الأُحجية

من أوراق الأمسmoonwoman

الأُحجية

في لظى حرِّ الصيفِ وسطَ المدينة، وقفَ صدقي الزبرؤتي على الرصيفِ أمامَ مدخلِ احدِ الفنادقِ الفخمةِ منتظراً وسيلةَ نقلٍ تنقلهُ إلى البيت .
كانت شمسُ الظهيرةِ اللاذعة تطاردُ كلَّ قطرةِ ماءٍ فيه فتدفعها عرقاً ينبع متصبباً من جبهته
و رقبته، حتى بات يشعر عند تنفسهِ بسيفٍ من نارٍ يشْحذُ صَدْرَه.
لاحظ صُدْقي مدخلَ الفندقِ الضخمِ إلى يمينهِ و قدْ نُصِبَتْ خَيْمَةٌ عِمْلاقَةٌ بِمَدْخَلِهِ تحجبُ الشمسَ و تُعْطي النزلاءَ ظلالاً وافرة.
مع هذا الانتظار المستديم، بدأ صدقي بالإقترابِ بخطواتٍ بطيئةٍ حتى استقرَّ وسطَ الظلالِ مما خفَّف عنه سعيرَ الصيف الجهنمي.
تلفَّتَ صدقي حولهُ فوجدَ إلى جانِبِهِ إعلاناً كَبيراً لِدَعْوَةٍ لحضورِ جلْسَةٍ شعريةٍ للشعرِ الحديثِ للشاعر المَوْهوبِ مُرهَف تَلْبيسه .
صال صدقي و جالَ بأفكارهِ فقفذ إلى ذهنهِ سؤالٌ بدَأَ يحيِّرُهُ :
لِمَ لا يكون اسمه هو وسط الإعلان فيقولُ للشاعرِ صدقي الزبرؤتي ؟.
فمحبته للغة العربية لا توصف، و هوَ لهُ محاولاتٍ لا بأسَ بها لكتابةِ الشعرِ بشكليه الحديث و المُقَفّى و لا زال يحتفظ بها في منزله ما بين أوراقهِ .
قطعَ شرودَ صدقي وابلٌ من معالم ووجهاء المجتمع بدؤوا بالتوافد بألبسة أنيقة حيث توصلهم سيارات فخمة إلى بساط الفندق المخملي تحت الخيمة الكبيرة، فشعر صدقي و كأنه أصبح عائقاً في طريقهم.
عاد صدقي و قرأ تفاصيل الإعلان الكبير عند باب الفندق، فعرف أن الاحتفال على وشك الحدوث و أن الدعوة عامة أي أنها مجانية.
كانَ صدقي يسمعُ زئير صوتِ وحدة التكييف تعمل بكل طاقتها فالفندق إذن مكيّف .
بوقفة سريعة مع الذات، أطرى صدقي على نفسه محبتهُ للشعرِ و بعد تفكيرٍ سريعٍ و لأنه لم يعدْ يتحمّلُ الحرَّ ، قرَّر دخولَ الفندقِ للاستماعِ و الاستمتاع فالأهم من الشعر نفسه الآن هو الترويحِ و التبريد.
أصْلَحَ صدقي سترته، و أنهضَ بنطالهُ المُتَرَهِّلْ . و بحركةٍ سريعةٍٍ كالفرسِ المستعدِّ للعدوِ، ركل الجانب الخلفي من بنطاله بحذائه مزيلاً عنه الغبار، شدَّ قامته و رفع رأسه و كأنه من طبقة النبلاء ثم دخل الفندق عابراً بوابته الرئيسية، عندها شعَرَ بنسيمٍ باردٍ عليلٍ يُدَغْدِغُ رقبتهُ.
هذه المرة الأولى التي يرى فيها الفندق من الداخل، فبدا كبلاطِ قصرٍ ملكي ، كلُّ شئٍ نظيفٌ و فخمٌ فقد بُذِخَ على تصميمهِ و فرشهِ إلى حدِّ الإسراف.
ها هو صدقي يختلطُ ببقيةِ الحضورِ و يحذوُ حذوهم فيدخل القاعة بمَشيةٍ مُتأنية، و ابتساماتٍ ديبلوماسية تُلْقى هنا و هناك حيث حُيّيَ بكل احترام من قبلِ سيِّدَةٍ قديرةٍ اعطتْهُ كتييباً عن الشاعر المحتفى به و شِعْره، و لمْحَةً موجزةً عن ديوانه الجديد و المتوفّر للبيعِ بنهايةِ اللقاء و الذي سيقوم الشاعر شخصيّاً بتوقيعه للمعجبين.
فبادلها التحية بابتسامة، أخذ الكتييب و انساب إلى القاعة بصمتٍ بين جموع الحاضرين.
ظلَّ هاجس الشك يعتريه و كأنه لا يليق بهذا الجمع من نخبة الحضور فتجنَّبَ صدقي الصفوفَ الأماميةَ و اختارَ مقعداً قريباً إلى باب الخروج في حال طُلِبَ منه ذلك.
وقع نظر صدقي على شخص مسن ذو هيبة يدخل المكان و كأن هالة نورانية تشعُّ من وجههِ و باقتراب ذاك الشخص منه شعر صدقي و كأنه يعرف هذا الشخص الوقور، آه نعم إنه أستاذ اللغة العربية المحبوب منذ ثلاثين عاماً، و الذي جعلني أحب و أحترم هذه اللغة بشعرها و نثرها.
بلحظةٍ هاربةٍ عاد صدقي طالباً في الصف السادس، و بالا شعور تغلبت عليه ردة الفعل و إذ به يقف بكل احترام و تقدير لهذا الإنسان العظيم فيحييه و يسأله بهمس : أستاذ منفلوطي ؟ فأجابه نعم، عندها عرَّفه صدقي عن نفسه و بعد تحية لطيفة، خانته عواطفه فوجد نفسه يحاول تقبيل تلك اليد التي ساهمت في بنائه و صياغته كإنسان ، اعتذر الاستاذ عارف عن ذلك في الوقت الذي شكره على مشاعره الصادقة ثم أخذ مكانه بين الحاضرين.

