جهاد علاونة
شرب القهوة عبارة عن طقس ديني لم ينزل من السماء يؤديه كل إنسان على حسب قناعاته ومعتقداته الشخصية,والناس مختلفون في طريقة شرب القهوة حتى أن هنالك ملاحظة غريبة وهي أن لكل فئةٍ من الناس محمصاً خاصا يشترون منه قهوتهم ولا يستبدلونه بمحمص آخر وكأن هؤلاء الناس مقبلون على كاهن أو شيخ أو قِس يأخذون عنه دينهم فيأخذون القهوة من المحمص الفلاني كما يأخذ هم أو غيرهم من الناس دينهم من مذاهب دينية مختلفة, ومن الممكن أن ينسى المريض تناول دواءه اليومي ولكن من المستحيل جدا أن ينسى المريض أو الصحيح تناول قهوته الصباحية, والمريض الذي يعاني من ارتفاع في ضغط الدم من الممكن له أن يستغني عن تناول الأطعمة المالحة ولكن من الصعب عليه أن ينسى عادة شرب القهوة مع علمه بأن القهوة أيضا ترفع من نسبة ضغط الدم, وهنالك من يملك الإرادة القوية لترك عادة شرب السجائر أو المشروبات الروحية ولكن من الصعب على أي إنسان أن يترك عادة شرب القهوة حتى تحت أقسى الظروف صعوبة وقسوة,ومعظم المدخنين وغير المدخنين يشربون القهوة صبحا ومساء وفي أوقات الظهيرة وفي أوقات الذروة تحت أشعة الشمس الدافئة أو نسيم الهواء العليل في فصل الصيف,وتتفنن الشعوب في صناعة القهوة ويتفنن الشاربون لها في كيفية تحضيرها وفي أي الأوقات يشربونها.
وكان أجدادنا في الماضي يعلنون بدأ الصباح حين تظهر الشمس أمامهم مستديرة الشكل كقطعة نقودٍ معدنية ونحنُ اليوم نعلن عن بدأ الصباح عندما يبدأ فنجان القهوة بالظهور أمامنا على مائدة الصباح,وكان يقول (تي سي إليوت): “إن أداة القياس الحقيقية بالنسبة لنا هي ملاعق القهوة”, فملاعق القهوة بالنسبة ل تي سي إليوت هي أداة القياس الحقيقية,والكل أصبح اليوم يقيس حياته على فنجان قهوته مهما كان كبيرا أو صغيرا وأنا أعرف الناس من طريقة شربهم للقهوة وأستطيع تحديد نوعية الأمزجة المختلفة من خلال طريقة تحضير القهوة أو شربها,وبعض الناس لا يمكن أن يبدءوا نهارهم إلا إذا تناولوا قهوة الصباح حتى أن (إلبرت أينشتاين) كان يقول: ليست الرياضيات إلا جهازاً يحول القهوة إلى نظريات,وغالبية الكُتّاب ينزل عليهم وحي الكتابة مع كل فنجان قهوة يشربونه فكلما أدخلوا إلى فمهم رشفة من القهوة كلما خرجت من فم كل واحدٍ منهم كلمة شاعرية أو فكرة جهنمية.
إنها ركن أساسي من أركان الحياة عند كل الناس مهما اختلفت دياناتهم أو أفكارهم, فمن الممكن وهذا الحاصل دائماً أن يختلف الناس في اتجاهاتهم الفكرية والمذهبية والدينية وأن يحرّموا بعض الأطعمة على أنفسهم ولكن كل هؤلاء يتفقون على أن فنجان القهوة من المستحيل أن يختلف على شربه أحد فالمسلم الشيعي والسني والحنبلي والشافعي والمالكي والحنفي,والمسيحي واليهودي والبوذي والشيوعي والديمقراطي والجمهوري والرأسمالي والكبير والصغير والعامل والوزير كلهم متساوون أمام فنجان القهوة في الصباح الباكر أو في المساء أو في الليل المُدلهم أي أن القهوة ليست حكراً على أحد, ومن الناس من تكون قهوتهم مُرةً بدون سُكر ومن الناس من تكون قهوتهم حلوة جدا عليها ملعقة سكر إضافية فوق النسبة المحددة ليكسروا مرارة الحياة من على رؤوس ألسنتهم,وبعض الناس قهوتهم سُكر خفيف ويطلبونها وسطأ قائلين: وسط لو سمحت,وكأنهم فلاسفة يحاولون التوفيق بين مذهبين مختلفين, وقرأت مرة عن فيلسوف نسيت اسمه قوله: لا يمكن أن أبدأ بالضحك قبل تناول فنجان القهوة,وأنا لا يمكن لي أن أبدأ بالدموع أو بالضحك أو بالكتابة إلا بعد إعلان وصول أول فنجان قهوة أمامي,واليوم أعرف الكثير من الناس الذين لا يبدؤون العمل قبل تناولهم القهوة الصباحية,وهذه حقيقة دامغة يعرفها الجميع فأنا نفسي لا يمكن أن أبدأ بالكتابة إلا بعدَ أن أتناول فنجان قهوتي الصباحية,وإذا أردت الخروج من المنزل فإنني لا أخرج منه إلا وطعم القهوة ما زال على فمي ولساني,حتى وإن آلمتني معدتي من شرب القهوة فإنني أشربها مهما فعلت بي,وغالبية الناس مثلي ومثلك أنت لا يستطيعون العمل إلا بعد أن يتناولوا فنجان قهوتهم, وفي وقت الظهيرة تحنُ غالبية الناس إلى فنجان القهوة وكأن الصباح قد طَلُعَ الآن ..
