وتراه أصغرَ ما تراه ناطقاً … ويكونُ أكذبَ ما يكونُ ويقسمُ
بيتٌ من قصيدة لـ “المتنبي” إن لم تكن من عيون الشعر العربي، فلا أقل من أن أحد أبياتها نال من الشهرة ما لم ينله كثير من الشعراء المجيدين، وهو:
لا يسلمُ الشرف الرفيعُ من الأذي … حتي يراقَ علي جوانبه الدمُ
إنها واحدة من القصائد المكتوبة تحت ضغط الترقب وتوقع الخطر، لكن المتنبي نجح من خلالها في أن يبدد خوفه شعرًا ويخلد ضآلة خصمه، كما أنها إحدي القصائد التي ولدت في “لبنان”، وللقصيدة قصة، هذه هي:
سنة 336 هجرية خرج “المتنبي” من “الرملة” يريد “أنطاكية”، فنزل بـ “طرابلس” وبها “إبراهيم بن كيغلغ” وكان أخرقاً، يجالسه ثلاثة من بني حيدرة وبين “المتنبي” وبين أبيهم خصومة قديمة فقالوا له:
– ما نحب أن يتجاوزك ولم يمتدحك، إنما يترك مدحك استصغارًا لك!
لقد نجحوا في تكديس قلبه بالمشاعر العدائية ضد “المتنبي”، فاستدعاه وسأله أن يمدحه، وتعلل “المتنبي” بيمين عليه ألا يمدح أحدًا إلى مدة، فاعترض “ابن كيغلغ” كما يليق بأخرق طريقه ينتظر نفاذ تلك المدة وضبط الطريق بعيونه وحراسه تحسبًا لهروبه، وفي ذلك يقول المتنبي:
يحمي “ابنُ كيغلغِ” الطريقَ وعرسُهُ … ما بين فخذيها الطريقُ الأعظم
لم يتوقع “ابن كيغلغ” ماذا يمكن أن يحدث عندما يجتمع الشعر والفروسية في شخص واحد، لقد كان رد الشاعر قاسيًا وتاريخيًا، هو لم يفعل سوي أن كتب قصيدته هذه وأملاها على من يثق به وهو يقول له:
– لو فارقته قبل قولها لم أقلها أنفة من اللفظ بما فيها!
وعندما بدأ الثلج في جبل “لبنان” يذوب، خرج المتنبي كأنه يريِّض فرسه ونجح في الفرار، ومن قبل حتي أن يصل “دمشق” كانت القصيدة قد مضغتها الألسنة وابتلعتها المسافات!
قد يبدو الحديث عن علاقة بين “المتنبي” و بين “لبنان” غريبًا، علي الرغم من أن علاقته بهذا البلد الجميل أبعد من ذلك، إنها تعود إلي شبابه، فإن مما هو في حكم المؤكد أن من بين المعلمين الذين يلمع أثرهم كالسكين في شعر “المتنبي” وشخصيته رجل صوفي كان يقيم في “لبنان” اسمه “أبو علي هارون بن عبدالعزيز الأوراجي”، تلك النزعة الصوفية في شعره وبعد المسافة بين الصورة وتوقع المتلقي وسهولة الانتقال من صورة إلي صورة تحتاج نظرة صوفية ليس فقط دراية بالعروض، ولقد وثق هو هذا الأثر وامتنانه للـ “الأوراجي” في أبياتٍ له تنبض بالحنين:
بيني وبين أبي عليٍّ مثله … شم الجبال ومثلهن رجاء
وعقاب لبنان وكيف بقطعها … وهو الشتاء وصيفهن شتاء
لاشك أن “ابن كيغلغ” كان أحمقاً والحماقة كاسمها، والحمقي متشابهون، وكلهم علي الدوام يظنون أن نضارة الرؤية ونفاذ البصيرة والتفهم السليم للواقع حكرٌ عليهم وحدهم!
وقبل يومين تسائل “ميشال عون” عن الجهة التي تقف وراء الاحتجاجات، وأفصح عن مخاوفه علي “لبنان” من الربيع العربي الذي وصفه بـ “جهنم العرب”!
كلماتٌ أليفة ومطروقة ومستهلكة يمكن اختزال منصات إطلاقها علي الدوام في ديكتاتور بليد، أو جرذ مستفيد من رسوخ الواقع المذل الراهن وتحجره، أو أخرق من أصحاب الحد الأدني لا يجيد الكلام باللغة الدارجة حتي!
