حسناء القنيعير
إن التلاقح بين اللغات والتفاعل فيما بينها عبر العصور والأزمان، أمر واقع ومقرر؛ ومسألة التلاقح والتفاعل بين اللغة العربية واللغات الأخرى مسألة ليست وليدة اليوم، إنما تعود إلى العصور الزمنية التي سبقت دعوة الإسلام..
كان العرب في جاهليتهم على اتصال بالأمم المجاورة لهم كالفرس والأحباش والروم والسريان والنبط وغيرهم، ونتج عن هذا الاتصال تبادل لغوي في الكلمات، وهذا أمر طبيعي لأنه من المتعذر أن تظل لغة بمأمن من كل تأثير، فاللغات تقترض بعضها من بعض، وهو ما يعرف في الزمن الراهن بالتلاقح اللغوي، فجرت على ألسنة العرب بعض الألفاظ التي احتاجوا إليها بعد أن نفخوا فيها من روحهم العربية فتلقفها الشعراء والأدباء وأدخلوها في أشعارهم وكتابتهم وصارت جزءاً من الكلمات المتداولة وربما نسوا أصلها، وقد جاء في القرآن أن قريشاً كانت لها رحلتان، رحلة شتاء إلى اليمن في جنوب الجزيرة العربية، ورحلة صيفاً إلى الشام في شمالها، وذلك في قوله تعالى: (لِإِيلَافِ قُرَيْشٍ إِيلَافِهِمْ رِحْلَةَ الشِّتَاءِ وَالصَّيْفِ) وكانت مكة مركزاً عظيماً للتجارة قبل الإسلام، تنقل إليها البضائع من الشرق والغرب والجنوب والشمال.
إن التلاقح بين اللغات والتفاعل فيما بينها عبر العصور والأزمان، أمر واقع ومقرر، ومسألة التلاقح والتفاعل بين اللغة العربية واللغات الأخرى مسألة ليست وليدة اليوم، إنما تعود إلى العصور الزمنية التي سبقت دعوة الإسلام؛ فقوافل العرب التجارية كانت تشد رحالها في الصحراء قاصدة اليمن والحبشة وبلاد فارس، وكثير من الشعراء العرب كانوا يتصلون بحكام تلك البلدان، كاتصال النابغة الذبياني والأعشى بحكام الإمارة الغسانية المتاخمة لبلادهم. وفي هذا يقول السيوطي: «بل كان للعرب العاربة التي نزل القرآن بلغتها بعض مخالطة لسائر الألسنة في أسفارهم، فعلقت من لغاتهم ألفاظ غُير بعضُها بالنقص من حروفها، واستعملتها في أشعارها ومحاوراتها، حتى جرت مجرى العربي الفصيح ووقع بها البيان وعلى هذا الحد نزل بها القرآن».
وعندما نزل القرآن الكريم بلسان العرب، لا غرابة في أن يضم طائفة من تلك الألفاظ، وكان بعض الصحابة والتابعين لا يرون حرجاً عند تصريحهم بذلك، كابن عباس الذي رُوي عنه قوله: «في أحرف كثيرة (من القرآن) إنّه من غير لسان العرب، مثل سجّيل، والمشكاة واليمّ، والطور، وأباريق وإستبرق، وغير ذلك». وسئل عن قوله تعالى: (فَرَّتْ مِنْ قَسْوَرَةٍ) فقال: «هو بالعربية (الأسد) وبالفارسية (شار)، وبالنبطية (اريا)، وبالحبشية (قسورة).
إلا أنّ بعضاً من العلماء أنكروا وقوع ألفاظ أعجمية في القرآن الكريم، وربما ذهب بعضهم إلى تكفير من يقول بذلك، فهذا أبو عبيدة يقول: «من زعم أن في القرآن لساناً سوى العربية فقد أعظم على الله القول». لكن اللغة العربية لغة حية، تأخذ وتعطي كما يأخذ الأحياء ويعطي بعضهم بعضاً، ولا عيب إن دخلت فيها ألفاظ أعجمية، بل إن هذا دليل على قوتها وقدرتها وتمكنها من صهر تلك الألفاظ الأعجمية وتطويعها لإثراء معجمها.
ومما استدل به المنكرون قوله تعالى: «وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ قُرْآناً عَرَبِيّاً». وذهب آخرون إلى الإقرار بوجودها، وتوسط طرف ثالث فتأول وجودها على أنها مشتركة بين العرب وغيرهم، وعلى أن العرب استعملوها وعرَّبوها فصارت تنسب إليهم، لا باعتبار أصلها، بل باعتبار تعريبها واستعمالها.
