كما ذكرنا في المقالة السابقة فان محور الندوة الثانية كان تراث الشيخ علي عبد الرازق الذي يقدم أطروحة اشكالية في علاقة الدين و الدولة خاصة ان الرجل كان منتمياً الى المدرسة التقليدية في الفكر الاسلامي … و لذلك شكلت طروحاته في اذهان العديد من المفكرين و القوى الدينية و السياسية على مدى عقود من الزمن نوعاً من شرعنة الدولة الحديثة بعيداً عن التراث التقليدي للدولة التي “يجب ان تحكم بما انزل الله”….
اود ان أبدا بفرضية أنثربولوجية أولية عن علاقة الدين و الدولة…. من حيث كونها هي جدلية ابدية منذ ان انتقل الانسان من دائرة “الوعي الذاتي” الى دائرة “الوعي الجماعي”…. اي منذ ان اكتشف الانسان نفسه و في مرحلة من تطوره استطاع ان يخلق ترابطا للعيش مع الاخر و ليكون هذا الترابط الأولي النواة في تطور مجتمعي مبسط توسع لاحقا بشكل مضطرد و تضخم حجمه و تعقدت أواصره ..
في هذا الانتقال كان لابد من قيمة مشتركة حتى تكون شاهداً على التزام الطرفين (او الاطراف)… بنوع من العقد او التوافق …و هذا الشاهد كان لابد ان يمتلك قوة اخلاقية اكبر و هيمنة فكرية اكثر شمولاً … بل و حتى قوة جسدية اعظم… حتى يضمن عدم انحراف اي طرف و العودة الى الذات على حساب الاخر … (فلنتذكر ان وجود الشاهد او الطرف الثلث ما زال ضروريا في كل التعاقدات و المحاكم و كذلك الصيغ القانونية او قيم عليا يتم القسم عليها هي ايضا ضرورية لإتمام الإتفاق و اعلان الولاء و الالتزام بالآتفاق و نتائجه و هذا يحصل في ابسط الاتفاقات الى اعلى المستويات و منها الوزارات و رئاسة الدولة)…..
بكلام اخر… ان هذا الشاهد كان لابد ان يتصف بقدرات و إمكانات عابرة للقدرات المادية و الامكانيات الفكرية لاي طرف … بل لكل الاطراف مجتمعة… حتى يمكن ان يكون حارساً للجماعة من الاذى … و ضامنا لها البقاء و الخلود…و هكذا كان البحث عن الله (قصة النبي ابراهيم)… و هكذا كانت الأسس الاولى لشيء هلامي خارق للنفس و غير قابل للنقاش … انه الدين… الذي يجب ان يؤمن به الجميع لكي يحافظوا على مجتمعهم و بالتالي يضمنو وجودهم الفردي ايضا…
و حيث ان ضمانة الوجود تعني مجموعة من الحقوق … فان ديمومة هذه الحقوق تستدعي القيام بمجموعة متوازية من الواجبات … و بين هذا و ذاك ظهرت الجدلية الاولى حول كيفية إدارة هذا التوازن و الآليات التي يجب اتباعها… أساس الجدلية كان معادلة بسيطة وهي انه كلما كبر المجتمع و كلما تعاظمت شؤونه تعقدت ظروف ادارته…. فبينما يمكن الافتراض ان الغالبية عادة تتوافق على ضرورة الحفاظ على التوازن…..تختلف آراء الكثيرين حول الكيفية اي على الاليات… و هكذا ظهرت بين “الحقوق” و ” الواجبات” تعقيدات جديدة و توالدت اجيال من المركبات النفسية و المجتمعية و المصالح و انواع متناقضة من الارتباطات و التأويلات و التفسيرات حتى غدت ذات الفرد تتمدد لتبني مركزيتها في كل ركن من العالم الذي يتسع دوما …. كما اصبح المجتمع يتمدد في داخل الفرد و يبني هياكله في ركن و زاوية من عالم الذات ….و ازاء هذا التداخل المتسارع في جغرافية الفرد و المجتمع واجه الجميع سؤلا منطقياً بسيطاً…. هل يكفي الإيمان بقدرة الله… ام ام العقل الذي وهبه ليمثل رمزاً لقدرته داخل الانسان يجب ان يساهم في التخطيط و اتخاذ القرارات و التنفيذ… فالإيمان اصبح عالما من المتناقضات في الأحلام و الرغبات و التقى مع العقل في التوضيف السياسي لإدارة الحرب و السلام…