وفنجان القهوة أداة يقيس فيها الضيوف احترام المُستضيف لهم عن طريق تقديم فنجان قهوة ساخن, وهذه أصبحت عندنا عادة يحترمها الناس وبعض الناس ممن أعيش معهم يعتبرون الشاي كلمة ترحيب بهم عندما يُقدمه لهم المُستضيف ويعتبرون فنجان القهوة عبارة عن رمز لإنهاء مدة الاستضافة فلا أحد يجعلك تخرج من منزله إلا بعد أن يقدمَ لك فنجان القهوة وحين يريد المُستضيف إنهاء مدة الضيافة يستعجل في تحضير فنجان القهوة لك,وفي بيئتنا إذا تعجل لك المُستضيف في تحضير فنجان القهوة فعليك أن تعرف بأن الزيارة قد انتهت مدتها وعليك فورا مغادرة بيت الضيافة, أما بالنسبة للقهوة العربية فالأمر معكوس جدا إذ أن فنجان القهوة من البداية يعتبر رمزا للترحيب بك.. إنها أصبحت طقسا يوميا يقبل عليه الناس سواء وهم في حالة فرح أو وهم في حالة حزنٍ شديدة,ومن الممكن أن ينسى أغلبية الناس أداء الصلاة أو الدعاء أو الابتهال إلى الله ولكن لا يمكن أن ينسى الناس توزيع أحزانهم وأفراحهم على فنجان قهوة نزل لتوه من على النار, وتستطيع أن تشرب الشاي ساخنا وباردا ولكن من المستحيل أن تشرب فنجان قهوتك باردا فالقهوة لا يمكن أن تشعر بحلاوتها إلا وهي ساخنة جدا مثل الحياة الساخنة والصاخبة وبعض الناس أو قل بأن غالبيتهم يوجهون وجههم إلى المطبخ لتحضير القهوة قبل أو يوجهوا وجوههم إلى قِبلة الصلاة سواء غربا أو شرقا أو شمالاً..القهوة جزء لا يتجزأ من حياتنا اليومية بل هي أصبحت بالأولوية فلا أحد يبدأ يومه إلا بعد أن يبدأ فنجان القهوة بالغليان إما على نارٍ هادئة وإما على نارٍ يشتعلُ سعيرها استعارا, والحياة بالنسبة لنا أصبحت مثل فنجان القهوة وإلى جانبه قطعة شوكولاته فنحن من المستحيل أن نستقبل الصباح بدون فنجان قهوة نرتشفه ارتشافاً أو نغبُ فيها غباً كما يغبُ الظمآن فمه في الماء, بدون قهوة لا يمكن أن يبدأ أي أحدٍ منا صباحه الجميل أو المحزن حتى أن غالبية الجهلاء والعقلاء ينظرون في قاع الفنجان ليعرفوا يومهم وما يخبئه لهم القدر من حكايات أو مفاجئات إذ يحاول أغلبية الناس فك رموز وشيفرات الألغاز المحيطة بهم من خلال النظر في وجه فنجان القهوة أو من خلال النظر في قاع الفنجان بعد قلبه من أسفل إلى أعلى.
ومن الممكن أن يستغني الإنسان عن وجبة الإفطار الصباحية ولكن هؤلاء لا يمكن لهم أن يستغنوا عن شرب فنجان القهوة ويعتبره البعض بديلا عن تناول وجبة الإفطار,ومن الناس من يشربوا قهوتهم في فنجان كبير ومنهم من يشربه في الفنجان الصغير الذي لا يختلف على مقاسه أي شعبٍ من الشعوب من ناحية الحجم.
وهنالك من لا يشرب القهوة إلا إذا كانت من صنع يده هو أو من يد من يحب وهذا فعلا له فارق كبير في الطعم واللذة فأن تتناول فنجان قهوة من يد من تحب هو أفضل طعما من أن تتناوله من أي يدٍ أخرى,وأعرف أناسا لا يشربون القهوة إلا إذا قاموا هم أنفسهم بتحميصها على النار وطحنها.