رحيل المهندسة ياسمين محمود صبري 1953-2016
عن عمر ناهز الثالثة والستين، فارقت الحياة مساء يوم السبت المصادف التاسع عشر من تشرين الثاني عام 2016 السيدة ياسمين محمود صبري – ملسوم إثر مرض عضال. ولدت الفقيدة في بغداد عام 1953، من أب هو الفنان العراقي المعروف المرحوم محمود صبري ووالدتها السيدة بريسا صبري. أنهت دراستها الأولية في العراق، ثم التحقت بوالدها في منفاه في يراغ العاصمة الجيكية في سبعينيات القرن الماضي لتكمل دراستها في جامعة براغ في علم الحاسوب، وحصلت على درجة الماجستير. وبسبب الظروف الاستثنائية التي واجهت العراق في حكم البعث، اضطرت إلى اللجوء إلى بريطانيا للإقامة والعمل،وباشرت في العمل في إحدى الشركات العاملة في تكنولوجيا المعلومات في بريطانيا. أقترنت بزميلها في العمل السيد كريستوفر ميلسون وأنجبا إينهما البكر الوحيد جوليان (كنعان).
لقد نالت هذه المرأة النبيلة احترام وحب كل من عرفها لما تمتعت من سجايا وخصال انسانية. فقد جمعت كل الصفات الايجابية التي بلورتها الشخصية الإنسانية. فهي الدؤوبة في دراستها وتحقيق مشاريعها المهنية، وهي الجميلة والصافية والرائقة والمتواضعة في علاقاتها مع كل من عاشرها وصادقها، وهي الحريصة على ملأ الدفئ في علاقاتها مع والدها الفنان محمود صبري ووالدتها وأخيها محمد، وانتقل هذا الدفئ إلى عش الزوجية مع زوجها البار كريستوفر ميلسون. وتكاملت هذه الصفات عندما حملت الهموم العراقية حيث عاشت خلال كل حياتها أحلام التنوير والحداثة حلمت بها هي وجيلها، وفي الوقت نفسه شهدت النكبات التي عصفت بهذا البلد العزيز على أيدي قوى الظلام والردة.
أيتها الحبيبة ياسمين، لقد فقدناك مبكراً، ولكن ذكراك وبسماتك الجميلة التي لم تبرح وجهك النيّر ستبقى ماثلة على الدوام في ذاكرة عائلتك الكريمة ووجدانها. وستبقى روحك وشخصيتك مصدر إلهام لكل من عرفك ومد يد الصداقة والعشرة معك. نامي قريرة العين في مثواك الأخير، ولك منا كل الحب والمودة.
19/11/2016 أصدقاء ومعارف الفقيدة
الساعة الثانية والنصف بعد الظهر المصادف الثاني من كانون الأول (ديسمير) 2016
مقبرة بريويك، ميدنهيد – انجلتره
الكلمة ألقاها السيد جيمس فيكرز
“مساء الخير وأهلاً وسهلاً بكم. لقد اجتمعنا اليوم لكي نودع ونحتفي بحياة شخص، حياة ياسمين ميلسون. بالنيابة عن عائلة ياسمين، اتوجه بالشكر لحضوركم اليوم ولتعاطفكم ومشاعر السلوان ورسائل التعزية.
أسمي جيمس فيكرز، ولي الشرف والسعادة أن أحيي هذه المراسيم. يمكنكم الحديث فقط عن الحياة، ولكن بالنسبة لكم اليوم فإنكم جميعاً جزء من القصة الحقيقية لحياة ياسمين وعائلتها المحببة وأصدقائها الطيبين الذين يتعاونون لاستكمال حياتها. أود بهذه المناسبة أن أقدم أنيسة ، صديق طفولة ياسمين لرثائها”:
“عزيزتي ياسمين
نقف جميعاً اليوم لنودعك ياأعز صديقاتي ونقول وداعاً
لقد تعرفنا على بعض منذ نعومة أظفارنا في بغداد، كان ابوينا صديقان حميمان، ولهما سوية تاريخ حافل في ذلك الزمن الجميل عندما كانت الحياة أكثر لطفاً. ويسعدني ويشرفني إنني كنت واحدة من صديقاتك.