و بينما غصَّت القاعة بالحضور، قدَّمتْ عريفةُ الحفلِ الشاعرَ و قرأتْ لمحةً عن مسيرته الشعرية و أسلوبه فبادلها الحضور بالتصفيق.
عندها اعتلى الشاعرُ المنتظرُ السُّدة حيث حيَّى الحضور و بدأ بإلقاء مقطوعات من شعره الحديث

.هبت الريح
في ليل الدروب
تستجدي المديح
و كل لؤلؤةٍ
تنؤ بوزرها
تكاد تغفو
حين لامَسَت يدك
فيا أنت
يا أنا
أيا أنا أنتِ
أم أنتِ أنا
اتركي اللؤلؤ
و الليل
و اتبعيني
نقطف النجوم
و نلعب
بكرة الشمس
حتى تخجل من جبهتك
فتغيب
و تغدين متعبة
مثل زهر النّرجسِ
تتلمَّسي
خدّي و شعري
و تهمسي
أنت الحبيب

هذا الأفق
صاح الأنين
بين أفواجِ النجوم
و ما بين النخيل
لا يعرف النوم الرحيل
و الحمامة ترتجف
خوفا على لحن الدروب
لا تكسري مجدي
بين آفاق العيون
إن قلبي لا يخون
مثل ابداع القوافي
و مثل نجمة قاسيون

