يوسف الديني: الشرق الاوسط اللندنية
خلال العام الفائت جرت في ساقية واقعنا العربي مياه كثيرة، ورغم بقاء الحالة السورية دون الحسم؛ فإن كشف حساب العام المنصرم، يقودنا إلى الحدث الأكبر من وجهة نظري باعتباره نهاية المطاف والمحصّلة النهائية للثورات التي اختطفها الإسلام السياسي، هذا الحدث هو تأسيس لولاية فقيه سنية هي «ولاية المرشد»، وبغض النظر عن تفاصيل المشهد السياسي أو الحراك المجتمعي المنقسم على الواقع على خلفية انتماءاته الآيديولوجية أو على الأقل تعاطفه مع الإسلام السياسي باعتباره التيار المسيطر بالتحالف مع السلفيين على الشارع، فإن من المهم الخروج من تفاصيل معارك الوجود في الشارع العربي بين الإسلاميين وخصومهم والتي يتم فيها اللعب بالأرقام واستغلال الحشود إلى رحاب التحولات الكبرى ومنها المفاهيم التي استطاع «الإسلام السياسي» تمريرها داخل الجسد الإسلامي الذي يعيش نقلة نوعية على مستوى البنى الأساسية لأفكاره وفي مدى زمني قصير جدا إذا أخذنا في الاعتبار أن الأفكار والمفاهيم الكبرى تحتاج إلى عقود لترسيخها، وهذا ما يدل على أن إرهاصات ولاية الفقيه بدأت مبكرا حتى ما قبل زمن الثورات بوقت طويل.
نقطة التمهيد لولاية الفقيه السنية أو ولاية المرشد لا يمكن تحديدها بدقة لكن الأكيد أن تأسيس المودودي وسيد قطب لاحقا لمفاهيم الحاكمية والمجتمع الجاهلي ودور الإسلام والحرب، وهي مصطلحات ومفاهيم فقهية قديمة، تم تفريغها من محتواها وحقنها بمعطيات سياسية جديدة مستمدة من واقع الصراع الذي ولد فيه الإسلام السياسي، والغريب إذا ما استثنينا الجماعات الإسلامية التقليدية كالتبليغ وأهل الدعوة فإن كل أطياف الإسلام السياسي بدءا من «الإخوان» ومرورا بالحركيّات المنبثقة منها وهي كثيرة ومتنوعة وصولا إلى أحزاب كالتحرير والخلافة وجماعات العنف المسلح، كلها ولدت في ظروف صراع وفي إطار ثقافة الأزمة مع السلطة الحاكمة، وهو ما يعني بشكل مباشر أن المفاهيم المؤسسة لها تحمل بذور التطرف الكامنة بحكم المناخ الذي أنتجت فيه. ويمكن لأي باحث متعمق في التراث وتاريخ الإسلام السياسي أن يلحظ الفوارق الضخمة بين المفاهيم ذات الألفاظ المشتركة؛ بل هناك فراغ كبير على مستوى مصادر التلقي لدى رموز هذه الجماعات وبين المصادر الأساسية بالغة الثراء لمسيرة الفكر الإسلامي، وهذا ما كنت ألحظه في جلسات كثيرة في أيام زمن الصحوة الذهبية من جهل كثير من قيادات ورموز الإسلام السياسي بالتراث رغم امتلائهم بتجارب سياسية معاصرة بسبب «المتحولون» وهم تيار انتقل من اليسار في أغلبه أو من القومية أو حتى من تجارب لادينية عاشها في الغرب إلى أحضان الإسلام السياسي، وبالتالي ساهم هذا التيار المتحول في ضخ مضامين سياسية ثورية لكن بألفاظ ومصطلحات تراثية حتى تتمكن الجماهير من هضمها بعد ابتلاعها.
الفجوة بين الإسلام السياسي والتراث الفقهي والمدارس الفكرية العريقة هي جزء من غياب قامات فقهية كبيرة تدرك سعة الخلاف وتعدد المدارس والاتجاهات والآراء التي ساهمت في إثراء حتى القوانين الوضعية لكن هذه الفجوة تم التحايل عليها بخلق طبقة جديدة من الوظائف الدينية التي لم تكن معروفة من قبل وذلك بهدف ملء الفراغ وتحجيم دور الفقيه التقليدي وربما كانت ألقاب مثل الداعية والتربوي والمحتسب والراقي.. إلخ لا يمكن إيجاد جذور تاريخية لها قبل نشأة الإسلام السياسي.