إن كل ما نعبر عنه ليس كافياً بحقك. كنت سعيدة جداً بصداقتك، فقد كنت كريمة على مختلف الصعد، وكنت دوماً على أهبة الاستعداد لمد يد المساعدة لي ومشاركتي في السراء والضراء. سيتغير مجرى الحياة بعد رحيلك. إن رحيلك يشكل خسارة لكل من عرفك، وسوف لا ننساك، وستكونين على الدوام ماثلة في قلوبنا.
لقد خلدت إلى الراحة الآن، علماً أنك كنت في غاية الشجاعة والصبر ورباطة الجأش في صراعك مع هذا المرض. وآن الأوان كي تخلدي إلى الراحة، فلم يعد هناك حاجة لخوض الصراع، ولترقدي بسلام في مثواك الأخير”.
أنيسة التكمجي
ثم أخذ الكلمة السيد جيمز فيكرز ليستكمل خطابه قائلاً:
“ولدت ياسمين وترعرعت في بغداد، ولكنها التحقت بوالدها في مطلع السبعينيات في جمهورية الجيك. ولم يقف أي مانع أمام تحقيق أحلامها ومشاعرها، فدرست ياسمين لتحصل على درجة الماجستير في مادة التحكم الآلي التقني دون أن تنسى انها تدرس المادة بلغة جديدة… وفي أجواء ثقافية جديدة.
ثم شدت الرحال إلى انجلتره في بداية الثمانينيات للبحث عن آفاق جديدة، وحصلت على عمل في شركة الحوسبة الانجليزية
(ICL)
وهذا ما حدث.
1
وهنا التقت ياسمين لأول مع من سيصبح الحب المطلق وشريك حياتها وزوجها المقبل كريستوفر، وذلك في عام 1982. وقد تم تعيين كريستوفر كي يوضح لياسمين خبايا العمل ضمن فريق تطوير البرمجة…. وتبين من دون أي شك أنه أفضل تعيين قد حصل عليه، رغم أنه كان بطيئاً قدراً ما في هضم الحالة. ولكن ثقة ياسمين كانت وراء اتخاذ القرار المناسب، أي أن تقترن بالرجل المناسب لها.
تم عقد قران كريستوفر بياسمين في مكتب تسجيل عقد الزواج في مدينة ميدنهيد في 29 من تشرين الثاني/ نوفمبر في حفلة استقبال بهيجة ضمت العائلة والأصدقاء في فندق ريفيرا…وكان يوماً رائعاً. وفي الرابع من كانون الثاني عام 1999 أحتفلت ياسمين وكريستوفر بيوم رائع آخر وقد اكتمل زواجهما عندما بوركا بولادة ابنهما العزيز جوليان الذي يرسل هذه الرسالة لوالدته: إن لمن الصعب أن أنتقي الكلمات كي أعبر عن معنى ومدى فقدانك. ولكن الحزن على فقدانك هو شاحب عند المقارنة مع السعادة التي قمت بتوفيرها خلال كل تلك السنوات.
كانت ياسمين على الدوام تحقق انجازات رفيعة، سواء في محيط العائلة أو في حياتها المهنية. فقد أسست شركتها الخاصة في عام 2011 لتقديم الخدمات الاستشارية والإدارة الانتاجية، علاوة على كونها تجيد بطلاقة اللغة الانجليزية والعربية والجيكية. وفي محيط العمل، كانت ياسمين فريدة في الإدارة وكسب الأصدقاء، وليس الأعداء. كانت تتمتع بالمعرفة والمهارة والثقة والشخصية التي جعلتها ببساطة مصدر اشعاع. وأصبح زملاؤها وزبائنها أصدقاءاً لها تماماً كأصدقاء طفولتها، فالولاء كان في أوجه. وقد تم ترشيح ياسمين ” لجائزة الملكة في الصناعة” من قبل فريق العمل في شركة
ICL
، هذه الجائزة التي كانت تعني الكثير بالنسبة لياسمين، إذ كانت تدرك أن رأي الفريق كان بمثابة شرف رفيع لها كالفوز بهذه الجائزة.