ويعرّف الجوهري صاحب معجم الصحاح، التعريب بقوله: (تعريب الاسم الأعجمي: أن تتفوه به العرب على منهاجها) أي على طريقتها في الكلام. وأفرد ابن دريد في كتابه الجمهرة باباً بعنوان: (باب ما تكلمت به العرب من كلام العجم حتى صار كاللغة) ومما جاء فيه قوله: «.. فمما أخذوه من الفارسية البستان والبهرجان إلخ…» وعلى هذا فاشتمال القرآن على ألفاظ مأخوذة من اللغات الأخرى؛ كاشتماله على لفظ (المشكاة) وهي لفظة هندية، ومعناها: الكوة، وعلى لفظ (القسطاس) وهي رومية، ومعناها: الميزان، وعلى لفظ (الإستبرق) وهي فارسية، ومعناها: الديباج الغليظ، وعلى لفظ (سجيل) وهي فارسية، ومعناها: الحجر من الطين، وغير ذلك من الكلمات؛ نقول: إن اشتمال القرآن على أمثال هذه الكلمات، لا يخرجه عن كونه نزل (بلسان عربي مبين)؛ لأن هذه الألفاظ قد عُرِّبت، فصارت كلمات عربية، فيكون القرآن مشتملاً على ألفاظ معربة، لا على ألفاظ غير عربية.
إن التعريب في كلام العرب، ظاهرة مقررة عند أهل العربية؛ والتعريب ليس أخذًا للكلمة من اللغات الأخرى كما هي ووضعها في اللغة العربية، بل التعريب هو: أن تصاغ اللفظة الأعجمية بالوزن العربي، فتصبح عربية بعد وضعها على أوزان الألفاظ العربية، وإذا لم توافق أي وزن من أوزان العرب، عدلوا فيها بزيادة حرف، أو بحذف حرف أو حروف، وصاغوها على وزن عربي، وإن استعصى إنزالها على وزن عربي، ظلت محتفظة ببنيتها في لغتها الأصلية، وعند ذلك تسمى دخيلة. وكان العربي يسمع اللفظة وينطقها بعد اخضاعها إلى لهجته وطريقة نطقه كما وعاها، فأدى الاحتكاك إلى استعمال ألفاظ الأمم الأخرى اضطراراً لتسهيل التعامل معهم، مما جعل من المتعذر أن تظل اللغة العربية بمأمن من الاحتكاك والاقتراض من لغات الأمم الأخرى. وقد تضمن الشعر الجاهلي نفسه ألفاظاً معربة من قبل أن ينزل القرآن؛ مثل كلمة (السجنجل) وهي كلمة رومية، ومعناها: المرآة؛ وقد وردت في شعر امرئ القيس، في قوله:
مُهَفْهَفَةٌ بَيْضاءُ غَيْرُ مُفَاضَةٍ
تَرَائِبُها مَصْقُولَةٌ كالسِّجَنْجَلِِ
وكذلك كلمة (الجُمان) وهي الدرة المصوغة من الفضة، وأصلها فارسي، وقد وردت في معلقة لبيد بن ربيعة في قوله:
وَتُضِيءُ في وَجْهِ الظَّلامِ مُنِيرَةً
كَجُمَانَةِ الْبَحْرِيِّ سُلَّ نِظَامُهَا
ومن الأيات التي وردت فيها كلمات معربة قوله تعالى: (اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ) الصراط: رومية، معناها: الطريق. (وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَكُمْ وَرَفَعْنَا فَوْقَكُمُ الطُّور) الطور: سريانية، معناها: الجبل. (أَمْ حَسِبْتَ أَنَّ أَصْحَابَ الْكَهْفِ وَالرَّقِيمِ كَانُوا مِنْ آيَاتِنَا عَجَبًا) الرقيم: رومية، معناها: اللوح. (وَاكْتُبْ لَنَا فِي هَذِهِ الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ إِنَّا هُدْنَا إِلَيْكَ) هدنا: عبرانية، معناها: تبنا ورجعنا.. (يَوْمَ نَطْوِي السَّمَاءَ كَطَيِّ السِّجِلِّ لِلْكُتُبِ) السجل: فارسية، معناها: الكتاب (اللَّهُ نُورُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ مَثَلُ نُورِهِ كَمِشْكَاةٍ فِيهَا مِصْبَاحٌ) المشكاة: حبشية، معناها: الكوة. (كِتَابٌ مَّرْقُومٌ) مرقوم: عبرية، معناها: مكتوب. (يُؤْتِكُمْ كِفْلَيْنِ مِنْ رَحْمَتِهِ) كِفْلين: حبشية، معناها: ضعفين.
* نقلا عن “الرياض”