كأن رئيس تكتل (التغيير والإصلاح) يتعامل مع واقع اللبنانيين العاهر باعتباره واقعًا لا سبيل إلي حلحلته أو حتي رجه ما لم يكن التغيير ممرًا إلي أحلامه هو وخططه التي صممها من أجل عائلته، وأن يخرج هذا الكلام من “عون” تحديدًا حدث من شأنه أن يذكرني بمثل روسي يقول:
“كل بقرة تخور إلا بقرتكم”
وهو يضاهي من حيث الدلالة:
“انظر من يتحدث”!
وقبل ست سنوات وفي أيام كهذه الأيام، بعد منتصف أغسطس عام 2009 تحديدًا، كان لـ “عون” تصريح آخر قال فيه:
– انتقلوا من الثلث المعطل إلى “الصهر المعطل”، وأفتخر بتعطيل المافيا!
في ذلك الوقت كانت كل الجهود التي بذلها “سعد الحريري” لتشكيل حكومة قد انهارت أمام رغبة “ميشال عون” في أن يصبح صهره “جبران باسيل” وزيرًا علي الرغم من رسوبه في آخر انتخابات نيابية، آنذاك، استطاع كاتب لبناني في لحظة إلهام مشعة أن يستنسخ من مصطلح “الثلث المعطل” مصطلح “الصهر المعطل”!
حكاية تختزل عهر الواقع اللبناني الذي ما هو إلا انعكاس لواقع الوطن الكبير من الماء إلي الماء، تتنوع المسارح والملهاة واحدة والأبطال متشابهون، هذا يعني أن شخصًا واحدًا بمقدوره أن يجمد حياة الناس ومصالحهم من أجل أطماع شخصية وانحيازات أسرية بسهولة الماء، ما دام الأمر هكذا، فأين هو الوطن إذاً؟ وهل ثمة موطأ لخسارة جديدة يمكن أن تطال اللبنانيين؟
وما دام الأمر هكذا، يصبح التظاهر من أجل النفايات فقط فعلٌ تافه، أن ينخفض سقف المطالب إلي إقالة وزير أمر لا يستحق عناء الوقوف، لابد أن تلتحق التظاهرات بهدف أعلي سقفاً، استغلال قوة اللحظة وقيادة الفرس إلي الماء، التخلص من النفايات السياسية أولاً ثم نقطة وبداية جديدة، النزوح إلي وطنٍ لا يولد فيه مثل “المشنوق” ولا “الصهر المعطل”!
من الجدير بالذكر أن الذين لمسوا “عون” من مكان قريب ممن ليس لديهم مطامع مالية أو سياسية اتفقوا جميعًا علي أن الرجل معقد، وأن الرجل ممتلئ بحلم مريض في أن يصبح رئيسًا للجمهورية وأن يؤسس بيتاً إقطاعيًا بعمارةٍ مارونية الطابع، وأن كل مواقفه السياسية وثيقة الارتباط بالمسافة التي تفصله عن هذا الحلم!
اتفقوا، أيضًا، علي أن كل ما ينهك الجنرال علي الأرجح ويمتص ذهنه هو أن ثمة عائلات متواضعة الجذور استطاعت أن تؤسس بيوتاً سياسية وأن تحكم “لبنان” مثل بيت “الجميل” السياسي، وبيت “فرنجية” السياسي أيضًا، وبيت “اده” السياسي، وبيت “لحود”، كما أصبح “كميل شمعون” رئيسًا للجمهورية وهو مجرد محام ينتمي مثله إلي عائلة هزيلة، وهو يفصح عن نقمته علي كل هؤلاء في وضح النهار، ويري، ككل جنرال كلاسيكي أنه أحق من كل هؤلاء بما يظنه مجدًا!
دوائر مكتملة وصلبة لا يستطع كسرها أحد ممن يعيشون علي الحافة كحافة الغجر الشهيرة، وعندما ظن الحمقي أن “عقاب صقر” فعلها، كل ما صدر عن الرجل بعد ذلك أكد أنه لم يكن بمفرده وأن جهة ما كانت وما زالت تقف وراءه، وربما جهات!
وما من شك أن الثورة تصبح فعلاً أخلاقيًا لا مجرد ضرورة متي أصبحت رقعة جغرافية مجرد كعكة علي مائدة مستديرة يجلس حولها فقط عدة بيوت متصارعة لا يتحدون أو يتهادنون إلا عندما يستيقظ الذين يعتبرونهم عبيدًا للأرض من السكان الأصليين ويفكرون في البحث عن قانون أنبل للحياة!
