ويسألونك عن اللآ دينيين السودآنيين : قل هم أذى فلا تقربوهم ! : ـ
فردت صحيفة الجريدة يوم السبت 14 ديسمبر 2013 م جانباً من صفحتها الأُولى أوردت به الخبر التالي : (( حذّر إمام وخطيب مسجد كافوري د.عصام أحمد البشير من خطورة ظهور مجموعة سودانيون لا دينيون وعدّ ظهورهم خطراً يتهدّد عقيدة المجتمع السوداني ، وطالب خلال خطبة أمس الجمعة بإطلاق مبادرة للحوار مع الشباب الذي قال أنّه يعيش في صومعة على مواقع التواصل الإجتماعي مُشدِّداً على إيجاد خطاب يتناسب ومعارفهم وعصرهم وتحديات زمانهم ، وأضاف : يجب أن يكون الخطاب قريباً منهم حتى لا يفوتنا القطار ونجدهم صرعى … وأوصى الوزراء الجُّدد بالإقتراب من هموم المجتمع وتحسس الآمه والتعرف على مشكلاته .))
بالطبع لا جديد في رؤية الدكتور الشيخ عصام البشيرللملحدين واللا دينيين يتفرد به عن رؤية الخطاب الديني السائد لهم ، والذي لا ينظر إلى المخالف ـ الذي قد لا يكون بالضرورة ملحداً ـ كظاهرة مُقلقة بل وخطيرة تُهدِّد المجتمع الذي يتصور الخطاب الديني أنّهُ الوحيد المُعبِّر عنه والناطق بإسمه ، وأنّ أيّ خطر عليه هو بالضرورة خطر يحيق بالجتمع ككل .
وكعادة الخطاب الديني يغلب على حديث الشيخ عصام الطابع التعميمي العائم فضلاً عن النزعة الوعظية والوصائية ، فعلى حد وصف الدكتور عصام إنّ ظاهرة اللاديينين بالسودان ظاهرة تُشكِّل خطراً على عقيدة المجتمع السوداني ، ولكن دون أن يُحدِّد لنا طبيعة تلك العقيدة التي تصالح وتوافق عليها السودانيون ـ الذين يشهد تاريخهم على أنّهم لم يتفقوا قط على شئ ، لا في الدين ولا في السياسة ولا في كرة القدم ـ يُشكِّل هؤلاء اللا دينيون خطراً ؟ أهي عقيدة الصوفية أم أنصار السُنّة أم الأُصوليين أم الأقباط أم المسيحيين ؟ مع الوضع بالإعتبار أنّهُ حتى خلافات المذاهب الإسلامية الموجودة في السودان خلافات لا تنحصر فقط في الفروع وإنّما تطال العقائد والتصورات عن الله لدرجة حدت ببعضهم نحو تكفير البعض الاخر .فلو فتحنا باباً إسمه ( ما هو خطر علي العقيدة ) فسنجد حتى المسلمين يكيلون الإتهامات لمسلمين مثلهم بوصف تصوراتهم عن الله ( عقيدتهم ) تشكل خطراً على ما يعتقدون أنّهُ عقيدة أهل السودان ، طالما لا يوجد تعريف واضح لعقيدة أهل السودان هؤلاء ، وطالما إستباح كلّ صاحب معتقد وجدان السودانيين ونسب لهُ معتقده هو بوصفه معتقداً لكافة أهل السودان ! .
فلنقل مثلاً أنّ الفكر اللآ ديني يُشكِّل خطراً على كلِّ تلك العقائد بإعتبار الدكتور عصام يعني بعقيدة المجتمع السوداني كلّ تلك العقائد مجتمعات ، فلماذا تُشكِّل اللآ دينية خطراً لا تُشكِّله تلك العقائد لبعضها البعض رغم طابعها التناحري وتعاليمها التي لا تخلوا من الأمر بقتل الآخر وسفك دمه بوصفه كافراً أو مهرطقاً ، الأمر الغير موجود في المعتقد اللآ ديني إن جاز لي التعبير ؟ بمعنى آخر لماذا مثلاً يعتبر الشيخ عصام اللآ دينية خطراً على عقيدة المجتمع السوداني ولا يعتبر المسيحية مثلاً خطراً كذلك ؟ وهل يوافق الشيخ عصام على حق اللآ دينين السويديين ـ وهم الأغلبية في السويد ـ في أن يعتبروا الإسلام خطراً عليهم ويشرعوا ـ أي السويديون ـ من فورهم في إزلة هذا الخطر ، هل يوافق الشيخ عصام من منطلق الإتساق مع الذات على ذلك وفق قاعدة ( لا تفعل بالاخرين ما لا ترضى أن يُفعَل بك ) .
