إنه وقت العودة للبيت،لهفة اعتيادية تغمر الطريق والأقدام تعرف الحافلات وسائقيها وركابها .
يسأل الفتى سائق الباص عن وجهته،هو في حدود الحادية عشرة ولايعرف القراءة..جيل كامل وربما أجيال ممن داهمتها الحرب بلا تعليم..
التسوق في حدوده القصوى لاستقبال رمضان..عروض كثيرة تغرق في إغواء السعر والمكونات والتسوق مرتبط بالحاجة الماسة لأطباق معتدلة السعر وترضي الجميع..عروض على الأرصفة دونما حماية من الشمس أو الغبار، دونما رقابة على الأسعار أو تاريخ الصنع والصلاحية..
زوجة منقبة تسأل زوجها عن لون المنشفة التي اشتراها فيجيب بيضاء مائلة للاحمرار مثلك تماما..فتضحك ويضحك زوجها معها وتتحول ألوان جلبابها ونقابها الأسودين إلى اللون الأحمر أيضا..لا شيئ يعيق الغزل في وضح النهار وبأبسط أشكال الغواية، مجرد اطراء وإشارة دافئة للون الوجه ويمتلئ المكان صخبا..
فتيات تائهات يسألن عن مكتبة لتصوير نوطات جامعية للامتحان وأخرى تتشاجر على الهاتف مع والدتها وتقول لها ها أنذا عائدة ومعي سمر وهي تعرف كيف ترد على شكوكك
…
رجال بأكياس شحيحة المضمون وازدحام اعتيادي على الصرافات..ازدحام مغمور بالخيبة دوما..فجأة تنتهي الأوراق المالية، فجأة يبتلع الصراف بطاقة أحدهم، فجأة يغرق الصراف بالعتمة أو بالخرس…
كما يعود الجميع متعبين إلى بيوتهم..تتوسل المدينة أن تعود معهم أيضا، أن تختبئ من تفاصيلها وتنام..أن ترتفع درجة الهمس ويختلف توقيت التعب…
طفل يحمل صوص في يده وطفلة تبكي خوفا منه..امرأة تطلب من شاب الوقوف لتجلس مكانه في الباص المزدحم فيعتذر بخجل حقيقي لأنه مصاب في فخذه..وامرأة ولدت حديثا وابنتها تبكي في حضنها تتوسل رجلا للجلوس على المقعد الجانبي لتتمكن من الجلوس في مقعد طبيعي!
هل ثمة مقعد طبيعي وآخر عكس ذلك؟ هنا المشكلة..لأن غير الطبيعي هو المتوفر بكثرة..مجرد قطعة من الخشب..حرام صوفي عتيق..طرف دولاب ..او عتبة حديدية ناخزة…
والمدينة كانت ترافقنا في الحافلة المهترئة..في الباص الكبير والتائه بجغرافيا الحواجز والزحام…
لا ظل للمدينة ولا لأهلها..كلنا غارق في وضوح وجعه واغترابه..وكم تبدو العودة للبيت ساحرة ودافئة رغم الوهم الخالص والكامن في حقيقة وجود البيت من عدمه…
هي المدينة ونحن مجرد سحب من عوادم الباصات والحافلات المهترئة والتائهة.