرأة بين الماضي والحاضر مسيرة كفاح وتنمية ونماذج معاصرة
Published by:مفكر حرالنظرة الفارسية الدونية للعرب المسلمين أصولها، أسبابها ونتائجها/4
Published by:علي الكاشالقاسم الأيمانيّ المشترك :
Published by:مفكر حرعام جديد..
Published by:مفكر حر** قصة مِيلادِ السيّد المَسِيحْ … العجيبة والفريدة **
Published by:سرسبيندار السندي#محمد_الماغوط من الغباء ان ادافع عن وطن لا املك فية بيتنا
Published by:محمد الماغوطأفكار شاردة من هنا وهناك/43
Published by:مفكر حرمن هو يسوع المسيح ؟ - يسوع المسيح يكشف لنا حقيقة الله-
Published by:مفكر حرالنظرة الفارسية الدونية للعرب المسلمين أصولها، أسبابها ونتائجها/3
Published by:علي الكاشفاطمة الزهراء و غموض تاريخها
Published by:صباح ابراهيم#نزار_قباني: أيها المسيح العظيم هل تقبل دعوتي إلى العشاء .
Published by:نزار قباني** أيا عُبَّاد الهلال … لنا لكم سؤال **
Published by:سرسبيندار السنديهل روح الله هو الله ام جبريل ؟
Published by:صباح ابراهيمأُمة فيها العجب
Published by:عصمت شاهين دو سكيتجاعيد وايجار واتهام
Published by:اسعد عبد الله عبد عليتقاسيم على أوتار الريح
Published by:آدم دانيال هومهالنظرة الفارسية الدونية للعرب المسلمين أصولها، أسبابها ونتائجها/1
Published by:علي الكاشالدعاء على المسيحيّين
Published by:مفكر حرمباحث في الأدب واللغة/63 الطعام والمطبخ العربي
Published by:مفكر حرأفكار شاردة من هنا وهناك/41
Published by:مفكر حر#مسيحيو_المشرق و(الخيارات المرة )!!!:
Published by:مفكر حرهادي العامري واوهام المدمنين
Published by:علي الكاشالكفاءة
Published by:عصمت شاهين دو سكيأفكار شاردة من هنا وهناك/40
Published by:مفكر حرالعهد الجديد و سفر التكوين والخليقة
Published by:صباح ابراهيمأحدث التعليقات
- س . السندي on الفيلم الألماني ” حمى الأسرة”
- Sene on اختلاف القرآن مع التوراة والإنجيل
- شراحبيل الكرتوس on اسطورة الإسراء والمعراج
- Ali on قرارات سياسية تاريخية خاطئة اتخذها #المسلمون اثرت على ما يجري اليوم في #سوريا و #العالم_العربي
- ابو ازهر الشامي on الرد على مقال شامل عبد العزيز هل هناك دين مسالم ؟
- س . السندي on ** هل سينجو ملالي إيران بفروة رؤوس … بعد مجزرة طوفان الاقصى وغزة والمنطقة**
- مسلم on قراءة الفاتحة بالسريانية: قبل الاسلام
- الحكيم العليم الفهيم on أفضلية الإمام عليّ (ع) على آلرُّسل :
- المهدي القادم on قراءة الفاتحة بالسريانية: قبل الاسلام
- Joseph Sopholaus (Bou Charaa) on تقاسيم على أوتار الريح
- س . السندي on النظرة الفارسية الدونية للعرب المسلمين أصولها، أسبابها ونتائجها/3
- س . السندي on اوبنهايمر
- محمد on مطالعة الرجل لمؤخرة النساء الجميلات
- ألعارف الحكيم : عزيز الخزرجي on أفضلية الإمام عليّ (ع) على آلرُّسل :
- س . السندي on علماء النصارى كانوا يتسمون اسماء اسلامية
- س . السندي on فاطمة الزهراء و غموض تاريخها
- س . السندي on ** أيا عُبَّاد الهلال … لنا لكم سؤال **
- س . السندي on سورة مريم اقتبست من شعر امية بن ابي الصلت
- لينا on قراءة الفاتحة بالسريانية: قبل الاسلام
- لينا on قراءة الفاتحة بالسريانية: قبل الاسلام
- س . السندي on #محمد_الماغوط من الغباء ان ادافع عن وطن لا املك فية بيتنا
- Mohammad Al Kassab on ضحايا صدام حسين 7
- ابن الرافدين on ** أيا عُبَّاد الهلال … لنا لكم سؤال **
- قثيم بن سنحريب الفيروزي on ** أيا عُبَّاد الهلال … لنا لكم سؤال **
- مسلم on القرآن زور التوراة والإنجيل
- ألعارف الحكيم : عزيز الخزرجي on أفضلية الإمام عليّ (ع) على آلرُّسل :
- قثم بن عبد الات القرشي on هدف حماس من (طوفان الأقصى) وهدف إسرائيل من اعلان حالة الحرب
- طوفان البدروسي on ** لماذا ورطت إيران قادة حماس … بطوفان الاقصى ألان **
- مفكر حر on القول ما قاله سماحة #الكاردينالساكو بشأن فاجعة #عرسالحمدانية
- مفكر حر on القول ما قاله سماحة #الكاردينالساكو بشأن فاجعة #عرسالحمدانية