الشيئ الجديد الوحيد و الطريف الذي تفرّد به خطاب الشيخ عصام هذه المرّة هو أنّ الشيخ الدكتور عصام يعتقد أنّ الشباب الذي يعيش حسب تعبيره في ( صومعة التواصل الإجتماعي الإسفيري ) هو شباب معزول ، رغم أنّ هذا الشباب بكبسة زرًّ واحدة أو لمسة على الشاشة يُمكن أن ينال ملايين المعلومات عن ملايين الموضوعات ، ورغم ذلك نجد أنّ الشيخ عصام ـ الذي يعيش في صومعة المسجد وبين دفوف كتب التراث ومتونها وحواشيها وشروح متونها وشروح حواشيها وشروح شروح متون متون حواشي حواشيها ـ يعتقد أنّهُ هو الغير معزول ، وهو المنفتح إنفتاحاً يؤهِّله لتقمص دور الطبيب بل والوصي وشفاء المعزوليين في صوامع الإنترنت !
في دولة القانون لا يوجد ما يسمى فكراً خطراً على العقائد ، ولا وجود لمصطلح مثل عقيدة الشعب أو دين الشعب ، إذ لا يحق لأحدٍ أن يتحدث بإسم وجدان ( عقائد ) الشعب ، ويزعم الدفاع والذّب عنها في وجه عقيدة أُخرى يتبناها لفيف من ذات الشعب بغض النظر عن عدده ، فالدولة لا يجب أن تتدخل في صراع ( حوارات ) العقائد ، ولا يجب كذلك على الأفراد أن يُنصِّبوا أنفسهم حُماةً لعقيدة بعينها إلاّ عبر الحوار والنقاش وعدم إقصاء الاخر أو الدعوة لإقصائه أو ممارسة العنف عليه .
على الدولة أن تتدخل في صراع العقائد هذا في حالة واحدة فقط ، وهي في حالة وجود عقيدة تُنادي بقتل المرتد أو تُنادي بالحَجر على عقيدة أُخرى أو على حد تعبير الصديق ( إيهاب ادريس ) ممارسة العنف المباشر المادي الذي لا يحتمل التأويل على الاخر المخالف ، وهذه الحالة لا تنطبق على اللآ دينيين إطلاقاً ، فلم نسمع بلآ ديني يُنادي بقتل المتدينيين أو الحَجر عليهم ، ناهيك عن تفجير نفسه أو إعتبار نفسه ـ بناءً على معتقده ـ وصياً على أخواته أو زوجته أو قريباته ، الخطر هو من بعض المتديين الذين يعتقدون أنّ من حقِّهم أن يتدخلوا في شؤون الاخرين الخاصة بذريعة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، والذي يُفجِّر نفسه أو يذبح المخالفين له .
لا يكتفي دكتور عصام وفق ما جاء بالخبر أعلاه بمجرد التحذير من خطورة اللآ دينيين ، بل يتجاوز ذلك إلى وضع الحلول التي من وجهة نظره تُساعد على التخلص منهم ، والحقيقة فإنّ طبيعة الحلول التي يُطالب الدكتور عصام الدولة ممثلة بوزرائها بتنفيذها هي حلول على الأرجح تفترض في اللآ دينيين مشكلة تُعادل موضوعياً مشكلة الفقر و الفساد و التهرب من الزكاة … الخ ، فهو يربط كلّ تلك المشاكل سوياً بحيث يتحقق التماهي فيما بينها في ذهن المستمع له ، انظر إليه مثلاً يتحدث في محضر تحذيره من تنامي التيارات اللآ دينية مخاطباً الوزراء عن (( أهمية الزهد و طهر اللسان والعفة ….وترشيد الإنفاق العام وتقوية اليات مكافحة الفساد )) حيث تصبح اللآ دينية هي المآل الطبيعي والنتيجة الحتمية للفساد ونجاسة اللسان ، في إختزالٍ سطحي للغاية للآ دينية يصورها بإعتبارها محض ردة فعل للفساد متغاضياً عن كونها موقف فلسفي من الوجود يتعدى رد الفعل على المجالات التطبيقية السلبية للدين إلى مضمون الدين وثوابته ومرتكزاته الفكرية وأُسِّسه النظرية . فالإعتراض ليس على فساد الحاكمين بإسم الدين بقدر ما هو على الدين نفسه .
هذا طبعاً لو لم نُضِمر في تحليلنا لكلام الشيخ عصام النيّة السيئة وتعاملنا معه على نحو سطحي أو ظاهري ، ولكن لو قرأنا حديثه في الإطارالذي غالباً ما تأتي أوتنبني عليه موافقه فقطعاً لن نجد مساحة للنيّة الحسنة ، فمواقف الرجل في مثل تلك القضايا ـ كما هو معلوم من تاريخه ـ تأتي غالباً مؤيدة للسلطة ، أو بالأدق مُعبِّرة عن رأي السلطة وموقفها ، إنظر على سبيل المثال إباحته للربا ليُخرج الحكومة الإسلامية بالخرطوم من مأزقها الإقتصادية الذي لجأت بسببها إلى القروض الصينية والخليجية ، وإنظر الفتوى التي أطلقها أبان الإحتجاجات التي سبقت رمضان قبل الماضي حيث أفتى بأنّ إستنشاق الغاز المسيل للدموع يتسبب في إفطار الصائم ، وإنظر فتاواه المتعلقة بحرمة سفر الرئيس المُطارَد من قبل المحكمة الجنائية ، وهي فتاوى إمّا صدرت منه مباشرةً أو صدرت بإسم المؤسّسة التي يرأسها ( وزارة الإرشاد والأوقاف ، مجمع الفقه الإسلامي ، هيئة علماء المسلمين … الخ ) .