بعد انتهاء القصيدة الأولى بدأ التصفيق تكريماً و محبةً للشاعر، و كان يشتدُّ عالياً كلما انتهتْ قطعةٌ كلاميةٌ مبهمةٌ عديمةُ الملامح .
كان صدقي يحاول بكلِّ جهدٍ إدراكَ بعض المعاني لكن دون جدوى فلقد شَعَرَ أن تلك العبارات خالية المضمون و ما سمي هنا بالشعر الحديث، كان مضيعةً للقرطاسيةِ و للوقتِ .
ما خفَّفَ إحباطه أن ذاك الحدث أثلج صدره، شكراً لذاك النسيم البارد العليل القادم من جوانب الجدران المزخرفة.
فلا يمكنك وصف تلك المداخلات العقيمة بالشعر، و إن كان حديثاً، إن تسميته كذلك إنما هو إهانة للشعر نفسه.
بعد القصيدة الطلاسمية الأخيرة، وقف جميع الحضور محيين شاعرنا المصون بهدير من التصفيق هزَّ أركان القاعة بينما بقي صدقي جالساً بمكانه مكتوف الأيدي ليكون حالةً شاذَّةً بين كل الحضور، إلى درجة أن الشكِّ بدأ يتسرَّب إلى نفسه ،على مدى معرفته بالشعر و اللغة و حتى أن الظن أخذ يساوره هل كل الحضور على درجة عالية من المعرفة و الفهم و هو الوحيد الساذج البسيط بل و حتى الأحمق ؟؟
كان صدقي يُطَمْئِنُ نفسهُ بأن لا بدَّ هنالك شخص آخر على الأقل على درجة عالية من الثقافة و الفهم و الادراك موجود معه يوافقه الرأي ولا يمكنه القبول بتلك الخزعبلات التي يسمّونها شعراً
التفت صدقي حَولَهُ باحثاً عن الاستاذ منفلوطي مستجدياً تأكيداً أدبيّاً بأنه على صواب، و إذ بالأستاذ منفلوطي واقفاً متبسماً و هو يصفق بحرارة

شعر صدقي بالخجل فقد أصبح هو الاستثناء للقاعدة فهاهي نخبة مختارة من مثقفي المجتمع تتمتع بحدث ثقافي غني على ما يبدو بالقيم و المعاني بينما هو ضعيف الفهم و الإدراك و لا يحق له أن يكون هنا .
.
بعد أن خبا التصفيق ترجل الشاعر من المنبر و جلس إلى مكتب خشبي و إلى جانبه تَلَّة من نسخٍ لآخر أعماله حيث أشهرَ قلمهُ و بدأ بإهداءِ توقيعه لمن يبغي شراءَ نسخة من كتابه الجديد.
بينما بدأ طابورٌ طويل من الحضور يتزاحمون لاقتناء نسخ موقعة و مباركة من الشاعر الكبير.

استغرَبَ صدقي الموقف و حار في أمر الاستاذ منفلوطي فهو قد أشبع القاعة تصفيقاً و لكنه بدأ بالخروج دون شراء نسخة من الكتاب ، فأقترب صدقي منه للمرة الثانية و سأله عما إذا كان سيحجز نسخته، فأجابه : لا فأنا لا أريد هدر الماء على ما لا قيمة له.
عندها تجرأ صدقي و سأله عن رأيه بالشعر الذي سمعه، فأجابه : لقد كان مضيعة للوقت و ليس له أية دلالات أو معانٍ.
سُرَّ صدقي بتلك الإجابة و التي دفعته إلى سؤالٍ آخر إذا كان هذا رأيك فكيف كنت تتظاهر بالإعجاب و تبادر إلى التصفيق ؟
أجاب الأستاذ لأن كل من حولي فعل ذاك فإن لم أفعل، سأكون ذاك الشخص الشواذ و الغبي الذي لم يفهم القصيدة.
عندها تساءل صدقي : كم من الحضور يشعرون نفس الشعور و يتصرفون نفس التصرف؟
شَكَرَ صدقي ربه لوجود الاستاذ منفلوطي بالقاعة ، ثم شكر استاذه على رأيه الصريح، فهذا تأكيد محكم لصدقي بأنه ليس مجنوناً، و ليس غبياً أيضاً.
وقف صدقي بالباب مسروراً معارضاً خروج الأستاذ منفلوطي و قال له بابتسامة سبقتها دمعة عصية، شكراً لك استاذي الكريم و شكراً لشهادتك القيّمة اليوم و التي و هي غالية علي كما الشهادة المكتوبة و الموَقَّعَة منك منذ أكثر من ثلاثين عاماً، لكن شهادتك الشفوية اليوم ينقصها ختمك الكريم لذا فأنا لن أدعك تخرج من هنا قبل تقبيل يدك الكريمة.

الأرقش

تموز / 2012 /

About الأرقش

كاتب وطيبيب سوري يعيش بأميركا
This entry was posted in الأدب والفن. Bookmark the permalink.

Leave a Reply

Your email address will not be published. Required fields are marked *

This site uses Akismet to reduce spam. Learn how your comment data is processed.