بقلم د. توفيق حميد/
ابتدع فقهاء الخلافة الإسلامية ما أسموه بـ”المعلوم من الدين بالضرورة” أو “ما أجمعت عليه الأمة”، وذلك للسيطرة على عقول البشر وإرهابهم فكريا، فلا يفكرون ولو للحظة في الاعتراض عليهم ـ لأن عاقبة ذلك عند هؤلاء الفقهاء هو اعتبار ذلك المعترض “مرتدا” ومن ثم إقامة “حد الردة” المزعوم عليه.
والغريب في هذا الأمر أن تعبير “معلوم من الدين بالضرورة” أو “ما أجمعت عليه الأمة” لم يرد أي منهما ولو مرة واحدة في القرآن!
بل على العكس تماما فإن القرآن الكريم اعتبر أن اتباع الأغلبية غالبا ما يؤدى إلى ضلال فقال تعالى “وَإِن تُطِعْ أَكْثَرَ مَن فِي الْأَرْضِ يُضِلُّوكَ عَن سَبِيلِ اللَّهِ ۚ ” (سورة الأنعام 116).
فإجماع الغالبية أو الأكثرية أو الأمة ليس دليلا على الحق أو الهداية في عرف القرآن، بل هو أقرب إلى الضلال منه إلى الهداية.
ولا يقف الأمر هنا فحسب، بل إن آيات القران الكريم نفسه تنقض وتنكر ما أسماه هؤلاء الفقهاء “معلوم من الدين بالضرورة”.
وإليكم بعض الأمثلة على ذلك:
• المثل الأول:
يؤمن كثير من الفقهاء أن “حد الردة” معلوم من الدين بالضرورة، وأن منكره كافر أو مرتد، في حين أن القرآن الكريم يقول بعكس ذلك تماما كما في الآيتين التاليتين “لاَ إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَد تَّبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ” (سورة البقرة 256) و”وَقُلِ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنْ شَاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شَاءَ فَلْيَكْفُرْ” (سورة الكهف 29).
فهل يا ترى نتبع في هذا الأمر “إجماع الأمة” أم نتبع القرآن؟!
• المثل الثاني:
يرى كثيرون أن “رجم” الزانية المحصنة هو حد من حدود الله وأن إنكار ذلك ردة عن الدين، ولا يسعني هنا إلا أن أقول إن القرآن الكريم لم يكتف فقط بعدم ذكر هذه العقوبة بل وتناقض معها أيضا. فعلى سبيل المثال، أقر القرآن أن الأَمة (مفرد إماء) التي تتزوج يكون عليها نصف ما على المرأة الحرة المتزوجة من العقوبة في حالة الزنا كما جاء في قوله تعالى “فَإِذَا أُحْصِنَّ فَإِنْ أَتَيْنَ بِفَاحِشَةٍ فَعَلَيْهِنَّ نِصْفُ مَا عَلَى الْمُحْصَنَاتِ مِنَ الْعَذَابِ” (سورة النساء 25).
فيا ترى كيف يتم تنصيف الموت إن كان الرجم حتى الموت هو العقوبة المفروضة على الزانية المحصنة كما روى البخاري؟
• المثل الثالث:
يؤمن كثيرون أن الرسول عليه السلام سيشفع لأمته يوم القيامة، وليس هناك رد أبلغ من رد القرآن على قضية الشفاعة يوم الدين، فقال الرحمن في كتابه العزيز “يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَنفِقُوا مِمَّا رَزَقْنَاكُم مِّن قَبْلِ أَن يَأْتِيَ يَوْمٌ لَّا بَيْعٌ فِيهِ وَلَا خُلَّةٌ وَلَا شَفَاعَةٌ ۗ” (سورة البقرة 254).
ويستخدم كثيرون آية “مَن ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِندَهُ إِلَّا بِإِذْنِهِ ۚ ” (سورة البقرة 255) كحجة على وجود “شفاعة” يوم القيامة، في حين أن هذه “الشفاعة” مرهونة بأن يأذن الله بذلك، وهو سبحانه الذي وضح في آيات أخرى أن لا شفاعة لبشر يوم الدين “أَمِ اتَّخَذُوا مِن دُونِ اللَّهِ شُفَعَاءَ ۚ قُلْ أَوَلَوْ كَانُوا لَا يَمْلِكُونَ شَيْئًا وَلَا يَعْقِلُونَ ـ قُل لِّلَّهِ الشَّفَاعَةُ جَمِيعًا ۖ لَّهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ ۖ ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ” (سورة الزمر 43 ـ 44).
• المثل الرابع:
يرى كثيرون أن كتب الأحاديث أو ما يسمونه بالسنة مكملة للقرآن وتبيانا له، وأن الدين لا يكتمل إلا بها، في حين أن القرآن ذكر بوضوح أنه لا يحتاج إلى كتب أخرى، وأن الدين مكتمل فيه وليس ناقصا كما يدعون، فقال جل وعلا “مَّا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِن شَيْءٍ ۚ” (سورة الأنعام 38) وقال “وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِّكُلِّ شَيْءٍ” (سورة النحل 89) وقال “أَوَلَمْ يَكْفِهِمْ أَنَّا أَنزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ يُتْلَىٰ عَلَيْهِمْ ۚ” (سورة العنكبوت 51) وقال “أَفَغَيْرَ اللَّهِ أَبْتَغِي حَكَمًا وَهُوَ الَّذِي أَنزَلَ إِلَيْكُمُ الْكِتَابَ مُفَصَّلًا ۚ” (سورة الأنعام 114).