ويُمكن من خلال حديث الشيخ عصام أن نستشف ما تُضمر السلطة من خيارات للتعامل مع اللآ دينيين السودانيين في المستقبل ، وأنّ موقف الشيخ محض تمهيد لتلك الحملة الربانية التي ستُشن عليهم ، فرجل الدين دائماً يسبق الأساطيل الحربية كما علّمنا التاريخ .
فما صدر من الشيخ عصام بنظري مجرد تمهيد أو غطاء للحل الأمني ، فالملاحظ أنّ حديث الشيخ عصام هذا ترافق مع علو نبرة الأجهزة الأمنية بضرورة مراقبة العوالم الإسفيرية إستكمالاً لمشروع الجهاد الالكتروني الذي أعلت الحكومة الإسلامية راياته ودقّت طبوله منذ مطالع الربيع العربي في شتاء العام 2011 على إثر تفاعل قطاعات شبابية سودانية مع الحدث العاصف الذي غيّر الكثير بالمنطقة رغم أنف الرافضين لهذا التغيير بدعوى محصلته الإسلاموية البائسة والمُحبطة .
وفي الحقيقة فإنّ هذا الحل الأمني الذي يُمهِّد له الشيخ عصام تتعدى أهدافه ما هو معلنٌ عنه ، أي أنّه لا يستهدف اللآ دينيين فحسب ، فهو وبالأساس محاولة لتكفير الحراك المعارض للنظام إسفيريا برمته والذي بات واضحاً ما يُمكن أن يلعبه في المستقبل من دور في عملية التغيير المرتقب ، فتهم الإلحاد كانت من أسهل التهم إلتصاقاً بالمخالف ، وأكثرها فاعليةً وتأثيراً على شيطنته أمام الرأي العام ، ففي التاريخ الإسلامي تقريباً لم تُوجّه تُهمة الإلحاد للملحد بالفعل بقدر ما وُجِّهت للمسلمين المناوئين للسلطات أو المعارضين لفقهائها ومُطبِّيلها . لذلك من المهم هنا التنبيه إلى أنّ محاربة اللآ دينية في الإنترنت المُستهدَف منها كلّ من عارض النظام ، وذلك عبر توسيع مظلة اللآ دينية لتشمل كلّ من يعارضون النظام تمهيداً لعزلهم جماهيرياً ومن ثمّ ممارسة أشد أنماط العنف المادي عليهم بعد تحييد الرأي العام الذي سيتم إسكاته بإلحاد هؤلاء المعارضين .
عموماً قد أكون مخطئاً في تكهناتي تلك ، ولكن على الشيخ عصام لو كان جاداً في رغبته في الحوار مع هؤلاء اللآ دينيين عليه في البداية أن يخلع عن نفسه معطف الطبيب النفسي ، ويلتزم بعمامة الشيخ ، ومن ثمّ يتعامل مع هؤلاء الشباب بوصفهم حملة أفكار لا حملة مشاكل نفسية ومادية ، وعليه ثانياً قبل أن يتحاور معهم أن يُجاهر برفضه لحد الرِّدة ، فلا يُمكن للجلاد أن يُحاور ضحيته ، كما كان يفعل الشعراني في الثمانينات مع معتقلي الإخوان المتهمين بقتل السادات ، عندما كان يؤتَى بالإخوان وهم مقيدون بالأغلال ومعصوبي الأعين في منتصف غرفة الإستجواب ويجلس بالطرف المقابل لهم فضيلة الشيخ الشعراوي الذي نذر نفسه لهدايتهم لسماحة الإسلام ، دون أن ينتبه للتناقض بين دعوته لسماحة الإسلام وبين الوضعية التي إرتضى أن يكون عليها محاوره ( مُقيّد ) .
هل يستقيم الحوار واحد طرفيه في كرسي الإستجواب والطرف الاخر هو ممثل السلطة المُستَجوِبة ؟ بالتأكيد لا ، وكذلك لن يُجدي الحوار وأحد أطرافه يعتقد أنّه يجب أن يقضي على محاوره هذا ويقتله ، أو أنّ محاوره مريض نفسي أو معزول أو ضال .
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
معاً ضد كلّ سلطة ظلامية تمنع العقل الإنساني من الوصول إلى نور الحرِّية حباً في الإستبداد وتعلقاً بالسيطرة !