مع تطور المجتمع و انقساماته الى مجتمعات بهويات و هيكليات مختلفة نتيجة تغيرات الظروف البيئية و ظهور الأفكار و الفلسفات و التنظيمات الاقتصادية و السياسية و النخب الثقافية…..تفاقمت الجدلية و تحولت في كثير من المراحل التاريخية من التجاذب الى الصراع السياسي و الدموي نتيجة هيمنة قوى احادية التفكير في هذا الجانب او ذاك بسبب عدم حدوث تغيير جوهري في البنية السايكولوجية للانسان الفرد الذي ظل يعيش حالة الحيرة الاولى و لم يغادر الكهف الداخلي و قوقعة الذات… بل ما زال يعاني “ذاكرة الالم الوجودي” و ما يزال يبحث عن مكان يأوي اليه لينعم بالأمان …سواء كان هذا الأمان مرهون بالتقدم العلمي و التكنولوجي و الاستئثار بالامكانات المادية و العقلية و بالتالي شدة الصراع مع الاخر كما في حالات الاستعمار و الحروب و غيرها….او الهروب الى كنف الله و الصراع على “الطريق الى الجنة” و بالتالي تفشي ظاهرة التكفير و شيطنة الاخر في محاولة دحره و ابعاده عن الوصول الى “رحمة الله”…!!.. (هذه الحالة تعيشها غالبية البشر على الاقل في لحظات معينة الا ما رحم ربي )…
و لعل التاريخ السياسي في التجربة البشرية يعلمنا ان هذه الجدلية كانت بشكل كبير تلعب دوراً رئيسيا في قيام الأنظمة و الدول و الإمبراطوريات … و تطورها او تدهورها و سقوطها…..لان الجدلية الذاتية انتقلت مع بناء المجتمعات من سلطة الفكر و هيمنته (الدين) الى فكر السلطة و هيمنتها (الدولة /المجتمع)… و ما بينهما من تآلفات و تحالفات و انشقاقات و تمزقات و أحاديات في تطور الفكر و التجربة الفردية و الجمعية ..
ما اود ان اؤشر اليه هو ان هذه الجدلية ليست نتاج مشروع التنوير في أوروبا و صراعه مع السلطة الكنسية كما يشاع و يردد… إنما هو صراع الانسان مع ذاته …. اكتشاف الذات و حاجته للاخر…. و ربما كان الشيخ علي عبد الرازق يعيش هذه الحالة في وعيه عندما استنبط في فكره اشكالية العلاقة ….اولا …. بين مفهوم الدين كمحتوى لقيم دينية و روحية و التوظيف السياسي لهذه القيم …. و ثانيا…. مفهوم الدولة كمحتوى لمنظومة هائلة من العلاقات و الترابطات و أنظمة و اليات و أدوات و صراعات و احلام و رؤى … الخ…
شخصيا اعتقد بان الدين اكبر من كونه ظاهرة اجتماعية و اعظم من ان يتم اختزاله في حاجة الانسان المادية و النفسية … و عليه ايضا يجب ان يكون عصيا في وجه توظيفه في إدارة المجتمع… فالدين ينبغي ان يحتفظ بقيمته الاخلاقية و الروحية … لكن على الجانب الاخر… فان الدولة هي ايضا اكبر من السلطة و لا يمكن اختزالها في بضع أدوات تنفيذية مثل للجيش والشرط او هيئة قضائية او احزاب….