تمتعت ياسمين بموقف انساني تجاه العمل والحياة، فالطابع المحبب الذي نما منذ نعومة أظفارها بقي ملازماً لها طوال سنوات حياتها. وقد أخبرتني صديقة الطفولة سوزان …: كانت الشابة ياسمين محبوبة ونشطة وواثقة. كانت “محبوبة” بكل ما تعنيه هذه الكلمة. كان جمالها كطفلة يشع بابتسامتها الساحرة التي لا تخبو. وتميزت ياسمين بإيجابية لا يمكن أن تتلاشى في كل مظاهر الحياة، فالجانب الناصع كان الجانب الوحيد. كانت متواضعة ولها قدرة طبيعية على التحدث إلى الناس، والأكثر من ذلك الاستماع إليهم. وتستطرد سوزان قائلة: لم تكن ياسمين صديقة فحسب، بل كانت أكثر من أخت يمكن الحديث معها بثقة واطمئنان. وتتذكر سوزان بابتسامة ذلك ” الترحيب الكبير” الذي تستقبلنا به على الدوام.
2
إذا ما تلقى زوجها من ياسمين نداءاً تلفونياً، فإنهما يتبادلان الحديث لمدة 15 دقيقة على الأقل قبل أن تلقي سوزان نظرة عليها، ولا استطيع التأكد بما فيه الكفاية مدى الحب الذي تكنه أبنة سوزان وابنها لياسمين. وعبرت سوزان من صميم قلبها بأن ياسمين كانت ببساطة سيدة جميلة، واحدة من مليون سيدة، يمكن التعويل عليها كصديقة حقيقية طوال حياتك. وكانت ياسمين واحدة من تينك الصديقات الحقيقيات.
وتورد نداء هذه الكلمات النابعة من القلب:
( كنت وياسمين جارين في عام 1954 حيث انتصب داران في شارعنا. كنا نذهب سوية إلى نفس حضانة الأطفال في عام 1957، واستمتعنا سوية بطفولة رائعة حيث كنا نلعب في الجنينة ونركب الدراجات في الشارع ونتمشى صوب بائع المواد الغذائية ومحلات بيع الحلويات ونتبادل القشب عن الجيران الجديد. كانت محبوبة من قبل والدي واقربائنا، وكنت على معرفة بوالديها. في خلال فترة المراهقة، درسنا سوية وهنا أتذكر حادث مميز. ففي أحد أيام الصيف قررنا أن نمارس مهنة الخياطة. فقمنا بخياطة بدلتين متشابهتي الطراز والألوان وارتديناها كتؤامين، وكنا نلقي النظر صوب جميع الناس وعلى وجهم الحيرة والدهشة ونحن نسير إلى جانبهم. درست كلتانا الكومبيوتر، ومارسنا نفس المهنة عندما بلغنا سن الرشد. لم تتوقف مداولاتنا أبداً طوال تلك الأيام. وشاء القدر أن نصل إلى انجلتره في العام نفسه ..عام 1980. وهنا في انجلتره وعندما كنا نلتقي نستعيد الماضي السعيد خلال تبادل الحديث، وأتذكر دائماً يوم زفافها. كانت تتوهج بالفرح والسعادة تماماً عندما جاء دوري بالزواج. ستبقى ابتسامتها العريضة في قلبي وسنفتقدها إلى حد كبير….. نداء.