• المثل الخامس:
تقر كتب الشريعة المعتمدة ـ والتي تناقض القرآن ـ وبدون استثناء أن “الجهاد” أو إعلان القتال لنشر الدين فرض على الأمة الإسلامية أو على المسلمين، وهنا يقف القرآن في مواجهة صريحة ضد هذا المفهوم الدموي فيقول بدون مواربة “وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ وَلَا تَعْتَدُوا ۚ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ” (سورة البقرة 190).
• المثل السادس:
يرى كثيرون أن “الحج عرفة” أي أنهم يحددون يوما معينا لإتمام الحج، فإن لم يتم الحج في ذلك اليوم يبطل حج الإنسان. وعلى عكس ما يؤمن به هؤلاء، فإن القرآن ترك مجالا للتعجيل أو للتأخير عن هذا الموعد، فقال تعالى في الحج “فَمَن تَعَجَّلَ فِي يَوْمَيْنِ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ وَمَن تَأَخَّرَ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ ۚ لِمَنِ اتَّقَىٰ ۗ ” (سورة البقرة 203) ثم أعطى مجالا أكبر لمدة الحج فقال “الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَّعْلُومَاتٌ ۚ فَمَن فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ فَلَا رَفَثَ وَلَا فُسُوقَ وَلَا جِدَالَ فِي الْحَجِّ ۗ ” (سورة البقرة 197).
• المثل السابع:
يؤمن كثيرون أن عليهم أن يؤدوا بعض ركعات الصلاة “جهرا” أو بصوت عال أو “سرا” أي بدون أي صوت، وموقف القرآن من ذلك ـ وليس موقفي أنا ـ واضح في قوله تعال “وَلَا تَجْهَرْ بِصَلَاتِكَ وَلَا تُخَافِتْ بِهَا وَابْتَغِ بَيْنَ ذَٰلِكَ سَبِيلًا” (سورة الإسراء 110).
• المثل الثامن:
يؤمن كثيرون أن الصلوات الخمس نزلت على الرسول “كاملة” في يوم الإسراء والمعراج، في حين أن سورة الإسراء التي ذكر فيها حادثة المعراج هي سورة مكية، وأن آيات الوضوء ـ على سبيل المثال هي آيات مدنية أي أن المسلمين الأوائل طبقا لهؤلاء ـ كانوا يصلون بدون وضوء على الإطلاق لعدة سنين.
• المثل التاسع:
يوجد إيمان راسخ عند كثيرين بأن شهادة المرأة هي نصف شهادة الرجل لأن القرآن ذكر ذلك في موقف محدد ـ يطول شرح ظروفه هنا ـ وهو حالة الدين (القرض المالي) “وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِن رِّجَالِكُمْ ۖ فَإِن لَّمْ يَكُونَا رَجُلَيْنِ فَرَجُلٌ وَامْرَأَتَانِ مِمَّن تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَدَاءِ أَن تَضِلَّ إِحْدَاهُمَا فَتُذَكِّرَ إِحْدَاهُمَا الْأُخْرَىٰ ۚ ” (سورة البقرة 282).
ونسي أو تناسى هؤلاء أن القرآن جعل شهادة المرأة أعلى قدرا من شهادة الرجل في مواقف أكثر أهمية مثل اتهام زوج لزوجته بالزنا، وفي هذه الحالة فإنها إن شهدت خمس شهادات أنها بريئة وشهد هو خمس شهادات أنها أجرمت فإن شهادتها تكون أعلى من شهادته ويؤخذ بها!
“وَالَّذِينَ يَرْمُونَ أَزْوَاجَهُمْ وَلَمْ يَكُن لَّهُمْ شُهَدَاءُ إِلَّا أَنفُسُهُمْ فَشَهَادَةُ أَحَدِهِمْ أَرْبَعُ شَهَادَاتٍ بِاللَّهِ ۙ إِنَّهُ لَمِنَ الصَّادِقِينَ وَالْخَامِسَةُ أَنَّ لَعْنَتَ اللَّهِ عَلَيْهِ إِن كَانَ مِنَ الْكَاذِبِينَ وَيَدْرَأُ عَنْهَا الْعَذَابَ أَن تَشْهَدَ أَرْبَعَ شَهَادَاتٍ بِاللَّهِ ۙ إِنَّهُ لَمِنَ الْكَاذِبِينَ وَالْخَامِسَةَ أَنَّ غَضَبَ اللَّهِ عَلَيْهَا إِن كَانَ مِنَ الصَّادِقِينَ” (سورة النور 6 ـ 8)
أي أن المفهوم السائد بأن شهادة المرأة أقل من شهادة الرجل هو مفهوم قاصر وليس دقيقا.
• المثل العاشر:
يرى كثيرون أن الرسول عليه السلام ذكر أسماء عشرة من الصحابة “مبشرين بالجنة”، والحقيقة أن القرآن أقر موقف الرسول في أمر مثل هذا فقال للرسول بالحرف الواحد ليقول للناس “وَمَا أَدْرِي مَا يُفْعَلُ بِي وَلَا بِكُمْ ۖ ” (سورة الأحقاف 9).
فهل جاءنا القرآن بدين جديد ينكر “المعلوم من الدين بالضرورة”، ويتعارض مع “إجماع الأمة” ويا ترى من نتبع في هذه الحالة؟!
شبكة الشرق الأوسط للإرسال