لا أظن أن السعودي سيواجه مشكلة في مقابل فتوى تحريم تهنئة المسلم غير المسلمين، التي تحرص صحفنا السعودية ومواقع الشبكات العنكبوتية على تنشيطها وتعميمها نهاية العام الميلادي، السعوديون لن يجدوا فيها أي غضاضة وضرر لأنهم غالبية كبيرة تعيش مع أقلية غير مسلمة، بل ومعظمهم يمثلون طبقة من العمال وأصحاب المهن البسيطة التي لا حول لها ولا قوة، وعليها أن تمارس أفراحها وعباداتها بعيداً عن أعين المحيط. لكن الذين سيجدون أنفسهم في ورطة فقهية بالفعل، هم الأقليات المسلمة التي تعيش وسط غالبية مسيحية، وأولهم الطلاب والطالبات المبتعثون والمبتعثات، الذين هدف مشروع الابتعاث إلى تعليمهم القدرة على التعايش واحترام ثقافات الآخرين. سيكون مربكاً أن يجد المبتعثون السعوديون أنفسهم وقد صارت بينهم وبين هؤلاء الناس فتوى تقول «لا يجوز أن تهنئهم ولا تأكل من حلواهم»، بعض المبتعثين يروي أن بعض الأمهات إذا رأينهم في «السوبرماركت» حائرين في شراء بعض منتجات التنظيف وقفن بجانبهم يساعدنهم ويرشدنهم، فهن يدركن أنهم طلاب جدد، للتو خرجوا من بيت عائلة إلى فضاء هذه الاستقلالية، كما أخبرني مبتعث أن صاحب العائلة الأميركية التي عاش بينهم أول فترة دراسته، أخذه في جولة بالسيارة ليدله على مرافق الحي، وأولها المركز الإسلامي، قائلاً: «لا بد أنك مسلم وحريص على صلاتك».
هذا الطالب كيف سيفهم فتوى تقول إنه يجب «ألا تهنئ هؤلاء ولا تأكل حلواهم»؟ ماذا لو أنهم سألوه عن السبب الذي منعه من أكل حلواهم؟ هل يقول لهم إن ديني يمنعني، أم يكذب؟ لكن هذه ليست ذروة الحبكة التي سيتصاعد فيها الحدث، بل ستكون في ما رواه سعودي تزوج والده من أميركية في مطلع حياته فأنجبته، ثم انفصلا، ويقول إنها كلما زارته بعد أن صار أباً ولديه أبناء، فإن مشهداً درامياً يحدث حين تعود طفلته من المدرسة، فهي تبكي وتقبّل يدَي جدتها قائلة: «يا جدتي ستذهبين إلى النار ولن نراك معنا في الجنة».
في نهاية العام الميلادي يحتفل العالم بمناسبتين يحرص الطابع التجاري الذي يستغلهما على تأجيج أفراحهما ومظاهرهما، مما لا يجد معه الإنسان بداً من أن يجد نفسه وسطهما حتى ولو من دون معتقدات المحتفلين، كما تحرص العولمة على جعلهما فرحاً عالمياً، فتنشر أشجار الزينة والهدايا والبطاقات، والألعاب النارية تدوي في سماء كل عام جديد. واحدة من هاتين المناسبتين لها طابع ديني وهي عيد الميلاد، لكن الثانية رأس السنة ليست لها علاقة إلا بطابع العودة، أي أنها سنة تعود كل عام، ويصنع الناس فرحاً في استقبال الجديدة ووداع القديمة، لكن الفتاوى لا تفرق بينهما، فكلهما في سلة واحدة.
صحيح ليس كل الشيوخ يتشددون حيال منع التهاني واحترام أفراح الثقافات الأخرى، لكن الأسماء المتشددة هي التي تشتهر وتبرز حتى أصبح التشدد مطلباً للناس، فلم يعد يطمئنهم إلا من يفتي بفتاوى متشددة، أما من يعتدل ويتوسط فالناس يشكّون في صحة علمه وتقواه. أصبح التشدد حيال ظواهر الحياة المدنية التي لا تشمل العبادات سمة للصالحين، حتى أصبحت معاداة «عيد الشجرة» فعلاً جهادياً، وعيد الشجرة ليس عيداً دينياً، بل يوم حددته المنظمة العالمية للاحتفاء بالشجرة وبالبيئة، وسمّي عيداً لأنه يوم يعود كل عام. ومن طرائف انتقال التشدد من الشيوخ إلى الناس أن روى أحدهم أنه كان طالباً متشدداً وهو صغير، لدرجة أنه وقف في وجه إمام المسجد الذي خطب فيهم عن يوم الشجرة العالمي كي يحث على الاهتمام بالشجرة، وأخذ يعنفه بغضب لأنه تحدث عن عيد الشجرة، بل ظنّ أن تعنيفه لإمام المسجد يعادل كلمة حق في وجه حاكم جائر.
لماذا يميل الناس إلى التشدد؟ هل هي رغبة حقيقية في البحث عن الكمال والتقوى، أم أنها طبائع نفسية وجدت في الثقافة ما يسندها ويزيد وقودها حطباً؟
نقلاً عن صحيفة “الحياة”