و اعتقد ان من اهم مظاهر و تحديات الجدلية التاريخية بين الدولة في زمن الحداثة و الدولة القومية (الوطنية) هي محاولات إيجاد حالة مستدامة من التوافق بين المسلمات القطعية في البنى الاجتماعية الثقافية سواء كانت عقائدية دينية او فلسفية أيديلوجية و بين السياسة كونها مجموعة من الالتزامات الحقوقية و العملية و البراجماتية …. لان المسلمات بغض عن طبيعتها و أسسها فهي في النهاية تتعلق باستراتيجية طوباوية غير قابلة للتحقق من إمكانية تطبيقها… بينما البراجماتيات تتعلق بالحياة اليومية للإنسان الفرد و المجتمع…
المجتمعات الغربية التي أنتجت تجربة الدولة الحديثة استطاعت بشكل او باخر إيجاد مشروع توافقي في علاقاتها الداخلية (و ان كانت تُمارس استعماراً خارجياً يدعم توافقها الداخلي)…. بينما المجتمعات الأضعف اقتصاديا و هيكليا ما تزال تعاني الكثير … بل ان هذه المعاناة تتسارع احيانا … و لعل مجتمعات الشرق الأوسط هي من اهم تلك المجتمعات التي تتسارع فيها الأزمات في الفكر و التجربة… و بالتالي في المفهوم الديني و الفلسفي … كما في إدارة الدولة و تحديد اليات عملها و أولوياتها …
و طبعا … مصر … الدولة و المجتمع … التراث و التجربة التاريخية… هي في القلب .. ليس فقط بسبب تطوراتها الداخلية و إنما ايضا بسبب مفصليتها الثقافية و السياسية و الاجتماعية بين مجتمعات الشرق الأوسط … العالمين العربي و المسلم … بين الاسلام و الاديان الاخرى و بين المسلمين و غير المسلمين من الشرق و الغرب…
و هكذا فان النقاشات التي تجري على هذا المستوى او ذاك… و في هذه المناسبة او تلك و منها هذه الندوات في معرض القاهرة الدولي للكتاب … هي نقاشات تتجاوز الحدود المحلية في طروحاتها و رؤاها الفكرية و الاجتماعية و السياسية سواء كانت هذه الحدود تتعلق بالنخب السياسية و الثقافية او الجغرافية الوطنية بكل تجلياتها في الازقة و المدن و القرى و الارياف …او تتعلق بالمفاهيم القيمية و الاخلاقية ودور الانسان في الحياة….فالدولة المصرية تعتبر من اقدم المؤسسات السياسية في العالم و الانتاج الثقافي المصري يسع كل العالم العربي و حضور الأزهر يمتد مع امتداد المجتمعات المسلمة و ذاكرة العنف السياسي في الاسلام لها تجربة خطيرة و “رائدة” في مصر في عهد الدولة الحديثة…
كل هذه الحقائق تشكل تحديات تتوالد و تتطور و تضع الدولة و النخب المصرية في دوامة من امتحان الذات و المسؤولية امام الآخرين …. كل الآخرين… و السؤال الدائم هو كيف يمكن إيجاد حالة من التوافق بين كل هذه المتغيرات…. ؟؟؟..
في المقالة القادمة سنناقش بعض المؤشرات… لكن قبل ذلك اود ان اشكر الأساتذة الكبار و الزملاء الذين تشرفت بالحضور معهم في الندوة الثانية… الدكتور كمال مغيث الذي ادار الندوة و قدم لها بطروحات تمثل العمق الثقافي المصري الواسع و الدكتور حلمي شعراوي بكل ما يحمله من تراث مصر الحديثة من تجربة سياسية رائدة و الاستاذ حازم عبد الظاهر الذي يجتهد كثيرات جمع تراث الشيخ علي عبد الرازق المنتشرة هنا و هناك و الدكتور عمرو كمال حامد حفيد الشيخ علي عبد الرازق و الذي قدم رؤية تاريخية عائلية عن حياة الشيخ …. تحياتي و حبي للجميع..