بالدوران أكثر حول “ميشال عون” ليس من الصعب أن نلمس أنه يستدعي بإسراف ذلك الزخم الذي سيجه اللبنانيون به عند عودته من منفاه الاختياري، آنذاك، كان اللبنانيون يرون فيه مسيحًا جديدًا بإمكانه أن يجلب لهم الخلاص من جحيم الإقطاع، أن ينتشل البلاد من الأفق المتوتر، غير أن كل مواقفه السياسية بعد ذلك لم تبدد احترامهم للجنرال فقط إنما أيقظت في صدورهم شدوًا مريبًا، لقد رأوه من مكان قريب، إنه لا يختلف عن الآخرين، مجرد لبناني ولد في “حارة حريك” أنهكته أمراض ماضيه وأصوله النحيلة يحمل كالآخرين روحًا إقطاعية، لكأن “المتنبي” قبل أكثر من ألف عام كان يعنيه بقوله:
وارفق بنفسك إن خلقك ناقصٌ … واستر أباك فإن أصلك مظلمُ
ليس هذا كل شئ، فإن مما يسوِّف اللبنانيون في التنقيب عنه حتي الآن هو دور “عون” الغامض في تبديد جيش “لبنان” المسيحي من الأمام ومن الخلف ومن الجانب الآخر في حربه ضد ما أطلق عليها الميليشيات، فحدث، تعقيبًا علي انهيار العضلة المسيحية في أجواء مشحونة بالتوتر والركود وانشغال المسيحيين بترميم جراحهم، أن فوجئ اللبنانيون بولادة “حزب الله” ضخمًا وصلبًا ومنفردًا يطوق الجميع، وما من شك أن تفريغ الساحة لجيش مذهبي في بلد متعدد الطوائف أمرٌ من شأنه أن يدعو إلي إشعاع الريبة، ويدعو، بالقدر نفسه، إلي قراءة تحالف “عون” و “حزب الله” في ضوء آخر، كما يضع غابة من علامات الاستفهام خلف حقيقة “ميشال عون”!
سنين كثيرة منذ عودة الجنرال قد ماتت، فقدت خلالها نجوم كثيرة وضوحها وسقطت أشجار أرز كثيرة وازدهرت أشجار، ولم يستطع “عون” حتي هذه اللحظة تحقيق حلمه، ولا يري أحدٌ حتي الآن فرقاً كبيرًا بين بيت “عون” السياسي وبيت “شمص”، فكأنه يريد أن يجمد الوضع الراهن حتي لا يزداد عصبية وحدة ذلك التآكل المتصاعد للرقعة التي يتحرك فوقها حلمه السخيف..
لم يسأل الجنرال الكلاسيكي نفسه قبل أن يتورط فى اختزال الواقع في نظرية المؤامرة سؤالاً بسيطاً:
هل الذين حولوا “لبنان” بحماقاتهم صندوق بريد للرسائل السياسية حول العالم هم هؤلاء الشباب الذين لا يريدون أكثر من وطن خالي من النفايات؟
هل هم الذين سمحوا للسعودية وإيران وإسرائيل أن يتبادلوا علي أرضهم اللكمات المذهبية، وهي لكمات سياسية بالأساس ليس للسماء شأن فيها؟
هل هؤلاء الشباب هم الذين خاضوا حربًا لا طائل من ورائها مع وجود البدائل أوهنت اقتصاد “لبنان” وفتَّتت عضلاته العسكرية المسيحية فوضعوا بذلك حدًا لتوازن القوي الضروري لمجتمع تلمع الطائفية فيه كالخنجر لصالح من يهمه الأمر؟
ويبقي السؤال الأهم:
هل الاستقرار في حد ذاته قيمة تستحق أن يضحي الإنسان من أجلها بحقه في حياة كالحياة؟
كانت فرضية الربيع العربي وما زالت هي مغادرة الرحم المتعفن والولادة من جديد في وطن بمفردات أخري، كونها منيت بالفشل لا يصلح دليلاً علي فساد الفكرة، إنما تأكيد لسلامتها ورقيها وحيويتها، ذلك أن فسادًا بهذا العمق استطاع أن يجهض الموجة الأولي من الثورات ببساطة يستحق آلاف المحاولات لاقتلاعه والتبول فوق جذوره!
أود أن أقول في النهاية:
اتفق مع “ميشال عون” في وصفه الربيع العربي بـ “جهنم العرب”، هذا هو الخبر السئ، لكن الخبر السار هو أن ما يراه “ميشال عون” وكل “ميشال عون” من المحيط إلي الخليج ليست “جهنم” إنما هو صوت تقدمها فحسب، لكنها قادمة لا محالة، ولبنان رح يرجع، ومصر رح ترجع، والخليج رح يرجع، والمغرب رح يرجع، والشام رح يرجع، مسألة وقت، فانتظروا إنا منتظرون، وكونوا كتار!
محمد رفعت الدومي