كما أود أن أشارككم بالكلمات التي عبر عنها كريستوفر قائلاً…. لقد وجدت حبيبتي، وأكثر من ذلك عثرت على زميلة متكاملة، الابتسامة دائماً على محياها والحنين دائماً، وكانت ترعى على الدوام مشاعر الآخرين… ولكنها في منتهى الشجاعة في مواجهة الشدائد وقوية ومصممة ومفعمة بالأمل. كان اليوم الذي قبلت اقتراحي بالزواج هو أسعد أيام حياتي. أنت غالية جداً بالنسبة لي، ولابننا جوليان وعائلتنا، وبالطبع لاصدقاؤك الكثيرون ، والبعض منها تعرف عليك منذ أوان مرحاة الحضانة. انت شهادة في الحب الذي أعطيته لكل من حولك. كانت آخر كلماتك لي هي أنني عشت أوقاتاً رائعة. إن الحاضرون معنا اليوم كان لهم ضلع في تبلور خصالك.
لقد رحلتِ عنّا في عزِّ شبابك، واعتقد أن من يقف في الأعالي لديه مخطط أكبر لك يتجاوز حاجاتنا هنا في الأسفل. وعندما نلقي كلمة الوداع في هذا العالم فإن وداع عظيم.
أنه الحزن، ولكن في الوقت نفسه مشفوع بالفرحة الغامرة بمباركة وجودكم، حيث تجلبون معكم الكثير من الضياء والحب والطاقة لحياتنا. إن وجود مثل هذه الاشعاع على الأرض هو حالة نادرة في الواقع. فرغم رحيل هذا الضياء، إلاّ أنه سيبقى حتى الأزل شعلة في قلوبنا ….وهكذا، وإذ أودع حبي، فسألتقي بك من جديد في الحياة التالية. أحلام حلوة أيتها الحبيبة، أنت تستحقين الأسمى حيثما تذهبين. ستبقي إلى الأبد في ثنايا قلبي….. زوجك المحب أبداً كريستوفر.
3
سوف لا أسهب في الحديث عن مرض ياسمين، ولكنني سوف أعرب عن تبجيلي لعزمها الراسخ وقوتها وشجاعتها خلال تلك الفترة. فلم تنهار شخصيتها. فما الذي دفعها للابتسامة والضحك والحب كما كان في السابق. إن شجاعة ياسمين وإرادتها في البحث عن طريق جديد لهو مثال نحتذي به جميعاً.
من المحزن أن ترحل ياسمين في التاسع عشر من تشرين الثاني/ نوفمبر عن عمر يناهز الثالثة والستين ربيعاً. سنفتقدها بمرارة وسنتذكرها باعتزاز، ليس من قبل زوجها الحبيب وابنها البار وأمها وأخيها…، بل من قبل كل من يعتز بصداقتها . لقد أغنت ياسمين كل حياتكم، تذكروها دائماً وتذكروها جيداً.
ومع اقتراب نهاية المراسيم، أسمحوا لي أن أذكركم بأن العائلة ستكون مسرورة أذا استطعتم مشاركتنا بع المراسيم في فندق هوليدي إن حيث سيتسنى لكم الكشاركة بأفكاركم وذكرياتكم حول هذه المرأة المثالية بحق.
ترتيل
أيها الأقرباء والأصدقاء، حان الوقت كي نؤدي الوداع الأخير، وأن نشكر بحق للحياة التي أحييناها، والصداقة المشتركة والحب الذي لا يخبو، ولنستعيض مباشرة عن كل دمعة ذرفت في الحزن تستعاظ بالذكرى الدافئة والابتسامة. أحفظوا ياسمين في وجدانكم وستكون على الدوام معكم، أحفظوها في ثنايا قلوبكم وستبقى تحبكم إلى الأبد. ياسمين ….أرقدي بسلام ، وأعلمي بأنك لا تتركين أي شيء ورائك سوى الذكريات الطيبة والحب في قلوب الكثيرين”.