عودا لولاية المرشد المعادل الموضوعي السني لنسخة ولاية الفقيه الشيعية؛ فمن المهم إدراك أن المجتمعات العربية وتحديدا المجتمع المصري لم تكن مجتمعات علمانية بالمعنى الحقيقي لا على مستوى بنية التشريع ولا حتى الثقافة العامة التي يصدر عنها الأفراد، وظل العلماء الشرعيون منذ التصدّع والارتباك الذي أصاب مفهوم «ولي الأمر» في السياق السلفي مؤثرين إما بأداة النصيحة أو من خلال الإنكار والاحتساب على القرار السياسي.
«ولاية المرشد» التي يؤسس لها «الإخوان» الآن في سابقة تاريخية تستخدم نفس السلاح ولكن بصيغة قانونية ودستورية عبر تكريس هيمنة جهة غير منتخبة ذات صفة دينية وهي الصلاحيات الكبرى التي أعطيت لهيئة كبار العلماء في الأزهر الشريف الذي ما زال يقاوم ولا أعتقد أنه سيصمد طويلا أمام محاولات استلاب استقلاليته.
هيئة العلماء التي منحت حق مراقبة وفحص وتثبيت القوانين وإلغائها هي بالضبط شكل وصلاحيات لمجلس مراقبة الدستور في التجربة الإيرانية التي تحيل كل القوانين التي تصدر من البرلمان إلى هذه اللجنة.
ولاية المرشد تفتقد إلى رمزية تشبه سطوة وكاريزما «الخميني» في إيران وهو ما لا يستطيع المرشد القيام به لا شكلا ولا مضمونا، ومن هنا أعتقد أن شخصية كالقرضاوي أو أيا من الشخصيات الفقهية ذات الانتماء الإخواني ربما لعبت هذا الدور ولو بشكل رمزي كما يصنع القرضاوي الذي لوّح بسحب كل المساعدات القطرية في حال عدم التصويت بـ«نعم».
ولاية المرشد لا تستطيع الصمود والحياة إلا بعوامل استراتيجية داخلية وخارجية، فهي تستند إلى استقلال سياسي لا تملكه الجماعة لأنها آتية هذه المرة بدعم خارجي أميركي وعربي وهذا الدعم كما نعلم مشروط عادة، وربما كانت أزمة غزة الأخيرة دليلا على ثقل الديون السياسية التي تدين بها الجماعة، كما أن المناخ الداخلي لا يمكن لـ«الإخوان» أن يشكلوا أغلبية فيه، وإن كانت الجماعة قادرة على الحشد للتظاهر حول شعارات عامة تدغدغ مشاعر المجتمع المصري المتدين بشكل عام.
المجموعات المدنية هي أسوأ ما في المعادلة المصرية أو حتى العربية، فهي نخب معزولة عن الشارع غارقة حتى الثمالة في التنظير والحكي السياسي كما أنها مختنقة كما الإسلام السياسي بمجموعة من المسلمات النظرية والفكرية، وبالتالي لا يمكن لها في ضمن إمكاناتها الحالية تكوين بديل منافس يزاحم «الإسلام السياسي»، فضلا عن أن يتجاوزه.
المعركة الحقيقية الآن على ساحات الإعلام، وهذا ما تنبه له «الإخوان» والمتعاطفون معهم، فباتوا ينتجون إعلاما مضادا لمحاولة التعمية على ما يجري في الواقع، وفي اعتقادي أن جزءا من التصدي للتحول إلى تجربة ولاية المرشد في نسختها المصرية التي لو نجحت ستكون قابلة للتصدير بسهولة بعد أن تم أخونتها أن يتم فك الارتباط بين «الإخوان» والإسلام السياسي وعموم التجربة الدينية بتجلياتها المختلفة. ومن هنا فإذا كان تسييس «الإخوان» والسلفيين جزءا من أخطاء المرحلة السابقة؛ فإن الوجه الآخر من المعادلة المستحيلة إيجاد بدائل «إسلامية» معتدلة تؤسس لمدنية إسلامية مسنودة بأفكار فقهية رصينة يمكن اقتباسها من التراث الثري جدا الذي نملكه. تخيل لو أن تيارا إسلاميا معتدلا تبنى أطروحات «علي عبد الرازق» في الإسلام وأصول الحكم وحوله إلى صيغة توافقية للقفز على «ولاية المرشد»، أليس هذا أجدى من البكاء على اللبن المسكوب.